إعلان حقوق الإنسان1
فاتحة
القسم الأول: الثورة الفرنسية الكبرى
الفكر وعامله في الثورة
مجاري الثورة إلى الشرق
الأدباء والمفكرون العرب أمام الثورة
تياران يتفاعلان
القسم الثاني: نصوص مختارة
الأمير حيدر الشهابي (1761-1835)
أحمد فارس الشدياق (1801-1887)
رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290ه)
نوفل نعمة الله الطرابلسي (1812-1887)
فرنسيس فتح الله المراش (1836-1873)
جمال الدين الأفغاني (1839-1897)
الدكتور شاكر الخوري (1847-1911)
عبد الله النديم (1261-1314ه)
عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902)
شبلي الشميل (1853-1917)
أديب إسحاق (1856-1885)
حسين باشا
روحي الخالدي (1864-؟)1
المطران يوسف الدبس (1833-1907)
ولي الدين يكن (1873-1931)
فرح أنطون (1874-1922)
مصطفى كامل باشا (1874-1908)
أمين البستاني (1854-1937)
أمين الريحاني (1876-1940)
الشيخ رشيد رضا (1865-1935)
مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924)
جبران خليل جبران (1883-1931)
كتاب محاكمة مدحت باشا
محمد كرد علي
يوسف جرجس زخم
الدكتور أيوب تابت
عبد الرحمن عزام1
محمد جميل بيهم
الشيخ مصطفى الغلاييني1
القسم الثالث: ملحق شعري
إلياس صالح (1870-1895)
أحمد شوقي (1868-1932)
خليل مطران
جميل صدقي الزهاوي (؟-1936)
معروف الرصافي
بشارة الخوري
إلياس أبو شبكة
خاتمة
أهم مراجع الكتاب
إعلان حقوق الإنسان1
فاتحة
القسم الأول: الثورة الفرنسية الكبرى
الفكر وعامله في الثورة
مجاري الثورة إلى الشرق
الأدباء والمفكرون العرب أمام الثورة
تياران يتفاعلان
القسم الثاني: نصوص مختارة
الأمير حيدر الشهابي (1761-1835)
أحمد فارس الشدياق (1801-1887)
رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290ه)
نوفل نعمة الله الطرابلسي (1812-1887)
فرنسيس فتح الله المراش (1836-1873)
جمال الدين الأفغاني (1839-1897)
الدكتور شاكر الخوري (1847-1911)
عبد الله النديم (1261-1314ه)
عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902)
شبلي الشميل (1853-1917)
أديب إسحاق (1856-1885)
حسين باشا
روحي الخالدي (1864-؟)1
المطران يوسف الدبس (1833-1907)
ولي الدين يكن (1873-1931)
فرح أنطون (1874-1922)
مصطفى كامل باشا (1874-1908)
أمين البستاني (1854-1937)
أمين الريحاني (1876-1940)
الشيخ رشيد رضا (1865-1935)
مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924)
جبران خليل جبران (1883-1931)
كتاب محاكمة مدحت باشا
محمد كرد علي
يوسف جرجس زخم
الدكتور أيوب تابت
عبد الرحمن عزام1
محمد جميل بيهم
الشيخ مصطفى الغلاييني1
القسم الثالث: ملحق شعري
إلياس صالح (1870-1895)
أحمد شوقي (1868-1932)
خليل مطران
جميل صدقي الزهاوي (؟-1936)
معروف الرصافي
بشارة الخوري
إلياس أبو شبكة
خاتمة
أهم مراجع الكتاب
الفكر العربي الحديث
الفكر العربي الحديث
أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
تأليف
رئيف خوري
مقدمة
بقلم عمر فاخوري «يا عدو التاريخ!» بهذه الصيحة تلقيت ، ذات مساء، صديقنا رئيف خوري، لست أذكر لأي مناسبة، لكن أكبر الظن أني رأيته يومذاك يشن إحدى غاراته العنيفة، الموفقة، على جزء من التاريخ، أو على بعض أنواعه؛ فرد علي بابتسامته الطلقة الصريحة التي لا يعوزها من القهقهة غير الصوت ... إن ابتسامة رئيف خوري هي «عنوان» الصحة التي يتمتع بها في جسمه وروحه على السواء، تلك العافية السابغة التي لا تفتأ تنعكس متضاعفة متزايدة، من أحدهما على الآخر، حتى ليس يعلم أيهما الأوفر ربحا أو الأكثر غنيمة. على أني لم أعرف فتى أعظم من رئيف خوري إنفاقا مما رزقه الله ...
ومن قبيل العافية أيضا ما راض عليه رئيف خوري نفسه من ألا يقبل شيئا «على علاته». أعني أنه «يصحح» كل ما يسمع ويشهد من أقوال ووقائع؛ فهو يترجمها رأسا، دون تقاعس أو التواء، في لغة الحقيقة التي يجيدها قراءة وكتابة، فكرا وعملا. وليس لهذه الحقيقة عنده إلا خصمان لا ثالث لهما (لكن لله، ما أضخم جيشيهما!): سوء النية وسوء الفهم. الحقيقة الأخيرة، لا النهاية «الخيرة»؛ بمعنى المحصل الحسابي لوجوه المسألة المتعددة، ولظروفها الملازمة لها، ولأطوارها المتعاقبة التي لا تتغاير تماما، كما أنها لا تتشابه تماما، أما «النهائي» فليس له، مع الحياة والصيرورة، وجود. «يا عدو التاريخ!» لقد صحت بها حقا، لكن لو أتاني الآن من يزعم أني إذ قلتها أسمعت أيضا كرجع الصدى: «يا عدو نفسه!» لم أتهم أذنه ولا ذهنه. إن أكبر شطري التاريخ أسماء تود لو تنسى، وأحداث تريد أن تضيع، بقدر ما يحتمل «الكون» ضياعا أو يصبر على خسارة؛ فلا جرم أن رئيف خوري يخال نفسه موكلا بصديقه التاريخ، يساعده على طرح بعض أعبائه، لإنقاذ السفينة من الغرق. إن صداقة رئيف خوري والتاريخ لمن ذلك النوع الجيد الذي أرسلت في مدحه الأمثال: «صديقك من صدقك، لا من صدقك.»
لقد أولع رئيف خوري زمنا بنظم السلسلة الذهبية التي تجمع بين طرفيها «تقليدنا الثوري التحرري» منذ المحاولات الأولى، فطفق يبحث جادا في كتب التاريخ والأدب العربية عن الحلقات الضائعة من ذلك «التراث الإنساني النفيس»، وكان كل مرة يرجع مثقلا ، كالنحلة، مما اختاره من كلام مأثور وصنيع مشكور. وفي النادر ما كان يقف من التاريخ على إطلالة حيث تطن النحلة كما يطن الذباب، إنما لا يجني ما يجنيه النحل.
ولعل أطول وقفة لرئيف خوري على أطلال التاريخ هذه الفصول التي عقدها حول «الفكر العربي الحديث»، وكيف تم لقاحه بمبادئ «الثورة الفرنسية». سوى أننا نظلم المؤلف إذا نحن لم نسلم، عن طيب خاطر، بأن أكثر تمهله وتأمله هو في الأمكنة الطيبة بين رسوم دوارس: زهرة هنا لا تزال متألقة تضوع، وبقية أرج هناك من جنينة مفقودة. وكأي من أسماء منسية يذكرها، وصحائف مطوية ينشرها؛ تلك هي خطته في «الإنقاذ التاريخي» التي لم يحد عنها، لكنه اليوم يجري عليها عكسا لا طردا؛ إذ يعمل على أن يستنقذ «من» السفينة بعض حمولتها الثمينة، ثم يترك المركب لمصيره.
ونضرب لك مثلا لتنظر كيف «يعامل» رئيف خوري طائفة من الأخبار التي يكفي أن تتواتر حتى تصير «تاريخا»؛ يقص المؤلف فيما يقصه علينا نبأ المفاوضة بين العرب والفرس قبل القادسية الحاسمة؛ ففي رواية أن المفاوض العربي كان المغيرة بن شعبة؛ من معارف التاريخ، وفي رواية أخرى أن المفاوض كان إنسانا يدعى زهرة؛ من نكراته. ليس بمستبعد أن يكون ثمة مفاوضان، أو مفاوض وترجمانه، لكن هذا يهم التحقيق التاريخي (أو الاصطلاحي) وحده، أما «الحقيقة الإنسانية» فهي في كلتا الروايتين على السواء: في أولاهما يسمع رستم، قائد الفرس، كلاما من زهرة: «إن الدين الجديد (أي الإسلام) يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.» وهي عبارة تحمل على الظن بأنها مترجمة عن الفارسية، فيحتج رستم بأن «أهل فارس، منذ ولي أردشير، لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، وكانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم.» أما في الرواية الأخرى فيسمع أشراف الفرس كلاما من المغيرة بن شعبة: «إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا ... كان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ... اليوم علمت أنكم مغلوبون؛ إن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا هذه العقول.» فيتهامس الأشراف قائلين: «والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون - أي يميلون - إليه.» ويقول رئيف خوري: «إن معنى هذا في لغة علم الاجتماع الحديث أن النظام الاجتماعي الفارسي كان نظاما يقسم السفلة (أي جماهير الشعب) إلى طوائف، يلتزم كل فرد طائفته التي ولد فيها ووضعه الاجتماعي؛ لا حق له أن يتزحزح عنه؛ فهو فلاح قن مثلا، يكون ابنه فلاحا قنا أيضا، وهو محترف عمل الأحذية مثلا، يكون ابنه محترفا عمل الأحذية أيضا ... إن هذا الدين الجديد لن يقبل بنظام اجتماعي إقطاعي متحجر كالنظام الفارسي، ولن يقر الأوتوقراطية الفارسية ويلقي الحبل على الغارب للأشراف والدهاقين.» وهكذا نرى رئيف خوري، الذي يسمي «الأخبار» عن المفاوضة بين العرب والفرس «محاضر»، توكيدا لصحتها رغم كل الظواهر، يرسل على الناحية «الثورية التقدمية» في الإسلام نورا كاشفا. إن المفاوض العربي - كيفما تسمى - كان، في الحقيقة التي تهم التاريخ الإنساني، واحدا، كما أن المفاوض الفارسي كان واحدا في تلك الحقيقة أيضا؛ لأن الحوار الذي استؤنف عهد ذاك بينهما إنما هو الحوار المستمر بين عالمين: قديم وجديد؛ حوار واحد لم يتعدد.
وذلك وأمثاله، في رأي رئيف خوري، ما كان يقرؤه أعلام نهضتنا الحديثة في أثناء التراث العربي القديم، ويتدبرونه «فيخلق فيهم استعدادا نفسيا كبيرا للإعجاب بالثورة الفرنسية.» فالحادث التاريخي الذي أراد المؤلف إثباته و«تحقيقه» ليس «خبر» المفاوضة بين العرب والفرس، بل «خبر» الاستعداد النفسي عند مفكري العرب الإصلاحيين في القرن الماضي لتقبل المبادئ الجديدة، الأجنبية في صيغها أو أشكالها، الأصيلة في جوهرها أو فحواها، «تبعا لتقارب الأشواق الإنسانية واتجاهها في الحياة الاجتماعية نحو الخير والتجديد والعدل والرفق والحرية وسائر المثل والقيم العليا ... على أن الإسلام وثبة تقدمية جبارة، والوثبات التقدمية الجبارة، في كل العصور، لا يخلو بعضها من مضمون بعض.» وإذا كان غوته قد هتف مساء اليوم الذي نشبت فيه معركة فالمي: «من هذا المكان، منذ اليوم، تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الدنيا»، فإن نقولا الترك لم يبعد عنه كثيرا، إذ ذكر «الثورة الكبرى وقيام المشيخة الفرنساوية» في جملة «الحادثات الكونية، والحركات الكلية». على أن في الكتاب نماذج شتى وطريفة من هذا «التقارب الإنساني» الذي يعد المؤلف بين خيرة ممثليه في الجيل الحاضر.
إن رئيف خوري، الأديب في سويدائه، والشاعر الذي يحرص على صياغة قصائده وصقلها كما كانوا يحرصون على تجويد السيوف والألطاف، يعرف أيضا كيف يترسل في نثره الكتابي والخطابي ترسلا لا أثر للصنعة فيه، بل لا ضابط له غير المنطق الخفي حينا، الظاهر أحيانا. وهو في مواقفه، الغنية السخية، هذه لا يخشى تهمة ابتذال يقذفه بها متأنق أو متظرف من أولئك الذين يرتمون في أحضان تفكيرهم «الذاتي» كمن يتمتع بجسد خيالي ... حرية، مساواة، إخاء! ما ذنبنا إن تكن «الألفاظ» غزيرة الإصدار في السوق، كالنقد المتضخم الذي لا يني ينحط قيمة وثمنا؟ وما ذنبنا إن تكن «المبادئ» أبعد شيء عن الابتذال لأنها ما زالت أبعد شيء عن التحقيق العملي؟ يقول رئيف خوري في معرض كلامه على روسو: «... إن غيره ظل يفكر في نطاق مكتبة صغيرة أو حلقة ضيقة من النخبة المختارة، بينما استطاع روسو أن يحرك أعماق الشعب ويجعل من مذهبه دستورا للعمل. إنه من الكتاب القلائل الذين ترن كلماتهم برنة الصدق، ويشعر القارئ لدى مطالعتهم أنهم، إذ يدعونه إلى التفكير، يدعونه إلى العمل أيضا» كأن الكلمة مقولة في رئيف خوري نفسه!
وبالجملة، إن رئيف خوري، حتى في كتابته التاريخ، لا يقف على أطلال الماضي مقدار ما يقف على تصاميم المستقبل. ولقد ولد كتابه هذا تحت طالع مزدوج من «العقل الذي يبدد سحب الجهالة»، ومن العاطفة التي تمنح القلوب حرارتها. فبورك في ذلك القران السعيد!
إعلان حقوق الإنسان1
(1)
الناس يولدون ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق. (2)
هذه الحقوق هي: الحرية والتملك والأمن ومقاومة الجور. (3)
مبدأ كل سلطة مستقر في الأمة؛ لا يمكن لأي مجموع أو لأي فرد كان أن يستخدم سلطة غير آتية عنها صراحة. (4)
قوام الحرية أن يطاع عمل كل ما لا يضر بالغير. (5)
لا يحق للقانون أن يمنع غير الأعمال المضرة بالهيئة العامة. (6)
الشريعة هي مظهر الإرادة العامة، ولكل الوطنيين، ذاتيا أو بواسطة نوابهم، حق الاشتراك في سنها. ويجب أن تكون واحدة للكل، سواء كان في صون الحقوق أم في العقوبات. ولما كان كل الوطنيين متساوين إزاءها، فهم كذلك يقبلون في كل المراتب والمناصب والوظائف العامة بحسب اقتدارهم وفضائلهم ومواهبهم العقلية. (7)
لا يمكن الشكوى على أي إنسان كان أو القبض عليه أو توقيفه إلا في الأحوال المعينة في القانون وبحسب الكيفية المرسومة فيه. (8)
لا يسوغ القانون أن يضع غير العقوبات الضرورية ضرورة أكيدة وصريحة، ولا يمكن معاقبة أي كان إلا بموجب قانون وضع ونشر وأصبح نافذا قبل وقوع الجرم وعمل به على النظام. (9)
لما كان كل إنسان يعتبر بريئا إلى أن يعلن مجرما، فإذا ارتئي وجوب توقيعه واستعمل بحقه عنف لم يكن ضروريا للتأمين من شخصه، فعلى القانون أن يعاقب على ذلك بكل شدة. (10)
لا يجوز تنكيد أي كان بسبب آرائه، حتى الدينية منها، ما دام إبداؤها لا يخل بالنظام العام حسبما قرره القانون. (11)
حرية نشر الأفكار والآراء حق من أثمن حقوق الإنسان؛ فلكل وطني إذن أن يتكلم ويكتب ويطبع بملء الحرية، إلا أنه مسئول عن خرق هذه الحرية في الأحوال المعينة في القانون. (12)
ضمان حقوق الإنسان والوطنيين يستلزم قوة عامة. (13)
يتحتم، للقيام بهذه القوة العامة ونفقات الإدارة، وضع رسوم عامة يجب توزيعها على جميع الوطنيين بالسواء، كل على قدر طاقته. (14)
يحق لكل الوطنيين أن يتحققوا، بالذات أو بواسطة نوابهم، لزوم الرسوم العامة، وأن يقبلوا بها عن رضى، وأن يحددوا مقدارها ومدتها وكيفية تقسيمها وتحصيلها، وأن يتتبعوا كيفية صرفها. (15)
يحق للهيئة العامة أن تسأل كل موظف عام عن إدارته. (16)
كل هيئة عامة لا يكون فيها ضمان الحقوق مكفولا وتفريق السلطة محدودا، فهي ليست على شيء من القانون الأساسي. (17)
لما كان التملك حقا مقدسا لا يمس، فلا يمكن نزعه عن أي إنسان كان إلا إذا استلزمت ذلك المصلحة العامة استلزاما بينا ثابتا شرعا، وبشرط دفع تعويض عادل مقدما.
فاتحة
إن الثورة الفرنسية، وفرنسا الثائرة، وما أشبه مما رأيته في عنوان الكتاب وتراه مرددا في تضاعيف سطوره، كلام له - أيها القارئ - معنى يجب ألا يخلط بينه وبين غيره من المعاني.
هذه كلمتي الأولى أقولها لك، وأتركك وهذه الفصول الطوية والنصوص المختارة من كبار أدبائنا ومفكرينا. وقد كنت أحب أن أقول شيئا في هذه الفاتحة آثرت أن أتركه للخاتمة، وما دامت مقدمات الكتب توضع آخر شيء بعد الفراغ من التأليف، فإنني أرى أن تكون مقدمتي آخر صفحات الكتاب لا أوله.
أما إرنست رينان، وما عيرنا به من أننا عدمنا ولو ثائرا واحدا، فأرجو ألا يعطيه هذا الكتاب إلا نصف الحق على الأكثر.
رئيف خوري
بيروت، 8 أيلول 1943
تنبيه
في هذا الكتاب قسم مستقل أشرنا إليه بعنوان «نصوص مختارة»، وقد جعلنا النصوص التي اخترناها لكل أديب في فصل على حدة توجناه باسمه.
للحياة وجهان: أحدهما الاغتذاء والهضم، والآخر الإنتاج والخصب. وبالقدر الذي تأخذه الحياة ينبغي لها أن تعطي؛ هذا قانونها. الحياة كاللهب، ليس يمكن حفظها إلا إذا هي أعطت من مادتها. يصح هذا على العقل كما يصح على البدن، ومن المستحيل على العقل (الذكاء) أن ينحصر في ذاته. إنه كاللهب الذي لا بد له من إعطاء النور بطبيعة خلقه. وهذه القوة نفسها - قوة التمدد - قائمة في أحاسيسنا، فعلينا أن نقاسم «غيرنا» أفراحنا وأحزاننا. إن من طبيعتنا أن نكون اجتماعيين. نحن لا نكفي ذاتنا بذاتنا؛ فلدينا من الدموع أكثر مما نحتاج إليه في أحزاننا، ولدينا من احتياطي السرور أكثر مما تستطيع سعادتنا أن تبرر. يجب أن نمضي إلى الآخرين، ونكثر أنفسنا بالاتصال عن طريق الفكر والشعور. الحياة هي الخصب، وبالعكس، الخصب هو الحياة؛ «الحياة» الأشد امتلاء. إنه الوجود الصحيح. هناك سخاء وكرم لا ينسلخان عن الوجود، وبدونهما نموت ونجف من الصميم، فيجب أن نزهر. والأخلاق الطيبة والنزاهة تلك هي زهرة الحياة الإنسانية. والمثل الأعلى ليس على نقيض العالم، ولكنه سابق له. إن المثل الأعلى، في أصله، شبيه بفكرنا الذي ينشق عن «الطبيعة»، ويمشي قدامها مستطلعا، مهيئا الرقي المطرد. الواقع والمثل الأعلى متفاهمان في الحياة؛ لأن الحياة، على وجه العموم، كائنة وفي حالة الصيرورة في آن واحد. من يقل الحياة يقل التطور.
ج. م. غيو
Guillot ، صفحات مختارة
ماذا أغنت عنا جميع تدابيرنا؟ إن الإيمان والفكر قد حطما قيود الشعب؛ إن الإيمان والفكر قد حررا الأرض. أردنا أن نفرق الناس بعضهم عن بعض، لكن جورنا ألف بينهم وألبهم علينا. هرقنا دماءهم فوقعت على رءوسنا. بذرنا الفساد فتشبثت جذوره بتربتنا وتأكلت عظامنا. ولقد حسبنا أننا خنقنا الحرية، لكن أنفاسها لفحت جذور سلطتها وأيبستها.
لامنيه
Lammenais ، أقوال مؤمن
ما معنى أن يحب الإنسان وطنه؟ ما معنى أن يكون الإنسان وطنيا؟ إذا كان الشاعر منصرفا مدى حياته إلى محاربة التعصب وإزالة النظرات الضيقة وإنارة ذهن قومه وتصفية ذوقهم وترقية آرائهم وأفكارهم، فقولوا كيف يمكنه أن يكون وطنيا على وجه خير من هذا الوجه؟
غوته
Goethe ، أحاديث مع إكرمن
أما بعد، فقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني.
أبو بكر الصديق ... فئة لا يزالون يؤلمون أسماعنا بما يكررون من سفساف القول، من مثل: إنا تعودنا احتمال الظلم والحيف والعناء والخدمة والرق، فلن يستقل لنا رأي ولن نهتدي سبيل الحرية. كأنما هم لا يعلمون أن أهل الغرب أجمعين تعودوا مثل ذلك الحيف أعصارا، أو كانوا في قديم الأيام على ضروب من الرق وانخفاض الجناح، وأن العالم بأسره كان فريقين: أحرارا يظلمون، وعبيدا يطيعون!
أديب إسحاق
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحق
جرى في أرضها فيه حياة
كمنهل السماء، وفيه رزق
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحررت الشعوب على قناها
فكيف على قناها تسترق؟
أحمد شوقي
إذا كانت آلامنا من السياسة الفرنسية شديدة ... فإننا لا نريد أن ندخل اليأس على قلوبنا من حياة الأمة الفرنسية ويقظتها ومستقبلها العظيم.
مصطفى كامل باشا
لا تقولوا لي: كم هي شاحبة فرنسا هذه! فقد أهرقت دمها من أجلكم ... ولما فرغت يدها أعطت روحها التي منها تحيون.
ميشله
Michelet ، الشعب يخاطب الأمم
القسم الأول
الثورة الفرنسية الكبرى
أهم الثورات العظمى المتأخرة هي الثورة الفرنسية المشهورة التي حدثت سنة 1789، وهي المراد في التواريخ عند الإطلاق، فإذا قيل زمن الثورة الفرنسية كانت هي المقصودة. (دائرة المعارف للبستاني، مادة ثورة، جزء 6) ... الانقلاب الكبير الذي حدث فيها (فرنسا) فغير معالمها، وثل منها عرش الاستبداد، وحرر العقول، وبدل الظلام بالنور، ووضع العدل في موضع الظلم، وجرى بسبب ذلك من الفظائع الدموية ما تقشعر من سماع حديثه الجلود. (روحي الخالدي، تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو)
وقد اتفق المؤرخون بأن هذه الثائرة الفرنساوية تكون نهاية للقسم الثاني من القرن الأخير. (نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي، زبدة الصحائف في سياحة المعارف)
ثورة الفرنسيين سنة 1789 ... كانت أم الثورات، ومطلع فجر الحرية للعالم كله.
1 (أمين البستاني، مقالته: الديمقراطية)
لما كان مدار بحثنا على الثورة الفرنسية ومفكريها وأعلامها وحوادثها الجسيمة ومبادئها، وتأثير ذلك كله في الأعلام من أدبائنا ومفكرينا، فقد وجب أن نلم، ولو إلماما يسيرا، بما هو ضروري لنا من تاريخها.
يجري الكتاب عن الثورة الفرنسية على تقسيم بحوثهم فيها إلى الأقسام التالية:
تمهيد يدرسون فيه وضع فرنسا قبل الثورة، وهو الوضع الذي أصبح يعرف باسم «النظام القديم»
L’Ancien Régime ، فيذكرون الملكية المطلقة وارتكازها إلى حق الملوك الإلهي،
2
وانقسام البلاد إلى أربع طبقات وفق المنبت الاجتماعي: طبقة الأشراف، أسياد الإكليروس، الطبقة الثالثة، ثم الطبقة الرابعة في أدنى درجات السلم الاجتماعي. ثم يذكر المؤرخون بذخ البلاط في فرساي، ووقوع الخزينة في العجز بسبب الحروب وكثرة النفقات، ويذكرون ثقل الضرائب والحاجة المتكررة إلى عقد القروض، ويفصلون امتيازات الأشراف والإكليروس في قضية الضرائب وفي تسخير المزارعين، ويذكرون القيود على حرية الرأي وسجن الباستيل والتحارير المختومة
Lettres de cachets
وكيف كان من الميسور استصدارها بالرشوة وحبس الأبرياء؛ ويذكرون الحدود الإقطاعية التي كانت تفصل جزءا من فرنسا عن جزء وتعرقل حرية التجارة بما يفرضه الأسياد الإقطاعيون من مكوس.
ثم يلتفتون إلى ذكر الفئات النامية في حضن المجتمع الفرنسي، أو إلى القوى الجديدة التي نبضت في حياة فرنسا الاقتصادية والعقلية، فكانت قاعدة الثورة ومركز تموينها ماديا ومعنويا؛ وهنا يذكر المؤرخون أعلام الفكر الذين سبقوا الثورة ممن عرفوا ب «الفلاسفة» و«الإنسكلوبيديين» و«الاقتصاديين» أو «الفيزيوكرات» و«البلوتوقراط»، وسنفرد لهم فصلا خاصا؛ ويذكرون أيضا نهضة الطبقة الثالثة
Tiers Etat ، وهي الطبقة الملاكة الناشطة: طبقة الفلاحين أصحاب العقارات الصغيرة، وسكان المدن
3
التجار والمصنعين، مع من يلحق بهم من المثقفين لا سيما المحامين.
والطبقة الثالثة هذه هي الطبقة الوسطى؛ لأنها كانت في مركز وسط بين طبقتي الأشراف والإكليروس.
4
والطبقة الرابعة المتشكلة من أفقر فقراء الريف والمدينة الذين يعيشون من العمل في أرض لا تخصهم أو في محترف لا يملكونه. ولعل أحدا لم ينطق بلسان الطبقة الثالثة فيمثل وضعها وطموحها كما فعل الأب «سييه» إذ قال في أحد كراريسه: «ما هي الطبقة الثالثة؟ هي كل شيء! ماذا كانت حتى الآن؟ لا شيء! ماذا تريد أن تكون؟ شيئا!»
ولا يغفل مؤرخو الثورة أن يذكروا أيضا، في تمهيدهم، أثر العوامل الخارجية التي مثلت دورها في التشجيع على هذا الانقلاب الكبير، كالثورة الإنكليزية
5
والثورة الاستقلالية الأميركية.
6
ومن هذا التمهيد ينتقل المؤرخون إلى الحوادث التي كانت مقدمة للثورة، فيذكرون الانهيار المالي الذي بات يهدد الخزينة ويضغط على الملك حتى لم يبق له مناص من التماس المخرج العاجل؛ ويذكرون كيف استشاط الرأي العام غب انتشار تقرير الوزير «نكر»، وهو التقرير الذي فضح فيه سنة 1781 تضعضع المالية وإسراف البلاط. ويذكرون الخيبة التي اصطدم بها الوزير «كالون» في حمله الأعيان
Les Notables
على القبول ببرنامج إصلاحه لتعديل الإساءات
Les Abus
في الأوضاع القائمة.
ثم يذكر المؤرخون كيف رضي الملك بانعقاد مجلس باريس - أهم المجالس الفرنسية - للموافقة على عقد قرض، لكن المجلس أبى أن يتحمل التبعة وحده، وجعل إنشاء القروض والضرائب من خصائص البلاد الممثلة في مجالسها؛ ويذكرون كيف فكرت المجالس بالانعقاد، وطلب دورة عامة تلتئم فيها جميعا فتبحث في طرق الإصلاح ووسائله؛ ويذكرون كيف أقدم مجلس إقليم «الدوفينه» على الانعقاد بنفسه في تموز سنة 1788، فوجد الملك أن لا مناص له مما تطلب البلاد فوافق في شهر آب على دورة عامة تعقدها المجالس جميعها في فرساي في الخامس من شهر أيار سنة 1789.
وهنا يذكر المؤرخون كيف انصرفت طبقات الأمة: الأشراف والإكليروس والطبقة الثالثة، كل إلى اختيار نوابها الذين سيمثلونها في فرساي. ويذكرون كيف ألغيت المراقبة وأطلقت الحريات لمناسبة الانتخابات، وكيف أقبلت «الطبقة الثالثة» بموسم من الكراريس
Cahiers
تعين وجهة نظرها في الإصلاحات المنشودة. وكانت هذه الطبقة، بالاستناد إلى كثرة أفرادها (97 في المائة من الأمة)، صريحة في طلب عدد من الممثلين لها يساوي مجموع ممثلي الطبقتين الأخريين: الأشراف والإكليروس. وكانت كذلك صريحة في طلب اجتماع النواب كلهم هيئة واحدة، وفي طلب التصويت بالأفراد لا بالطبقة، ثم في طلب دستور وطني يقيد «السلطة المطلقة التي هي منبع الشرور النازلة بالدولة»، على تعبير أحد الكراريس.
ومن هنا يتقدم المؤرخون إلى ذكرى انعقاد المجالس في دورة عامة، في الموعد المضروب؛ أي في 5 أيار سنة 1789. ولم تكن هذه المجالس قد انعقدت في دورة عامة منذ سنة 1614 أيام الملك القاصر لويس الثالث عشر وأمه الوصية على العرش ماري المديتشية. وكان ممثلو الطبقة الثالثة لم ينسوا كيف زل أحدهم، يومذاك، فقال: «نحن أبناء أسرة واحدة؛ الأشراف هم الإخوة الكبار ونحن الإخوة الصغار.» فغلى دم نبيل من النبلاء و«رقص» عليه عصاه جزاء وفاقا لهذه الإهانة. ولم يكونوا قد نسوا أيضا كلمات روبير ميرون إذ قال: «الملك هو السيد، ولكن شرط أن يحكم الحكم الصالح؛ فالشعب لا يلبث أن يدرك أن الجندي ليس إلا فلاحا يحمل السلاح!» فلم يطل الوقت حتى وفد النواب مرة إلى قاعة الاجتماع فوجدوها مقفلة، وقال لهم قائل: «لقد احتاج إليها البلاط الملكي لحفلة رقص تقام قريبا!» فعادوا أدراجهم، وانطوت القضية.
أجل، يذكر مؤرخو الثورة الفرنسية كيف أن نواب الطبقة الثالثة كانوا في سنة 1789 عازمين على ألا تنطوي القضية كما انطوت سنة 1614.
وبدأت المشادة العنيفة الحادة. وأصر ممثلو الطبقة الثالثة على أن تكون الجلسات مشتركة بين النواب جميعهم حتى لا يجتمع ممثلو كل طبقة على حدة، وأصروا على طلب التصويت فردا فردا لا طبقة طبقة. وكان قد سبق لهم أن نجحوا في إرسال عدد من النواب يساوي نواب الطبقتين الأخريين.
7
وهكذا بات في إمكانهم إحراز الأكثرية في الجلسات؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تنحاز إليهم فئة الأشراف الصغار والإكليروس الفقراء كما حصل فعلا فيما بعد.
ولم تطل المشادة حتى أعلن ممثلو الطبقة الثالثة تأليف «الجمعية الوطنية» في 17 حزيران سنة 1789، فكانت تلك خطوة جريئة أسفرت عن هيئة من النواب الوطنيين تمثل أكثرية الأمة، وتتكلم باسم الوطن، وتستند إلى إرادة الأمة التي تعتبر من حقها إثبات وجودها؛ فالجمعية الوطنية هي أول برلمان فرنسي بالمعنى الحديث.
ونوى الملك أن يكرر ما وقع سنة 1614، إلا أن الجمعية الوطنية ردت عليه بالقسم المشهور الذي أقسمته في بهو «جي دي بوم»
Jeu de Paume
وفيه تعهد النواب «بالاجتماع مهما تكن الأحوال والظروف إلى أن يصكوا دستورا للبلاد!»
وفي 23 حزيران سنة 1789 عقدت دورة عامة حضرها الملك وممثلو الطبقات، أسفرت عن غضب الملك وانسحابه من الجلسة تتبعه غالبية الأشراف، على أن قسما كبيرا من الإكليروس وفئة من الأشراف أنفسهم لبثوا مع ممثلي الطبقة الثالثة. وفي هذه الجلسة صرخ ميرابو كلمته التاريخية: «نحن هنا بإرادة الشعب ولا نخرج إلا بقوة الحراب!» وكانت كلمته تلك موجهة إلى رسول الملك الذي أقبل يأمر النواب بالانفضاض.
فاتضح عندئذ أن أي لجوء من الملك إلى استعمال القوة ضد النواب سيعني لجوء النواب والشعب إلى المقاومة. وطرحت على بساط التاريخ الفرنسي مسألة لطالما طرحت في حياة الشعوب: أهي السلطة المطلقة التي تحكم أم إرادة الجماعة؟
كان إذ ذاك في متناول الملك عدد من الجنود الحراس، ولكن هؤلاء كانوا من أبناء الشعب الباريسي، فهل يطيعونه إذا أمرهم بطرد النواب؟ وكان في متناوله أيضا عدد من الخيالة الأشراف، لكن الأحرار (الليبرال) من الأشراف؛ أمثال لافاييت، أفهموا أبناء طبقتهم أنهم إذا أشرعوا سلاحهم على المجلس قابلوهم بالسلاح، فوقف الملك موقف الحذر من اتخاذ تدبير غير مأمون العواقب. وفي 27 حزيران سنة 1789 أقر جميع مطالب الأكثرية من النواب.
وأعلنت الجمعية الوطنية نفسها جمعية دستورية في 9 تموز.
وهنا يذكر مؤرخو الثورة كيف أن الملك ومعظم البلاطيين لم يكونوا ليرضوا عن تطور الحوادث، بل لم يكن في نيتهم الرضوخ لها، إلا أنهم تراجعوا ريثما يهيئون القوة التي بها يردون الضربة بجيش يصح الاعتماد عليه.
واتجهت الجمعية الوطنية إلى حشد التأييد الشعبي. وصرف الملك وزيره «نكر» من الخدمة في 11 تموز؛ لأنه حمله قسطا من المسئولية عن تطور الحوادث المزعجة، فبات الشعب الباريسي يتحدث عن عزل «الوزير الوطني».
وطفقت جماهير الشعب تظهر على مسرح الحوادث في شوارع باريس، عنيفة غاضبة، وبعض المؤرخين ينعتونها بالعمى
Multitude Aveugle .
8
فإذا صح هذا كان غريبا أن ترى هذه الجماهير «العمياء» طريقها إلى الباستيل، في 14 تموز سنة 1789، فتهدمه، ويصبح هذا التاريخ حدا فاصلا انتهى عنده «النظام القديم»، وعيدا وطنيا تعيده الأمة الفرنسية. ومهما يكن من شيء، فإن الجماهير «العمياء» أدركت فورا معنى طوائف الجنود الأجنبية التي يحشدها الملك بين فرساي وباريس، وفهمت مغزى جواب الملك للجمعية الوطنية لما طلب منه النواب صرف الجنود، فأجابهم: «انطلقوا إلى نوايون أو سواسن فاعقدوا اجتماعاتكم.» فما كان من الجماهير إلا أن انطلقت إلى
Hôtel de Ville
فشكلت فيه مجلسا بلديا
Commune
9
يحكم باريس، وإلى
Hôtel des Invalides
فاستولت على الأسلحة، وألفت الحرس الوطني بقيادة لافاييت، واتخذت شارة الألوان الثلاثة، وشعار: الحرية والإخاء والمساواة، وفتحت الباستيل.
ومؤرخو الثورة الفرنسية مجمعون على أن سقوط هذه القلعة كان حادثا «رمزيا» من أعظم حوادث الثورة. ولويس السادس عشر لم يدرك تمام الإدراك أنه أمام ثورة إلا لما بلغه أحد الدوقات نبأ سقوط القلعة هاتفا: «إنه لعصيان!» فأجابه لويس: «بل إنها لثورة!» وأيقن أن الجمعية الوطنية قد اكتسحت الموقف، فرأى أن يتحاشى وقتيا صدم إرادته بإرادتها.
وكان تشكيل المجلس البلدي الباريسي في
Hôtel de Ville
والاستيلاء على الأسلحة وتأليف الحرس الوطني والهجوم على الباستيل صيغا وقوالب للعمل سبقت إليها مدينة باريس؛ فلم تلبث أن حذت حذوها فرنسا كلها. ولعل العالم لا يعرف بلادا كفرنسا يكاد يكون تاريخها، الحديث على الأخص، تاريخ عاصمتها: «إن باريس تجر فرنسا وراءها.»
وهنا يذكر المؤرخون كيف لم يلبث الهيجان أن سرى إلى الأقاليم، فكانت فترة الهلع الكبير
La Grande Peur ، وطفق المزارعون وطوائف الفقراء المتشردين يهاجمون قصور الأشراف وأملاك الكنيسة الواسعة، ويحرقون صكوك الامتيازات الإقطاعية، ويقومون بأعمال العنف، فحاول الحرس الوطني وجنود الملك أن يقمعوهم، ولكن بلا جدوى.
وكان معنى هذا أن طبقة من المجتمع ظهرت في ميدان العمل الثوري ظهورا جديا، نقصد بها الطبقة الرابعة
Quatrième Etat . ورأت الجمعية الوطنية أن سقوط الباستيل، وإن يكن قد صفى حساب النظام القديم من الجهة السياسية، فما زالت ثمة مشكلة اجتماعية تتعلق بالنظام القديم لا بد من تصفيتها، فالتأم النواب في الليلة التاريخية المشهورة بليلة 4 آب سنة 1789 فألغوا الامتيازات والحقوق الإقطاعية. وكثيرون من الأشراف والإكليروس أعلنوا تنازلهم عن حقوقهم وامتيازاتهم، إما بجارف الحماسة ودافع الاقتناع وإما بعامل الخوف.
ومن ثم انصرف نواب الجمعية الوطنية، في شهر آب، إلى إخراج بيان مبدئي يبررون فيه الانقلاب الذي أحدثوه في الحياة الفرنسية. وهكذا أخرجوا للناس نشرة «حقوق الإنسان» الشهيرة (وقد أثبتناها في صدر من هذا الكتاب). ومن يقرأها يشعر بما كان للثورة الإنكليزية والأميركية، ولمفكري القرن الثامن عشر، من أثر قوي فيها. ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية: السيادة للأمة، تساوي الناس في الحقوق والواجبات العامة، حق الناس في الحرية الفردية والطباعية والكلامية، حق الناس في الأمن على أملاكهم، حق الناس في اختيار العقيدة الدينية واتباعها ...
وبدا كأن الحركة الانقلابية قد بلغت ذروتها. لكن بقاء الملك في فرساي، وغلاء الغذاء، واجتماع أجناد جديدة إلى قصر الملك، كل ذلك جعل الشعب غير مطمئن إلى سلامة الإصلاحات والانتصارات التي أحرزها، فزحفت، في 5 تشرين الأول، جمهرة غفيرة من النساء المسلحات يتبعها لافاييت والحرس الوطني إلى فرساي، فانتقل الملك بعائلته إلى قصر التويلري في باريس؛ حيث باتت الجمعية الوطنية تعقد اجتماعاتها أيضا.
أعقبت ذلك فترة من هدوء، وعيدت فرنسا عيد 14 تموز لأول مرة، وهو اليوم الذي هدم فيه الباستيل؛ فحضر العيد ممثلون عن الحرس الوطني أقبلوا من جميع أقاليم فرنسا، وأقيم هيكل للوطن، وأقسم لافاييت قائد الحرس الوطني يمين الولاء للدستور والقانون والملك، ثم أقسم الملك - الذي حضر العيد أيضا - يمين الولاء للدستور، وعرف هذا العيد بعيد الاتحاد
Féte de la Fédération ، وأصبح الفرنسي بعده لا يتحدث إلا عن «أمة فرنسية»، وكان من قبل يقال مثلا: الأمة البريتونية أو البروفنسية، تبعا لاسم الإقليم.
وهنا يذكر مؤرخو الثورة كيف أن الملك لويس السادس عشر لم يستطع أن يوطن نفسه على مسايرة الوضع الجديد، فأخذ ينسج نسجا ويحبك حبكا في الخفاء، وأمل أن يوقع خلافا في صفوف الجمعية الوطنية من ناحية،
10
وأن يستعين، من ناحية أخرى، بتدخل الملوك، لا سيما نسيبه ملك النمسا. ومن المؤرخين من يحبون أن يزيلوا عنه هذه التهم ليحملوها امرأته ماري أنطوانيت. ومهما يكن من أمر، فالواقع أن الملك هرب متنكرا إلى فارين، في حزيران سنة 1791، وهو ينوي أن يقود جيش المركيز دي بوييه
de Bouillé
إلى باريس لقمع فورانها. على أن العيون كشفته فأعيد مخفورا إلى العاصمة، وأوقفته الجمعية الوطنية عن ممارسة سلطاته وقتيا، وتشدد الحزب الجمهوري، إلا أن أكثرية النواب كانوا لا يزالون ملكيين، فلما انتشبت مظاهرة في شان دي مارس
Champs de Mars
تنادي بالجمهورية فرقتها الجمعية الوطنية بالقوة.
عند هذا الحد يقف مؤرخو الثورة وقفة ليلخصوا أعمال الجمعية الوطنية الدستورية. لقد أعطت هذه الجمعية فرنسا دستورا هو المعروف بدستور سنة 1791 (صيغ بالتدريج فلم يكتمل إلا في هذا العام، مع أن البدء به كان سنة 1789). ومؤدى هذا الدستور أنه يجعل نظام الحكم في فرنسا ملكية مقيدة، ويمنح الملك سلطات واسعة كحق وقف التنفيذ لأجل
Veto Suspensif ،
11
واختيار وزرائه وقادته. إلا أن على الملك الخضوع للقانون، وهو ليس ملك فرنسا، بل ملك الفرنسيين،
12
والفرنسيون ليسوا رعية
Sujets ، ولكنهم مواطنون
Citoyens ؛ فوضع الملك في الدولة أشبه بوضع موظف أول وراثي، والقوانين تسنها هيئة نيابية هي الجمعية التشريعية، والسلطات ثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. أما التنفيذية فمعظمها بيد الملك. وأما التشريعية فللجمعية المسماة بهذا الاسم (أو البرلمان المنتخب)، ويجري الانتخاب على درجتين، ولا يصوت إلا من يدفع ثلاثة فرنكات ضرائب
13
على الأقل (حوالي 30 أو 40 فرنكا اليوم). وهؤلاء هم المواطنون العاملون
Citoyens Actifs
تمييزا لهم عن المواطنين غير العاملين؛ أي الذين لا يملكون ما يدفعون عليه ضرائب. وقد احتج روبسبيير وماراه، عضوا نادي اليعاقبة، على هذا التدبير الذي يخالف إعلان حقوق الإنسان ويجرد نحوا من ثلاثة ملايين ناخب من حق الانتخاب، مسيئا بذلك إلى السيادة الوطنية المنبثقة من الأمة. وأما السلطة القضائية فجعلت لمحاكم نظمت تنظيما جديدا يرأسها قضاة كلهم منتخبون.
وقسمت الجمعية الوطنية فرنسا تقسيما جديدا إلى مناطق فما دونها، فسهلت إدارتها، وجعلت هيئات الإدارة انتخابية. وسنت للإكليروس دستورا مدنيا خاصا؛ فمنهم من لم يرض به فسميت فئته الإكليروس المخالف
Réfractaire ، ومنهم من قبل به فسميت فئته الإكليروس الدستوري. وكان جل هؤلاء من الفقراء والهابطين في سلم الرتب الكهنوتية، فاستولوا على الأبرشيات والكنائس.
وانتهى دور الجمعية الوطنية، فأفسحت المجال للجمعية التشريعية، عملا بالدستور، في 30 أيلول سنة 1791.
لكن فرنسا كانت، إذ ذاك، في خطر من الحرب والمداخلة الأجنبية؛ إذ إن ملوك أوروبا - وعلى رأسهم إمبراطور النمسا - شاءوا أن يفرضوا إرادتهم على البلاد «الخارجة»، فأعلنوا «تصريح بلنتز» الشهير، وأيدهم في ذلك نفر من كبار البلاط والإكليروس ممن لم تعجبهم الإصلاحات فغادروا فرنسا ليستعينوا بالأجانب على إحداث ردة، واحتشدت منهم فرق في «كوبلنز» ليكونوا طليعة جيوش التدخل الأجنبية.
ويقبل المؤرخون على عهد الجمعية التشريعية، فيذكرون إعلان الحرب على النمسا في 20 نيسان سنة 1792. وكان إعلان الحرب حقا من حقوق الملك بموجب الدستور. ويقول بعض المؤرخين أنه لم يتريث في إعلانها لاعتقاده أن المقاومة الفرنسية سريعا ما تنهار، فيقضى على النظام الجديد. ثم يذكر المؤرخون كيف أصيبت الجيوش الفرنسية، المنظمة حديثا، بهزائم كبيرة. ويذكرون كيف أكثر الملك من استعمال حقه في ال
Veto ، وكيف تظاهر الباريسيون لدى قصر التويلري حيث يقيم الملك. لكن لويس السادس عشر، بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها الجيوش الفرنسية، قويت آماله بإمكان إحداث الردة، فتحصن في قصره واستعان بالحرس السويسري للدفاع عن نفسه ضد الشعب الهائج، وحث المتدخلين على اجتياح فرنسا والإسراع لنجدته، فأعلنت الجمعية التشريعية أن الوطن في خطر، فهرع المتطوعون إلى الصفوف، وأذاع «دوق برونشفيك»، قائد الجيش البروسي الذي حالف النمسويين، أنه سيدمر باريس إذا هاجم الشعب قصر التويلري، فاستفز ذلك الباريسيين بدلا من ترويعهم، فأقاموا عامية للعصيان الثوري في «أوتيل دي فيل»، واندفعوا إلى محاصرة قصر الملك بغية افتتاحه، وأنجدتهم كتائب من الجماهير زاحفة من مرسيليا وهي تنشد «المارسيلياز» الذي أصبح نشيد الثورة ونشيد فرنسا الوطني،
14
وتغلب الثائرون على الحرس واستولوا على القصر في 10 آب سنة 1792، فلجأ الملك وعائلته إلى الجمعية، فأودع قصر «التامبل» وهو سجين. وهكذا ألغيت الملكية عمليا، وإن لم تلغ نظريا. وأقامت الجمعية حكومة موقتة من أعضائها دانتون، وأمرت بإجراء انتخابات جديدة لتقوم جمعية جديدة على أساس الاقتراع العام
Suffrage Universel
15
لتقوم جمعية جديدة تعدل الدستور إذا رأت ذلك مناسبا.
16
وكان أيلول، والجيش البروسي المتدخل يزحف على باريس بعد أن استولى على فردان، فأحس الشعب بدنو معركة حاسمة، فاشتد استعداده، ومثل ماراه دورا عظيما في استنهاض الهمم. وأكثر المؤرخين يستفظعون هذه المذابح، مذابح أيلول. ويحتمل أنها جرفت عددا كبيرا من الأبرياء. ولكن قصد الشعب منها تطهير مؤخرته من العناصر التي قد تكون عونا للعدو المهاجم بطعنة تطعنها في الظهر. على أن العدو لم يستطع الوصول إلى باريس؛ لأن الجيش الفرنسي الجديد بقيادة ديمورييه وكلرمان (لا سيما كلرمان) هزمهم في فالمي في 20 أيلول سنة 1792. ويقال إن فالمي لم تكن معركة هائلة بحوادثها العسكرية، إلا أنها كانت عظيمة بمدى تأثيرها التاريخي. والصيحة التي ملأت أفواه الفرنسيين: «لتحيا الأمة!» ذهبت بعيدا في أوروبا والعالم. وهتف «غوته» ليلة المعركة: «من هذا المكان، ومن هذا اليوم، تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الدنيا.»
وانتهى أجل الجمعية التشريعية في النهار الذي وقعت فيه معركة فلمي، وحل محلها المؤتمر الوطني
La Convention . وكان أول ما صنع أن أعلن الجمهورية الفرنسية الأولى في 22 أيلول سنة 1792، وجعل هذا الحادث تاريخا يؤرخ منه، وغير أسماء الشهور، واصطنع تقويما جديدا.
وهنا يذكر المؤرخون التشكيل الحزبي الذي تألف منه المؤتمر الوطني؛ ففي اليمين كان حزب الجيرونديين (نسبة إلى الجيروند)
17
وزعيمهم بريسو، ومنهم: فرنيو وكوندورسيه ومدام رولان التي جعلت من بيتها ناديا لهم. وكان الجيرونديون يتوجسون من أعمال الشعب ويخشون نفوذ عامية باريس، وكان من رأيهم أن تتخذ الجمهورية الفرنسية المنوي إعلانها صيغة اتحادية
Fédérative
كالولايات المتحدة الأميركية.
وإلى شمال المؤتمر كان «حزب الجبل» يجلس نوابه على مرتقى في القاعة، وهم من اليعاقبة والكرادلة (نسبة إلى النادي اليعقوبي ونادي الكرادلة
Cordeliers )، ومن أعلامهم: روبسبيير ودانتون وماراه وهيبرت وكاميل ديمولان، وكان أهم الأعضاء في أحد الناديين أعضاء في الآخر. إلا أن الكرادلة كانت تغلب عليهم خطة تطرف مقررة سلفا، وكانوا أحيانا ينهجون نهج «المزاد العلني» في طلب التدابير والإصلاحات، وينادون بما يسمونه «الثورة إلى النهاية». لكن نادي الكرادلة لم يشتهر كاشتهار نادي اليعاقبة الذي تألف أولا من نواب مقاطعة بريتانيا فسمي النادي البريتاني، ثم لما استقر النواب في باريس استأجر دير اليعاقبة مكانا لاجتماعاته فنسب إليه، ونشأت له فروع في جهات فرنسا بلغت الأربعمائة، وكان يعتمد على هذه الفروع في تقوية نفوذه، ويستند إلى تأييد عامية باريس والتدخل الشعبي. أما الصيغة الاتحادية للجمهورية فكان يقاومها ويقول: «إن الجمهورية وحدة لا تتجزأ.»
وفي وسط المؤتمر كان «حزب السهل»، وهو الذي يقوم بدور الترجيح في التصويت، وكان أكثر ما يصوت للجيرونديين قبل سقوطهم.
أعلن المؤتمر الوطني الجمهورية، ولم يلبث أن أخرج الملك السجين من محبسه فحاكمه وقضى عليه بالإعدام، فقدم إلى المقصلة في 20 كانون الثاني سنة 1793. أما التهم الموجهة إليه فكانت المؤامرة على الحرية العامة، والاتصال بالأجانب، وتعريض الوطن للغزو الأجنبي، وسفك دم الفرنسيين. وكان آخر ما وجهه إليه رئيس المحكمة في استنطاقه هذا الكلام: «لقد أحدثت سفك دم فرنسي في 10 آب،
18
فبم تجيب؟» وبين مؤرخي الثورة والكتاب عنها جدل طويل حول قضية إعدام الملك.
19
أما في ساحات القتال فقد أحرزت الجيوش الفرنسية، في طليعة عهد المؤتمر، انتصارا أكمل حلقة فالمي، فقهرت النمسويين في جاماب (5 تشرين الثاني سنة 1792)، وطردتهم من البلجيك، وضمت كونتية نيس، ودخلت إقليم السافوا الذي قرر الالتحاق بالجمهورية الفرنسية بعد القضاء على النظام القديم فيه.
لكن فرنسا لم تلبث أن وجدت نفسها مطوقة؛ فقد هبت عليها أوروبا من النمسا، إلى روسيا، إلى إنكلترا، إلى إسبانيا. ومن هذه الدول من كانت تخشى اتساع النفوذ الفرنسي، ومنها من كانت تخشى عدوى المبادئ، لا سيما بعد إعدام الملك.
20
وانضم إلى هذا التحالف العام ضد فرنسا: هولندا وأمراء إيطاليا.
شجع هذا التحالف الخارجي انتقاضا داخليا ملكيا في إقليم فانديه
Vendée ، فلم يستطع المؤتمر أن يقمع تلك الثورة إلا بعد عراك شديد دام حتى تشرين الأول سنة 1793. وأصابت الجيوش الفرنسية هزائم في البلجيك فاضطرت إلى الجلاء عنها، وباتت أرض فرنسا عرضة للغزو والاجتياح من جهات عديدة.
ويذكر المؤرخون في هذه المرحلة كيف قامت عامية باريس بأكبر دور مثلته حتى الآن في الثورة؛ إذ حاصرت المؤتمر بقيادة هنريو، وحملته على اعتقال أعضائه من «الجيروند» متهمة إياهم بالتساهل في مصلحة الوطن، وبالمواطأة مع القائد ديمورييه الذي خان وانضم إلى النمسويين. ومنذ 2 حزيران سنة 1793 انحصرت السلطة في حزب الجبل واليعاقبة، فثار أتباع الجيروند، وبدا وكأن الجمهورية الفرنسية الأولى لن يتيسر إنقاذها بسبب التمزق الداخلي والضغط الخارجي. لكن المؤتمر أقام لجنة الإنقاذ العامة
Comité de Salut Publique
مؤلفة من اثني عشر عضوا، وهي اللجنة التي وضع روبسبيير يده على دفتها فسيرها في أعصب الأوقات. وبعض مؤرخي الثورة يتفل على اليد الروبسبييرية، وبعضهم ينصرف إلى المفاضلة بينه وبين دانتون. والواضح أن مصير الثورة، بل مصير فرنسا، كان إذ ذاك معلقا بشعرة، وكان الوضع يقتضي أولا: كفاحا لا هوادة فيه ضد «ميمنة» الجيروند التي دفع بها إخراجها من السلطة إلى أحضان الرجعية الناقمة وإلى استعمال الاغتيال، كما ظهر من قتل الفتاة الجيروندية، شارلوت كورداي، لماراه، أحد أعلام الثورة الشعبيين؛ وكان الوضع يقتضي ثانيا: كفاحا لا هوادة فيه ضد «ميسرة» لا تعرف حدا تقف عنده، يسكرها النجاح وتصر على استفزازات تقصي التأييد عن الثورة، كما تبين من تطرف شوميت إلى «إلغاء الدين» و«عبادة العقل» في شخص امرأة حسناء تنصب إلها!
21
تجاه هذا الوضع كان لا بد من إرادة فولاذية بصيرة تقبض على دفة السلطة فتعين هدف البلاد الرئيس؛ أي إنقاذ الوطن، وإنقاذ الثورة بحشد قوة الشعب، وتهييء الوسائل من أسلحة وغيرها لسحق الأعداء في الداخل وضربهم في الخارج. ولقد وجد الشعب الفرنسي يومذاك هذه الإرادة الفولاذية في روبسبيير ولقبه ب «المعصوم من الفساد»
L’incorruptible .
باشر روبسبيير وأعوانه تنظيم الجيوش الجديدة، وأشرفوا على تنشيط إنتاج العتاد والذخيرة، وهيئوا الأموال بتصريف الأملاك المصادرة، وأقاموا المحكمة الثورية
Tribunal Révolutionnaire
فأرسلوا الكثيرين إلى المقصلة. والمؤرخون يعترفون بأن هذا العهد أنقذ فرنسا والثورة من سحق تام، وكشف الستار عن حيوية في الشعب أدهشت العالم.
من السهل جدا على مؤرخ أن يفرد حادثة إعدام واحدة مثلا فيقول ويقول إلى أن ينتهي بالحكم القاضي على روبسبيير «الدموي» وعلى عهد «الإرهاب الصغير والكبير»، لكن التاريخ لا يحكم على رجل كروبسبيير وعهده بهذا الأسلوب.
22
في هذه المرحلة برز قادة فرنسيون مبدعون كالقائد كارنو «منظم النصر» ومنظم غضب الشعب عسكريا،
23
والقائد هوش ومارسو وجوردان ... إلخ، فحرروا الأرض الفرنسية من سطو الجيوش الأجنبية التي كانت تدق أبواب الوطن، وهي أوفر عددا وأحسن عدة. وقمعوا كذلك الحركات الداخلية وأهمها الفانديه الملكية. ثم ما لبثوا أن دفعوا القوات الفرنسية إلى خارج بلادهم، فسحق جوردان النمسويين في معركة فلوريس سنة 1794، واحتل البلجيك، واستولى الفرنسيون على هولندا وأسطولها، وتقدموا إلى الشاطئ الأيسر من نهر الران.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه أرض فرنسا في مأمن من الغزو تبين لفريق كبير أن لجنة الإنقاذ العامة وسيطرة روبسبيير لم يبق لهما ضرورة، فسقط روبسبيير في 9 ترميدور من السنة الثانية لتأسيس الجمهورية (27 تموز سنة 1794) وسيق إلى المقصلة مع سان جوست وكوتون، ولم تستطع عامية باريس أن تحشد من القوة ما ينقذ الرجل؛ ذلك أن الحاجة إليه وإلى عهده انقضت في رأي فئات كثيرة من الناس. وتبين أيضا، بعد المعاهدات التي عقدتها فرنسا المنتصرة مع دول أوروبا سنة 1795، أن المؤتمر الوطني نفسه لم تبق إليه حاجة، فانفض في 26 تشرين الأول سنة 1795.
ولم يقتصر عمل المؤتمر على الكفاح العنيف في الداخل والخارج، بل صك دستور سنة 1795 (دستور السنة الثالثة بحسب التقويم الجمهوري)، وهو القانون الأساسي الذي استهدف تنظيم الجمهورية الفرنسية الأولى، فأودع السلطة التنفيذية أيدي خمسة مديرين، وأقام لجانا محل الوزارات، وجعل المجلس النيابي قسمين: القدماء (أو الشيوخ)
Les Anciens
ومجلس الخمسمائة، وقضى على آخر بقية باقية من الحقوق الإقطاعية، وأمر بنص مجموعة قوانين
Code
واحدة للبلاد كلها، وبدأ يحول جهده نحو تسوية المشاكل المالية وأولها الدين العام الناشئ عن نفقات الحرب.
واهتم المؤتمر بالثقافة العالية والعامة اهتماما جديا مثمرا، فقرر التعليم الابتدائي العلماني إجباريا، وأنشأ المدارس المركزية للتهذيب الثانوي، إلا أنه لم يوفق إلى استكمال الهدف المنشود، وأسس مدرسة بوليتكنيك
ودار المعلمين ومدرسة «مارس» للضباط، وأقام المجمع الوطني للعلماء
Institut National
ومتحف التاريخ الطبيعي، وجدد كلية فرنسية و«دار الوثائق الوطنية» للمستندات التاريخية
Archives Nationales ، وأدخل القاعدة المترية في المقاييس والمكاييل وهي أوفق مصطلح من نوعه.
وهنالك ناحية من أعمال المؤتمر الوطني يحب السكوت عنها كثير من المؤرخين، ويسير منهم من يذكركها، ألا وهي ناحية العلاقة بين الدولة المركزية ومستعمرات فرنسا القليلة إذ ذاك.
كان معظم سكان هذه المستعمرات من العبيد الأرقاء، فلما وصلتهم طلائع أنباء الثورة أملوا خيرا وتهيئوا لاستقبال عهد جديد تقوم فيه العلاقة بينهم وبين الدولة المركزية على أساس جديد. ولم يلبث أعلام الثورة أن وجدوا أنفسهم في موقف حرج؛ فهم أمام تعاليم الفلاسفة الذين يستوحونهم ومبادئ حقوق الإنسان لا يستطيعون أن ينكروا على العبيد وأهل المستعمرات حقوقهم، إلا أنهم (الكثيرين منهم) إنما قصدوا بهذه المبادئ الإنسانية المطلقة أن تكون سلاحا ضد ذوي الامتيازات في الداخل، أما أن يستعمل العبيد وأهل المستعمرات تلك المبادئ سلاحا حقوقيا يتقوون به فهذه مسألة أخرى. وانشق أعلام الثورة إلى أقسام: قسم يرفض مطالب المستعمرات والعبيد، وقسم يتردد، وقسم يرى من الضروري الاعتراف بهذه المطالب وفقا لشعارات الثورة، فلما كان عهد المؤتمر الوطني، عمل روبسبيير على إلغاء الرق بغير تحفظ،
24
وهو لا يبالي بما اتهم به من تضييع الحقوق المسماة «حقوق فرنسا»؛ أي حقوق تجار الرقيق وكبار أهل الجاليات. وكانت النتيجة عجيبة؛ إذ إن عبيد المستعمرات وأبناء الشعب من الجاليات الفرنسية انتظموا في صفوف واحدة، ودافعوا بمؤازرة من رسل «الكونفانسيون» عن أرض المستعمرات دفاعا رائعا طرد جيوش التدخل الأجنبية وأعوانهم من تجار الرقيق وكبار أهل الجاليات، وأبقوا هذه الأرض تابعة لفرنسا التي أصبحت لهم وطنا أما حقيقيا بعد تطبيق قوانينها الثورية عليهم وعلى الفرنسيين سواء بسواء. وفي هذا العهد برز الزعيم الأسود الكبير توسان لوفرتور، فأنشأ في سان دومنغ كلها حكومة حرة في نطاق الكيان الفرنسي (بعد أن طرد الإسبان من قسمهم في الجزيرة)، وأبدى هو وأعوانه العبيد من الكفاءة ما نقض الزعم القائل بأن العبيد لا قدرة لهم على مماشاة التمدن وخلقه، وبالتالي نقض كل زعم يقول بضرورة سيطرة عرق بشري على عرق آخر. وكذلك أيدت تدابير المؤتمر الوطني الرأي القائل بأن اعتراف الشعوب بعضها بحقوق بعض يقرب بينها ولا يباعد.
ولا جدال في أن المؤتمر الوطني الفرنسي يحتل أجرأ صفحة، وأبكر صفحة، في تاريخ إلغاء الرق وتحرير العبيد. ومعظم الاهتمام بقضية الرق والعبيد كان من قبل مصروفا إلى إرشاد الأسياد وترقيق قلوبهم، أو إلى منع الاتجار بالسود «المساكين».
25
على أنها صفحة مجيدة للمؤتمر الوطني لم يطل أمدها؛ فإن الرجعة النابليونية طوتها، ونابليون هو صاحب الكلمة «الرق شر ضروري.» ويمكن القول إن خطوة المؤتمر الوطني تلك لم تقع بعدها حتى اليوم خطوة تاريخية تعادلها جرأة في الدول التي تتعلق بها قضية عبيد أرقاء.
26
وهناك ناحية أخرى يحب أكثر مؤرخي الثورة السكوت عنها إذ يتحدثون عن المؤتمر الوطني، وهي: ناحية التموين وتوفير الإعاشة في وقت من أوقات الحرب كان عصيبا جدا على فرنسا. ولم يقف روبسبيير عند حد في كبح جماح الذين لا يرون في الأحوال العصيبة إلا فرصة للانتفاع الخاص، وكثير من الحملة على العهد الروبسبييري يرجع إلى ذكريات مزعجة تركها هذا العهد لمجوعي الشعب فخافوا أن تصبح خطته سنة تتبع.
وبعد عهد المؤتمر الوطني يقبل المؤرخون على عهد الإدارة
Le Directoire ، وهي حكومة جمهورية الصيغة قامت على قواعد دستور سنة 1795. ولا يغفل المؤرخون أن يذكروا أن هذه الحكومة سبقها عهد الردة الترميدورية على أثر إعدام روبسبيير ؛ فعادت إلى ميدان العمل عناصر ملكية (وجيروندية أيضا) همها الانتقام للأمس وإحداث المصاعب والمتاعب أملا بالرجعة. ومن المؤرخين من يذهب إلى أن 9 ترميدور وإزالة روبسبيير جاءا قبل الأوان، فتركا من الأثر والنفوذ للعناصر المعادية للثورة أو المترددة فيها ما جعل حياة فرنسا السياسية عرضة لدفع وجذب داخليين قويين. والذي لا شك فيه أن حكومة الإدارة ظهرت قاصرة عن معالجة المشاكل التي جابهتها؛ فقد وجدت أمامها الديون المالية الناشئة عن نفقات الحرب، ورأت تأزم التفاوت الاقتصادي بين طبقات الشعب، وكان في أعضائها فاسدون مرتشون
27
بعيدون عن النظافة الخلقية التي تجسمت في اليعقوبي الكبير روبسبيير، وكثرت خروق الحكومة للدستور،
28
واشتد حنق الشعب واستنكاره لحالة بؤسه، بينما انصرفت الهيئات الميسورة من المجتمع إلى حياة متعة وإسراف أوغلت فيها بعد عهد التقنين الروبسبيري والصوفية الثورية، وتكتل فقراء الشعب في باريس حول غراكوس بابوف وطالبوا بالمساواة الاقتصادية مع المساواة الحقوقية، فقمعتهم الحكومة، واصطدمت بالملكيين، واتضح أنها في الداخل بين ضغطين شديدين من اليسار واليمين.
وهكذا طرحت على بساط الضرورة مسألة حكم عسكري يضمن للطبقة التي قادت الثورة في الأصل (أي الطبقة الوسطى
Tiers Etat ) هدوءا داخليا، ويدفع بفرنسا في طريق التوسع الاستعماري؛ فكان نابليون قنصلا رئيسا، أول الأمر، بعد رجوعه من الحملة على مصر؛ وتلك هي «الفلتة» المعروفة ب 18 بريمير (سنة 1799)، ثم أصبح نابليون إمبراطورا متوجا موروثا سنة 1804، فانتهى عهد الجمهورية الأولى رسميا.
والمؤرخون يرون عادة في العهد النابليوني رجعة كلية عن مبادئ الثورة. ولا شك أن نابليون كان النتيجة المنتظرة للرجعة التي بدأت بالتاسع من ترميدور وإعدام روبسبيير، لكنها رجعة نسبية؛ فنابليون ظل يحمل مبادئ تقدمية حتى آخر عهده، وإن اختلفت أدوار حياته من هذا القبيل.
إن بونابرت، وهو ابن الثورة الذي خرج من رحمها وترعرع في حضنها، قد حمل شيئا عميقا من طابعها. ولا شك أن سيرته، بعد إعلان نفسه إمبراطورا على الخصوص، قد عملت على تعطيل كثير من ثمرات الثورة؛ وهذا ناتج عن صعوبة التوفيق بين الأمانة لروح الثورة وبين اتباع سياسة توسعية باتت تريدها الهيئة التي يمثل نابليون مصالحها بعد أن ضمنت لنفسها السيطرة في الداخل. لكن الرجل، في القانون المدني الشهير، بنى على التشكيل الجديد الذي تشكل به المجتمع الفرنسي نتيجة الثورة، وحمل في فتوحاته كثيرا من بذور المبادئ الثورية، بقصد منه أو بحتمية تاريخية؛ فلقد دفع بأوروبا في طريق اليقظة الوطنية والإصلاح، سواء أراد ذلك أم لم يرد. وصحيح أن الإمبراطور نابليون لم يأمر بالإصلاحات التي أدخلها فون شتاين مثلا على نظام بروسيا فاستقلت هذه الدولة ونهضت ودرجت في مدارج الشوكة والقوة، لكن فون شتاين وجماعته لم يكن ليفوتهم أن نهضة فرنسا التي استند إليها نابليون نشأت من الثورة وإصلاحاتها؛ ولذلك اتجهوا نحو الثورة الفرنسية لاستيحائها ورفع مستوى شعوبهم.
29
والدليل على أن الرجعة النابليونية لم تكن هي الرجعة الكبيرة، أن مؤتمر فيينا الذي أشرف على تنظيم أوروبا كان من أعظم همه محو المبادئ الجديدة؛ أي المبادئ الثورية التي ساعد نابليون على نشرها؛ فالرجعة الحقيقية هي رجعة مؤتمر فيينا سنة 1814 بعد سقوط نابليون النهائي. وكان مترنيخ الوزير النمسوي الموغل في كره الثورة ومبادئها يصفها ب «الوحش الفاغر فكيه لابتلاع النظام الاجتماعي»، وإذا ذكرت إيطاليا التي سار بها نابليون شوطا بعيدا نحو إنشاء «وطن» وتأليف «أمة» يقول: «إيطاليا اصطلاح جغرافي!» وهو يقصد بذلك إلغاء حقها في إنشاء وطن وتأليف أمة.
ولكن من قوانين التاريخ أن الرجعة العامة يستحيل أن يثبت أمرها، ولقد أصبحت أمور مستحيلة في العالم بعد الثورة الفرنسية. ومن هنا لم يلبث مترنيخ أن وجد نفسه مضطرا إلى الهرب من إحدى نوافذ قصره في فيينا خوفا من الجماهير الصاخبة في الشارع. إن مبادئ الثورة لاحقته في عاصمة بلاده وطردته منها؛ ومن هنا لم يستطع مؤتمر فيينا أن يحل المشكلة التي أثارتها الثورة الفرنسية؛ فكان تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر (ويمكن أن نقول: تاريخ العالم كله تقريبا) نزاعا بين الروح السارية المنبثقة من ثورة فرنسا وروح مؤتمر فيينا. ولا يزال التاريخ اليوم، إلى حد كبير، مظهرا من مظاهر هذا النزاع.
بالطبع إن مؤرخ الثورة الفرنسية الكبرى لا يستطيع أن يقف عند انتهاء العهد النابليوني، ولو اقتصر على التاريخ الفرنسي وحده؛ فإن هذه الثورة التي أوجدت الوطن الفرنسي والوطنية الفرنسية بالمعنى العصري، وأعطت فرنسا تقاليدها في العمل السياسي ونظام الحكم، ظلت موضوع تآمر من قبل الرجعية. وقد أعقبتها في التاريخ الفرنسي ثورات كانت لها أشبه بملاحق قصيرة، كثورة الثلاثة أيام المجيدة
Les Trois Glorieuses
سنة 1830 على شارل العاشر ووزيره بولينياك، وثورة 1848 على الملك لويس فيليب وهي الثورة التي افتتحت عهد «الجمهورية الثانية». ولما استقرت الجمهورية الأخيرة، وهي الثالثة، كانت مرتكزة إلى قواعد من ثورة 1789 وتواليها.
30
وهنا يخرج بنا الحديث إلى ذكر المجاري التي تسربت خلالها مبادئ الثورة وأفكار أعلامها ووصف وقائعها إلى الشرق والبلاد العربية والأدب العربي.
الفكر وعامله في الثورة
الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي، وجعلت الحرية تعبد كالآلهة، كانت فكرا خياليا مرتعشا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف الرجال.
1
جبران خليل جبران في الأجنحة المتكسرة
إن الفرد إنما هو صوت واحد ينطق باسم ملايين من الناس الصامتين؛ فالرجل العظيم إنما هو عظيم بشعبه لا بنفسه. هو يستمد معظم قوته مما يحيط به من الأشياء والظروف والرجال. (أمين الريحاني في مقالة ينتقد فيها تاريخ كارليل عن الثورة الفرنسية)
أما أن الفكر كانت له يد في إيقاد الثورة الفرنسية، فذلك ما لا يضعه مؤرخ موضع الشك والجدال. وقد كان للفكر، ولا يزال، أثره الكبير في أحداث الانقلابات، من عنيفة سريعة أو سلمية بطيئة.
وغني عن البيان أن موضوع هذا الكتاب يستدعي فصلا عن أعلام المفكرين الفرنسيين الذين سبقوا الثورة فكانت آراؤهم ومذاهبهم عاملا من عوامل التمهيد لها، ثم كانت أشبه بمصابيح درج على ضوئها كبار الثورة وقادتها. على أن المؤرخ حين يعرض لتأريخ الأفكار يجد نفسه فورا أمام عقدة محيرة: من أين يبدأ؟ فحقل الأفكار، الذي يجده زاهرا في دور من الأدوار، يجد منه بذورا في عصور سبقته حتى بمدى طويل أحيانا.
2
وقد كان لنا معلم يستخف بنا كلما عالجنا موضوعا فبدأنا ببدء العالم وقلنا في فاتحة الإنشاء: خلق الله الدنيا ... على أن عملنا، والحق يقال، لم يكن خلوا من الحقيقة؛ لأن كل موضوع يكاد يبدأ تقريبا ببدء العالم.
غير أن مؤرخي الثورة يركزون اهتمامهم على دور الانقلاب العقلي الذي سبق الثورة في القرن الثامن عشر. كان هذا القرن دور نضج للأفكار التي بزغت وتطورت وغلبت على أذهان أعلام الثقافة، نتيجة لحرية الكشوف الجغرافية العلمية التي بدأت في القرن الخامس عشر،
3
ونتيجة لنهضة الإحياء
La Renaissance
التي ظهرت في القرن السادس عشر.
4
فحركة الكشوف الجغرافية، وإن اقترنت بمطامع في الكسب التجاري والنهب وكانت مقدمة للاستعمار الحديث، فقد صرفت نظر الإنسان الأوروبي إلى الأرض ودفعته نحو التفكير والبحث العلمي والاختراع. وحركة الإحياء، بما بعثت من كنوز القديم اليوناني والروماني، وبما أحيت من المثل الكلاسيكية، وبما استقت من مناهل الحضارة العربية في الأندلس خاصة، أيقظت الإنسان الأوروبي على تذوق الجمال الدنيوي، وتلمس المعرفة العلمية، وحب الاستقلال في البحث، فكان في أوروبا موسم عظيم من اللوحات الفنية والرسامين، ونتاج خصب من التأليف الفلسفي والأدبي في أصول الفكر والخلق والتعامل الإنساني. يضاف إلى ذلك فتوحات في الدراسات الفلكية والطبية والطبيعية على وجه عام. ولمعت في الأفق الأوروبي أسماء كليوناردو دافنشي وغاليله ورابليه ومونتين وسيرفنتس وأراسم وكوبرنيك وفيزال الطبيب وجيوردانو برونو؛ أسماء تلتفت إلى القديم البعيد أو القريب، وتقترن بأرسطو وأبوقراط وابن رشد وابن سينا، وتفتتح تلك القافلة المجيدة؛ قافلة باكون وكبلر وديكارت وسبينوزا وليبنتز ونيوتن وبسكال ورهط كبير من الأدباء، وتستمر متسلسلة في قافلة القرن الثامن عشر؛ قافلة مونتسكيو وروسو وكوندياك وهيوم ولوك ولامتري وآدم سمث وكسناي وفولتير وهلفيثيوس وديدرو وكوندورسه ودولباخ وغيرهم وغيرهم ...
وحسبنا، وفاء للغرض من هذا الكتاب، أن نعيد القول إن حركة الإحياء، مع ما ساوقها أو تبعها من النهضة الصناعية في أوروبا، ومن حركة الانفصال البروتستنتي، قد شجعت روح البحث المستقل، ووطدت الثقة بالعقل، ووافقت نهضة علمية كبيرة، وأسفرت عن تغير عميق في نظر الإنسان إلى نفسه.
ومن المستغرب أن يكون علم منعزل كعلم الفلك في طليعة المعارف التي ساقت إلى مثل هذا التغير، بل الثورة. لقد بين علم الفلك أن كرة الأرض ليست بمركز الكون الثابت، ولا هي أعظم وأهم ما في النظام الكوني، بل هي جرم متحرك في جملة أجرام تدور حول الشمس، فكانت النتيجة أن طرأ على الإنسان شك في أنه هو الغاية من الوجود والوليد المدلل الذي صنع كل شيء لأجله بتدبير في أصل الخلق. وفكر الإنسان أنه إذا كان حقا غاية، فهو الذي جعل نفسه غاية، وأنه، في الواقع، ربما لا يزيد على كائن، بل حيوان صغير، على كرة صغيرة، في كون هائل عظيم، له قوانينه الخاصة المستقلة عن مراعاة الخواطر البشرية. وربما استشعر الإنسان في هذا ما يحمله على اليأس والقنوط وفقدان الثقة بالنفس، كما وقع ل «غوته» لما اطلع على كتاب نظام الطبيعة للبارون «دولباخ».
5
إلا أن الإنسان سرعان ما عرف أن لديه من العلم وسائل تشد عضده وتقويه على الطبيعة المحيطة به. وهكذا استعاد أهميته في نظر نفسه، لا بانفراده في تدبير عناية سخرت له مبدئيا كل شيء، بل بشعوره الذاتي بمدى تأثيره وتأثير الوسائل التي يستطيع استنباطها واستعمالها. ومن هنا حول وجهه شطر العلم، ومن هنا أيضا طفق يزداد اهتمامه بالإنسان في مطلع العصور الحديثة في التاريخ الأوروبي. واهتمام الإنسان بالإنسان أدى حتما إلى الاهتمام بمسألة الاجتماع. ومن ذلك العهد بتنا نرى المفكرين في أوروبا منصرفين إلى درس المجتمع، تحثهم فكرة أساسية هي: أن الإنسان يقوي الإنسان، أو أن الإنسان - بعبارة أخرى - وسيلة للإنسان. ودرس المجتمع قادهم إلى درس الدولة والسياسة، ولكن ثمة مسألة ما لبثت أن عرضت، وهي: أن الإنسان يجب ألا ينسى أن الإنسان غاية أيضا، لا وسيلة وحسب! والمجتمع الصالح (والدولة الصالحة والسياسة الصالحة) إنما هو الذي يكون فيه بعض الناس وسائل وغايات للبعض الآخر، باعتبار كل إنسان له حقوق محترمة.
أفاق المفكرون والأدباء الفرنسيون (وهم موضوع الحديث في هذا الفصل ) على المجتمع الفرنسي، قبل الثورة في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، فوجدوا أن معظم الفرنسيين، من حيث وضعهم في المجتمع والدولة ومسالك السياسة، إنما هم وسائل لبعض الفرنسيين، وليسوا غاية أيضا كما يحق لهم أن يكونوا.
وعمد المفكرون والأدباء الفرنسيون إلى الاحتجاج على الحالة الراهنة، وتلمس أسباب الفساد، ووضع الخطط، ورسم هيئة المجتمع الجديد.
وكان من اليقظة العظمى التي ثارت ثورتها مع حركة الإحياء، والنهضة الصناعية، وحركة الإصلاح البروتستنتي، وفورة البحث والاستنباط العلمي، مرجع يستمدون منه، ودليل يسترشدون به.
وقد ذكرنا كيف أن هذه الحركات نشطت العلم وصرفت إليه الجهود. والعلم صرح يرتكز على دعائم العقل؛ فلا علم بلا عقل يختبر بالاستناد إلى الحواس والأدوات الفنية المساعدة لها، ولا علم بلا عقل يرجع إلى قوانين المحاكمات العقلية لا إلى موجبات النقل والتقليد، ثم لا علم بلا مباشرة الطبيعة؛ فالطبيعة، بما فيها المخلوق الإنساني، هي ميدان العلم ومجاله الذي فيه يخوض؛ فلولا الطبيعة لبقي العلم بلا موضوع، أو لما كان علم.
وهكذا اتجه المفكرون والأدباء الفرنسيون إلى العقل يصقلونه ويتسلحون به، وإلى الطبيعة يدرسونها ويتعلمون منها، واستعملوا ذلك كله في بحث الاجتماع والدولة والسياسة، وفتحوا الأنظار على النقص الهائل، واشتقوا طرقا إلى الإصلاح.
ولا ريب في أنهم وجدوا لهم معينا في المفكرين البريطانيين وغيرهم، وفي الثورات التي سبقت عهدهم، كثورة «البلدان المنخفضة» على فيليب الثاني الإسباني، وثورة الإنكليز، ثم الثورة الأميركية القريبة العهد.
6
وبالطبع إن قسط كل من هؤلاء المفكرين والأدباء في التهيؤ النفسي للثورة يختلف باختلاف نزعاتهم ودرجاتهم. وكثيرا ما كانت أدوار بعضهم، في هذا الصدد، لا تتعدى هتفة عاطفية يهتفون بها، أو لغزا كاللغم يخفي مظهره المموه قوته الناسفة. وقد يقرأ قارئ خرافات لافونتين في القرن السابع عشر فلا يتنبه إلى ما فيها من المغازي الاجتماعية والسياسية، ثم يقرأ كتاب هيبوليت «تين» عن لافونتين فينشق له حجاب عالم الحيوان، الذي يسبح فيه الشاعر، عن عالم الإنسان، بل عن المجتمع الفرنسي في زمانه. ويمشي القارئ في بهو مليء بالصور سماه تين معرض لافونتين أو متحفه
Galerie de La Fontaine ، فيرى لوحات من المجتمع الفرنسي وسياسته معروضة في أشكال من عالم الحيوان، ووقائع رمزية بين طيور وبهائم. وحكاية المؤتمر العجيب الذي اجتمعت فيه الحيوانات في وقت من أوقات الوباء لتبحث في سبب النكبة، ليست إلا نقدا ثوريا لاذعا سدده الشاعر إلى الحالة الراهنة في فرنسا. وقد أسفر «المؤتمر» عن أن جميع الذنوب والآثام التي اقترفتها المخلوقات الصاعدة في سلم العجماوات، كالأسد وجماعته (أي الملك وحاشيته والهيئات البلاطية)، لم تكن السبب الذي جر النكبة، ولكن قضم الحمار لبعض الحشيش من ساحة الكنائس هو الذي جلب الويل والثبور وعظائم الأمور! وواضح أن ما عناه الشاعر بالحمار الكادح الساذج هو هيئات الشعب التي عليها الغرم ولغيرها الغنم.
7
لكننا، إذا رحنا نتأمل التيار الثوري الفكري في القرن السابع عشر في فرنسا، لم نجد لافونتين منغمسا فيه انغماسا صريحا، وكان حتما علينا أن ندير النظر شطر طائفة من الأدباء والمفكرين يمثلها لبرويير وفنيلون.
كان لابرويير في ملاحظاته وأحكامه الخلقية يرى الناس فريقين: الشعب والعظماء (بمعنى النفوذ والوجاهة في المجتمع). «أما الشعب فلهم باطن طيب (جوهر صالح) وليس لهم مظهر البتة، وأما العظماء فليس لهم إلا الخارج، إلا المظهر وقشرة بسيطة. أيجب الاختيار؟ إني لا أتردد، أريد أن أكون شعبا» (أي من الشعب).
وكان الأديب الراهب فنيلون مثلا رائعا من أمثال الجرأة الفكرية. وفي المؤلفات التي أنشأها تهذيبا للدوق دو بورغون، ولا سيما محاورات الأموات
Dialogues des Morts ، تبدر على سن قلمه بدرات عجيبة لم تلبث أن أيدتها الوقائع في حياة فرنسا السياسية والاجتماعية؛ ففي فصل الحوار بين سولون وبيزيسترات (وكلاهما رجلا دولة إغريقيان) يقرر فنيلون أن الاستبداد غالبا ما يكون أشد وبالا على الملوك منه على الشعوب. وفي كتابه ألواح شولن
Tables de Chaulnes
يطالب - في إحدى مواد البند الثاني - مطالبة صريحة بتأسيس المجالس العامة
Etats Généraux ، هذه المجالس التي كان اجتماعها في باريس سنة 1789 فاتحة المرحلة الثورية العظيمة. وله رسالة وجهها إلى لويس الرابع عشر بلغت غاية في الجرأة والصراحة، وشجب سلوك هذا العاهل الذي صاح: «أنا الدولة!» وأنفق ما أنفق في المغامرات الحربية، وشيد بلاط فرساي الرائع وكأنه جعله واجهة براقة لدولة تتأزم مشاكلها ولشعب يتململ ويتبرم. قال فنيليون في رسالته:
إن الشعب نفسه (ينبغي أن أصرح لك بكل شيء)، هذا الشعب الذي أحبك كثيرا، ووثق بك كثيرا، أخذ الآن يفقد حبه وثقته واحترامه، حتى احترامه لك ... إنه ممتلئ مرارة ويأسا، والشقاق يشب شيئا فشيئا من كل ناحية. إن الشعب يعتقد أنك لا تحب غير سلطتك ومجدك؛ فهم يقولون: لو كان للملك قلب الأب على شعبه أما كان يؤثر أن يبذل مجده في إعطائهم خبزا وتنفيس كربتهم بعد هذا الأذى الكثير؟ ... فما جواب ذلك، أيها السيد؟ ثم يذكر فنيلون أعمال العصيان التي طفق الشعب يقوم بها، إلى أن يقول له: «فأنت الآن قد انحططت إلى هذه النهاية المعيبة المحزنة؛ فإما أن تدع العصيان وشأنه لا تعاقب عليه، وإما أن تزيده وتقويه بتغاضيك عنه، وإما أن تجزر بقسوة شعبا طرحتهم مطرح اليأس إذ نزعت منهم، بالضرائب لهذه الحرب، خبزا يسعون إلى إحرازه بعرق جباههم!»
وفي فنيلون نجد مبدأ اعتبار العقل والرجوع إليه في الأحكام صريحا واضحا. يقول الراهب المفكر: «أنا في هذا العالم لا أدري من أين جئت ولا كيف وقعت هنا، ولا أدري إلى أين أمضي، وبعضهم يحدثني عن أمور كثيرة ويعرضها علي باعتبارها غير قابلة النقاش، ولكني مصمم على الشك فيها، بل على رفضها، ما لم أجد أنها تستحق إيماني بها. ومنفعة العقل الصحيحة - العقل الذي وهب إلي - هي ألا أومن بشيء ما لم أعرف سبب إيماني به.»
لكن بيير بايل
يخطو بنا خطوة أخرى إلى الأمام في طريق الانعتاق الفكري، ووسيلته إلى ذلك كثرة الشك والتساؤل وتقليب القضايا على محتملات وجوهها.
8
وإذا لزمنا أن نجعل المذهب العقلي ونهضته في أوروبا الحديثة مدينين لبضعة مفكرين كديكارت وأمثاله، فبيير بايل أحدهم. وفيه يقول برونتيير الناقد الفرنسي الشهير: في فرنسا وإنكلترا وألمانيا، وفي أوروبا كلها ... حيثما بدأ الناس يشكون، تخرج من مدرسة بايل جيلان أو ثلاثة من الكتاب. وكأن كلا من مونتسكيو وفولتير وديدور وروسو وهلفثيوس - عدا آخرين أقل شأنا منهم - قد تلقن في كتاباته أن يقرأ ويحاكم ويفكر.
وأهم ما أنتجه هذا الأستاذ الواسع العميق من أساتذة الفكر: قاموس تاريخي وانتقادي. ويمكن القول إن كل نشاطه الفكري ينتهي إلى تقرير حق العقل وحق الضمير في البحث الحر والرأي المستقل. وقد لخص هذا المبدأ في قوله: «لنا حق لا يهضم ولا يثلم، هو: حق إعلان المذاهب التي نعتقدها موافقة للحقيقة المجردة»، وفي قوله أيضا: «أعظم المحاكم التي هي المرجع الأخير - لا استئناف منها إلى غيرها! - محكمة العقل الذي يقول مهتديا بالبديهيات الصادرة عن نور الطبيعة.»
ويلاحظ القارئ أن بايل بدأ يتحدث عن «حقنا الذي لا يهضم ولا يثلم»
Droit Inaliénable ، وعن «البديهيات الصادرة عن نور الطبيعة»، وهي تعابير وأفكار نلتقيها لدى مفكري الثورة، بل في نصوص الثورة نفسها.
ويكفينا هذا القدر من القرن السابع عشر وأدبائه ومفكريه. فلننتقل إلى القرن الثامن عشر، وهو الموسوم ب «عصر الأنوار» و«الاستنارة»،
9
والعصر الذي وقعت الثورة في أوائل ربعه الأخير، وملأت منه هذا الربع كله تقريبا، وجعلته في نظر الفكر العالمي، وفي تقدير التاريخ، عصرا فرنسيا على الأعم والأغلب.
وتطالعنا في خلال هذا القرن ستة وجوه رئيسة: مونتسكيو، وديدرو، وفولتير، وروس، وهلفثيوس، ودولباخ.
أما مونتسكيو، صاحب «روح القوانين والرسائل الفارسية»، فهو الذي حاول أن يكتشف في التاريخ عوامل أساسية تجعل من حوادثه ظاهرات مفهومة، لا صدفا واتفاقات؛ فهو من هذا القبيل شبيه بابن خلدون في مقدمته. ويتصف مونتسكيو بكثرة الرجوع إلى أثر العامل الجغرافي في التاريخ. على أن توسيع البحث في هذا المضمار يخرج بنا عن القصد، وحسبنا أن هذا المفكر الفرنسي نظر إلى التاريخ نظرة عقلية، ورده إلى عوامل من البشر ومحيطهم، لا إلى أسباب خارجة، وإلى العقل الإنساني رد الشرائع والقوانين باعتبارها مظهرا من مظاهر التاريخ، قال: «القانون، بوجه عام، هو العقل البشري، ما دام العقل هو الذي يحكم شعوب الأرض جميعا. والقوانين السياسية والمدنية - فيما يتعلق بكل أمة - يجب ألا تكون إلا الحالات الخاصة التي يقع فيها تطبيق العقل البشري .»
ثم يقسم مونتسكيو القوانين نوعين: (1)
تلك التي ترتب نظام الدولة، كعلاقة المواطنين بالسلطات، وعلاقة السلطات المختلفة بعضها ببعض (وهو ما نسميه الدستور أو القانون الأساسي). (2)
القوانين المدنية التي تشرف على علاقة المواطنين بعضهم ببعض (وهي ما نسميه الحقوق المدنية والجنائية).
أما السلطات المختلفة في الدولة فهي ثلاث:
أولا:
السلطة التشريعية.
ثانيا:
السلطة التنفيذية التي تجري الأمور المتعلقة بحق الناس.
ثالثا:
السلطة التنفيذية التي تجري الأمور المتعلقة بالحق المدني.
وواضح ما كان لهذا التقسيم من أثر في التصميم الذي اختطه رجال الثورة الكبرى في الدولة الفرنسية، بل واضح ما في هذا التقسيم من أثر بارز إلى اليوم في بناء الدول، ولكن السلطة التنفيذية (رقم 3) أصبحت في تعبيرنا تسمى السلطة القضائية.
ويقول مونتسكيو إن هذه السلطات الثلاث يجب أن تستقل كل منها عن الأخريين إذا كان المراد توطيد الحرية.
10
ويشيد مونتسكيو بالمساواة، ولكنه لا يقصد بها انتفاء الحكم؛ «فالمساواة الصحيحة لا تستهدف أن يخلو الإنسان من آمر، بل تستهدف أن يكون آمره مساويا له»، و«الناس في الحكومة الجمهورية متساوون، وكذلك هم في الحكومة المستبدة؛ ففي الأولى هم متساوون لأنهم كل شيء، وفي الثانية هم متساوون لأنهم ليسوا شيئا.» ومع هذا لم يكن مونتسكيو جمهوريا، بل كان أميل إلى حكم الملكية المقيدة (أي الدستورية).
ويلقي مونتسكيو على عاتق الدولة واجب النظر في تأمين راحة رعاياها الاقتصادية، فيقول: «إن بعض الصدقات التي نتكرم بها على رجل عار في الشارع لا تغني عن واجبات الدولة التي يلزمها أن تجعل لكل المواطنين حياة مضمونة؛ غذاء وكساء صالحا، ونوعا من معيشة لا ينافي الصحة.» غير أن مونتسكيو كان في هذا سابقا لعصره ولهدف الثورة الفرنسية.
وله في تعريف الحكومة الاستبدادية كلمة رائعة حيث يقول: «عندما يريد متوحشو لويزيانا قطف الثمار يقطعون الشجرة من أصلها ويتناولون منها ما يريدون. تلك هي الحكومة الاستبدادية.»
11
ومقصده هو أن الحكومة الاستبدادية لا تنتج، ولا تعين على الإنتاج، بل تأخذ ما تريده لساعتها، ولو كان ذلك بطريقة فيها إتلاف المنتج وقطع مصدر الإنتاج. وفي هذا رائحة تنديد بالسياسة الفجة التي كان ينتهجها البلاط الفرنسي لسد نفقاته وحفظ الموازنة، سياسة شعارها: كلما احتجتم افرضوا على الشعب الضرائب، وإذا اضطررتم فسموها قرضا شعبيا.
وقد يكون من المفكرين من ينكر على مونتسكيو ثورته وتأثيره الثوري. وصحيح أن الرجل كان كما أسلفنا أميل إلى الملكية المقيدة؛ فهو من هذا القبيل معتدل، ثم هو لا ينظر في السياسة إلى ناحية المبادئ وحسب، بل ينظر أيضا إلى الذين تطبق عليهم المبادئ، ويحسب الحسابات لجملة اعتبارات أخرى منها الإقليم والمناخ. ثم هو يعرف الحرية بأنها الخضوع للقانون الكامل. وليس في هذا كله ما يلغي ثوريته وتأثيره الثوري؛ فالاعتقاد بالملكية الدستورية كان مذهبا انقلابيا خطرا في فرنسا يوم ذاك، وأوجه أعلام الثورة الفرنسية في مفتتح شأنها كميرابو وباراناف وسيياس، كانوا ملكيين دستوريين، بل إن الثورة نفسها في أول عهدها لم تكن تستهدف إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية. وتقسيم النظر بين المبادئ والذين تطبق عليهم يزيد في قيمة مونتسكيو العلمية ولا يعارض ثوريته. أما رأيه في الحرية أنها الخضوع للقانون الكامل فمغزاه يتوقف على المقصود بالقانون الكامل. ومهما يكن من شيء فإن مونتسكيو لم يعن به القانون الاستبدادي. أما القانون، أصلا، والرضوخ له، فأمر لا يشك عاقل في أنه شرط من شروط الحرية ووقايتها.
ومع ذلك يجوز لنا القول إن مونتسكيو لما عرف الحرية بأنها الخضوع للقانون الكامل، نسي عنصرا لا بد منه للحرية هو: ضرورة اشتراك الذين يطيعون القوانين في وضعها.
12
ومن مونتسكيو ينتقل بنا الحديث إلى فولتير، ملك القرن الثامن عشر غير المتوج كما لقب، والعاهل الذي ليس له صولجان ولكن له يراع كما قال هو عن نفسه لفردريك الكبير البروسي.
قد يكون فولتير غير عميق، وقد يكون قليل الثقة بجماهير الشعب، على أن سعة الآفاق التي تناولها، وسخره اللاذع وشكه، واحتكامه إلى العقل، وحماسته للعلم، وعناده في المقارعة، وتوجيهاته الجديدة في بعض المواضيع،
13
ودفاعه عن حرية الرأي ، ذلك كله مضافا إلى قلم من أصفى الأقلام وأخصبها، وأسلوب من أقرب الأساليب إلى الشعب، جعله في طليعة الأعلام الذين أيقظوا النفوس والأذهان وبعثوا فيها الحرارة لاستقبال عاطفة الثورة ولفحها الحار.
أضحك فولتير فرنسا وأوروبا على الدعوى والسخافة والتعصب والتذرع بحماية المناصب والمقامات، وأغضب فولتير فرنسا وأوروبا على جميع هذه العاهات والآفات.
كان إذا باع وكيل الخرج في بلاط لويس الرابع عشر نصف الخيول من إسطبلات الملك يصيح: كم كان أقرب إلى المعقول لو صرف نصف الحمير الذين يعج بهم البلاط الملكي! فكان الفرنسيون يقهقهون بالطبع، ثم لا يلبثون أن يتأملوا بذخ البلاط ويستنكروه ويسخطوا عليه.
ولا ريب أن هذا الساخر (الفج أحيانا) كان شديد الخبث والنعومة أيضا؛ فكان يستغلق على سامعه تمييز عبثه من جده، وقدحه من مدحه. وقد نفث خبثه على كثيرين، منهم «المسكين»
Fréron
الذي حكى عنه فولتير أن الحية لدغته فماتت فلم يعرف أماتت الحية لقداسة الملدوغ أم لأن سمه أسرى من سمها وأفتك؟
14
ولعل أول سؤال ينبغي لقارئ فولتير أن يسأله: هل الرجل جاد في كلامه أم عابث؟ وسيرى أنه كثيرا ما يكون صاحب جد عظيم فينظر إلى الشعب «يسبح الله ويرقص حول الجزار»، ويستمع إلى الإنسان يصرخ بجاره: «فكر كما أفكر يا قليل التقوى وإلا قتلتك»، فيحاول الفيلسوف تعليل ذلك ويقول:
السبب أننا خنقنا صوت الطبيعة.
السبب أننا أضفنا إلى شريعتها المقدسة شرائع.
السبب أن الإنسان - وهو محب لعبوديته البلهاء - قد جعل الله على صورته ومثاله من شدة تعصبه!
وفولتير هو صاحب ذلك الابتهال البليغ الذي زفه إلى الله في مطلع رسالته في التسامح، ومنه: «إنك لم تعطنا قلبا لنتباغض، ولم تمنحنا الأيدي ليخنق بعضنا بعضا.»
أما الوطن «ففي ظل ملك صالح يكون للإنسان وطن، ولكنه في ظل ملك شرير لا وطن له.» هكذا يقول فولتير.
والدين يجب أن يستند إلى العقل، وهذه هي العقيدة الربانية
Déisme ، عقيدة الكائن الأعظم
L’Etre Suprême
التي نجدها لدى أشهر أعلام الثورة: مكسيميليان روبسبيير.
وفولتير في الأنظمة كمونتسكيو أميل إلى الملكية الدستورية .
يؤدي بنا الحديث إلى دنيس ديدرو، فإذا نحن أمام الروح المحرك لذلك العمل العظيم الذي وسم بميسم متلألئ جبين القرن الثامن عشر؛ نقصد الإنسيكلوبيديا التي ساهم فيها عدد من أعلام العصر، ولكن لم يبلغ فيها نشاط أحد منهم ما بلغه نشاط ديدرو وعناده. وكان في فرنسا قانون مطبوعات أعلن سنة 1757، يهدد بالإعدام كل كاتب أو طابع ينشر كتابا تقضي السلطات أن من شأنه «الإخلال» و«التحريض». على أن هذا الخطر وجميع الصعوبات الأخرى لم توهن عزيمة الرجل. ومن يقرأ له صرخته الممزقة احتجاجا على تشويه المراقبة لعمله في الإنسيكلوبيديا لا يملك إلا أن يرتعش إعجابا بتلك النفس الكبيرة المعذبة.
بنى ديدرو على العقل، ولكنه رأى أن التأملات العقلية المنقطعة عن الاختبارات العملية لا تغني؛ ولذلك قال: «لدينا ثلاث وسائل رئيسة: ملاحظة الطبيعة، والتأمل، والتجربة (التطبيق). أما الملاحظة فتقمش
15
الحقائق والمظاهر، والتأمل يوفق بينها، والتجربة تصدر حكما على النتيجة؛ فللتجربة (التطبيق) الكلمة الفصل في العلم».
وكان ديدرو عميق الشعور بطبيعة عصره الانقلابية، لا سيما فيما يتعلق بالعلوم. «نحن على عتبة ثورة عظيمة في العلوم.» ولعل أحدا في فرنسا لم يمثل، كما مثل ديدرو، روح الثورة الصناعية الممتدة من الجزر البريطانية إلى فرنسا عبر القناة. وكم كان اهتمامه عظيما بالآلات! كان كفرنسيس باكون الإنكليزي يحس بما سيكون لهذه المستنبطات من أثر يغير طابع الحياة؛ فكان كثيرا ما يشاهد في حوانيت النجارين، وفي مختلف أماكن العمل، يرسم الآلات بقلمه ويسجل أوصافها وخصائصها ليدخلها في الإنسيكلوبيديا.
حقا إن ديدرو كان في ميدان الفكر طليعة صريحة للطبقة الصناعية النامية في المجتمع الفرنسي إذ ذاك، وهي الطبقة التي سنرى أنها بدلت فرنسا تبديلا بثورة سنة 1789.
وكانت ثوريته حادة في جميع الآفاق التي تناولها بتفكيره. وبينما نجد أحيانا في قراءة فولتير مجرد دعوة إلى الضحك على آفات الأوضاع القائمة، نحس أبدا في ديدرو دعوة إلى العمل.
ربما لا يختلف مضمون آرائه السياسية والدينية واتجاهاته الاجتماعية عن فولتير مثلا؛ فهو في النتيجة يشجب الملكية المطلقة ويطالب بتقييدها، ويفضل العقيدة الربانية
Déisme
إن كان يفضل، ولا يسمي مواطنا إلا الذي يملك ملكا في الوطن.
16
غير أن ديدرو أحد سكينا من فولتير، وأشد توغلا في التشريح والتشهير. وربما وضع فولتير سكينه على الضحية فشعرت بمس الحديد البارد واقشعرت قليلا ولكن الأمر ينتهي بخدش بسيط. على أن ديدرو لا يضع سكينه إلا ليدمي.
وبعد ديدرو: هلفثيوس صاحب كتاب «في الروح»
De l’Esprit .
وإن القارئ ليصادف عنده أفكارا وتعابير يصادفها هي ذاتها في الثورة الكبرى.
يثق هلفثيوس ثقة قوية بفضيلة الشعب والإنسان، ويعتقد أن شرور الشعب ترجع جذورها إلى القوانين؛ فهناك ينبغي أن يحفر كي يكشف عن شرور الشعب ... والشارع الصالح هو الذي ينشئ المواطن الصالح، وبالقوانين الفاضلة وحسب يمكن إنشاء رجال أفاضل.
وهكذا يعلق هلفثيوس أهمية كبرى على صلاحية القوانين، ولكن نظرته الشاملة مبنية أصلا على قاعدة من التربية الصالحة. يقول: «إذا استطعت أن أدل على أن الإنسان ليس في الواقع إلا نتيجة التربية فأكون بلا شك قد أعلنت حقيقة عظيمة للأمم.» ويتساءل: «من يستطيع أن يشك شكا جازما بأن فروق التربية ليست هي التي تنتج الفروق التي نجدها في العقول؟ من يستطيع أن يتأكد من أن الناس ليسوا كالأشجار التي هي من فصيلة واحدة، بذرتها البذرة نفسها، ولكنها لما كانت لا تزرع في التربة نفسها، ولا تعرض للرياح نفسها، ولا للشمس نفسها، ولا للمطر نفسه، فقد لزمها في النشأة والنمو أن تتشكل بعدد لا نهاية له من الأشكال.»
ولا ريب أن هذا رأي فيه كثير من المغالاة، ولو فرضنا من الممكن أن يصبح الناس بالتربية نسخا بعضها طبق بعض كما قد يشير كلام هلفثيوس لكان ذلك شيئا مستكرها. على أن هلفثيوس أعلن عقيدة ثورية بعيدة المرمى إذ قال: «إن استنتاجي العام هو أن العبقرية عامة»، فنسف بذلك رأيا يقول إن العبقرية وقف على عرق من الناس أو فئات خاصة من المجتمع، وقوى الثقة بكفاءات الشعب والإنسان. وجاءت حوادث الثورة مؤيدة له ومحيرة أفهام الكثيرين ممن كانوا يزعمون أن الجيش الفرنسي الثوري لا يجدي فتيلا ما دام أفضل ضباطه وقواده قد هاجروا أو طردوا أو أعدموا؛ فلم يلبث هذا الجيش أن أتى بأعمال عسكرية أدهشت أوروبا بقيادة قادة برزوا من أعماق الشعب كهوش ونابليون نفسه!
ويقودنا هلفثيوس إلى هولباخ
Baron d’Holbach
البارون المجري الذي اكتسب الجنسية الفرنسية وأصبحت له ندوة منزلية
17
تفتقت فيها الجدالات والعقول عن مبادئ كان لها أثرها في تمهيد السبيل إلى الثورة. وأشهر مخلفات هولباخ كتابه «نظام الطبيعة»
Système de la Nature
الذي قطع فيه بضرورة انصراف الإنسان عما وراء الكون إلى الكون نفسه. «إن الإنسان موجود في الطبيعة وهو مطوع لقوانينها لا يستطيع أن يعتق منها ذاته. وعبثا يصر عقله على الوثوب إلى ما وراء العالم المشهود. إن ضرورة قاهرة أبدا تشده إلى الرجوع.»
وفي ميدان السياسة والاجتماع يطالب هولباخ بالحرية، ويحددها «بأنها قدرة الإنسان على اتخاذ التدابير التي تضمن له وجودا حسنا.» ولا ضمانة للحرية في رأيه إلا بالقوانين التي «تحمي الجميع حماية متساوية؛ الأغنياء والفقراء، العظماء والصغار، الملوك والرعايا.» وهكذا يضع هولباخ سلطة القوانين فوق سلطة الجميع، حتى الملوك. وإذا ذكرنا أن لويس السادس عشر مثلا كان يقول معبرا عن رأي الملوك الأوتوقراطيين: «لي وحدي سلطة التشريع دون اعتماد على غيري أو معاونة»؛ ومعنى هذا أنه فوق القوانين لأنه يغيرها ساعة يشاء ما دامت سلطة التشريع منحصرة فيه. أجل، إذا ذكرنا هذا عرفنا أن مبدأ هولباخ في جعل القوانين فوق الجميع حتى الملوك كان مبدأ ثوريا. وكذلك قوله: «الحرية ألا يطيع الإنسان إلا القوانين» كان رأيا ثوريا؛ لأنه يعرض فيه بأصحاب العروش الذين يرون الطاعة واجبة لمطلق أشخاصهم.
18
أما صيغة هذه القوانين فتشتق من طبيعة السياسة العامة. والسياسة العامة في نظره يجب أن تكون فن تنظيم ميول الإنسان وتوجيهها إلى إنعاش المجتمع، وإلى تيار عام من السعادة. إنها يجب أن تنظم عواطف الإنسان لتجعلها تنسلك انسلاكا لطيفا من أجل نفع الجميع منفعة عامة.
فينتج من هذا أن القوانين ينبغي لها أن تكون في مصلحة المجموع، لا في مصلحة ذوي المقامات وحدهم.
وهنا يذهب بنا الكلام إلى جان جاك روسو، وهو أشد المفكرين صلة بالانقلاب الفرنسي الكبير، وقد يلقب كتابه «العقد الاجتماعي» بإنجيل الثورة. وكان روبسبيير من تلاميذه المتمسكين به، وكان ماراه الزعيم الشعبي يقرأ منه صفحات للجماهير في شوارع باريس.
وربما لم يكن روسو مبتكرا في كل ما جاء به؛ فإن هوبز المفكر الإنكليزي في القرن السابع عشر وصاحب كتاب «الليفياثان»
Leciathan
يعتبر سابقا له في البناء على نظريتي العقد الاجتماعي والحالة الطبيعية. لكن هوبز - عدا فروق ثانوية أخرى - سخر النظريتين لخدمة الملكية المطلقة، بينما سخرهما روسو لخدمة الحكم الدستوري بحق الثورة؛ ولذلك يعتبر المفكر الإنكليزي الآخر جون لوك بين سابقي روسو في القرن الثامن عشر. والاتفاق الفكري السياسي بين روسو ولوك عظيم، إلا أن لوك استهدف الملكية الدستورية، بينما استهدف روسو الجمهورية. ولعل أبرز ما امتاز به جان جاك روسو قدرته على حمل آرائه ومبادئه إلى صفوف الجماهير، وكأن غيره ظل يفكر في نطاق مكتبة صغيرة أو حلقة ضيقة من النخبة المختارة، بينما استطاع روسو أن يحرك أعماق الشعب ويجعل من مذهبه دستورا للعمل. إنه من الكتاب القلائل الذين ترن كلماتهم رنة الصدق، ويشعر القارئ لدى مطالعتهم أنهم إذ يدعونه إلى التفكير يدعونه إلى العمل أيضا.
يرجع روسو في فلسفته السياسية إلى العهد الذي يسميه الحالة الطبيعية، وهو يرى أن الإنسان في هذا العهد - الإنسان الفطري - كان صالحا، وكان خلوا من شوائب العاهات التي لحقت به فيما بعد؛ فروسو يعتقد أن الفطرة الإنسانية فطرة خير، وأن الناس في الحالة الطبيعية كانوا على مستوى يقارب المثل الأعلى، وكان لكل منهم حقوق مضمونة مقدسة تعرف بالحقوق الطبيعية
Droits Naturels .
19
فكيف تقهقر الإنسان إلى الحالة التي شاهده عليها روسو في المجتمع؟ وكيف يمكننا أن نتلافى الشر ونصعد بالمخلوق الآدمي إلى حيث هيأته كفاءاته الأصيلة؟
يقول روسو إن الإنسان لما حاد عن طريق «الحالة الطبيعية» أصيب بالانحطاط. وهذا طبعا لا يعني أن الفيلسوف الفرنسي قصد فعلا أن يعود الإنسان إلى حالته في فجر التاريخ. وفولتير لما كتب إلى روسو رسالته الشهيرة ينبئه فيها أنه شوقه إلى «الدبيب على أربع» شأن الحيوانات إنما انساق بدافع نكتة موفقة. وخلاصة ما ذهب إليه روسو هو أن الإنسان بذرة صالحة في الطبيعة، فإذا وافقتها عناية صالحة وجو صالح نمت نموا أقرب إلى شروط الكمال والفضيلة؛ ولذلك اهتم روسو اهتمامه العظيم بالتربية من جهة، وبنظام الحكم من جهة أخرى، فألف كتابيه الخالدين «إميل» و«العقد الاجتماعي».
في العقد الاجتماعي، وهو الكتاب الذي يمس صميم موضوعنا، يقول روسو: إن الناس، إذ يخرجون، أو يضطرون إلى الخروج، من الحالة الطبيعية بفعل تقدم التاريخ، يتعاقدون على أن يتنازل كل منهم عن امتيازات الحياة التي يتمتع بها في تلك الحالة. لكنهم لا يتنازلون هذا التنازل إلا لأن هذا التعاقد يضمن لهم في حالة الحياة الجديدة حقوقا لا غنى لهم عنها ولا قيمة للاجتماع إلا بها، وفي طليعة هذه الحقوق: الحرية. والحرية في نظر روسو ليست الانسياق لنزوات العاطفة؛ فتلك هي العبودية، بل ليست الحرية الطاعة للقانون كما يعتقد مونتسكيو، ولكنها الطاعة للقانون الذي تسنه الأكثرية.
فنظرية «العقد الاجتماعي» تتلخص بأنها التقيد بإرادة الأكثرية التي يسفر عنها الاقتراع الديمقراطي الطليق. ويفرق روسو تفريقا هاما بين إرادتين: إرادة الجميع
Volonté de tous ، وهي بعبارة ثانية إرادة الأكثرية التي يكشف عنها الاقتراع الديمقراطي، ثم الإرادة العامة
Volonté générale ، وهي التي تعبر عن مصلحة المجتمع وتعمل في سبيل هذه المصلحة. ولا ينفي روسو أن إرادة الجميع؛ أي إرادة الأكثرية، ربما لا تطابق الإرادة العامة؛ أي مصلحة المجتمع. على أنه وطيد الثقة بأن الأكثرية إذا صلحت تربيتهم عرفوا مصلحة المجتمع فاقترعوا له. ومن هنا كان روسو وجميع الديمقراطيين الكبار يعلقون أهمية عظمى على ضرورة تربية المواطنين؛ فيقول ماراه، وهو أحد المنطبعين بطابع روسو إلى حد بعيد: «لا بد للشعب كي يتمتع بحقوقه من أن يعرفها؛ وهكذا نشأت ضرورة تثقيفه. ولا بد له كي لا يقع في الشراك التي تنصب له من أن يراها؛ وهكذا نشأت ضرورة تنويره.»
20
أما موئل السيادة في نظر روسو فهو الإرادة العامة. وبمقدار ما تمثل الحكومة التي تنبثق من إرادة الجميع (أي إرادة الأكثرية) مشيئة الإرادة العامة، تكون الحكومة شرعية موفقة. وللإرادة العامة الحق في استرداد الثقة من كل حكومة لا تمثلها كما يجب، وهذا الاسترداد للثقة يجوز عند الضرورة أن يتخذ صيغة الثورة. «إن الموكلين بالقوة التنفيذية ليسوا أسياد الشعب، ولكنهم خدامه. ويستطيع الشعب الذي ينصبهم أن يسقطهم كلما شاء.» «لا ملك بعد اليوم؛ الشعب وحده هو السيد!» وفي هذا القدر ما يكفينا من روسو.
21
ولا بد لنا قبل اختتام الفصل من أن نلتفت إلى مدرسة فكرية كان لها أثرها العميق في هذا القرن، وهي المدرسة الاقتصادية
L’École des Économistes ، وقد انصرف أعلامها إلى البحث في ثروة الأمة؛ وهكذا نهضت بذور العلم الذي نسميه اليوم الاقتصاد السياسي. واحتدم الجدال حول مصدر الثروة، فقال كسناي (1694-1773): «إن ثروة الأمة بزراعتها، والنتاج الزراعي هو وحده النتاج الحقيقي.» وطلب عناية الدولة بالزراعة فوق كل شيء. ويعرف كسناي بزعيم فرقة الطبيعيين
من الاقتصاديين. وخالفه غورناي فذهب إلى أن الزراعة، على أهميتها، ليست مصدر ثروة الأمة الأساسي، بل الصناعة هي المصدر الأهم. وطلب كف يد الدولة عن التدخل في الشئون الاقتصادية، وكان شعاره المفضل: «ألقوا الحبل على الغارب، أفسحوا في السبيل
Laissez passer laissez faire .»
22
ومعنى هذا أنه كان يطالب بإلغاء الحواجز والمكوس بين مقاطعة ومقاطعة في فرنسا كي يتسع المجال للتجارة؛ ومعناه أيضا أنه كان يطالب بفض الكوربوراسيون
23
ليصبح العمال أحرارا في التماس العمل الذي يريدونه؛ ومعناه كذلك أنه كان يطالب بإطلاق المدى للإنتاج وقذف البضائع في الأسواق لأن «قانون العرض والطلب» كفيل بضبط الأمور وتسييرها كما يجب. وواضح أن غورناي كان لسان حال الصناعيين الذين ظهروا على أثر الثورة الصناعية في أوروبا
Révolution Industrielle ، وكانت مبادئه أسبق النظريات الاقتصادية في التعبير عن إرادة الفئات المتقدمة إذ ذاك. ويعرف غورناي بزعيم فرقة البلوتوقراطيين
24
من الاقتصاديين. وقد نفذت الثورة الفرنسية ما اقترحه من إصلاحات، فألغت الحواجز والمكوس بين مقاطعات فرنسا، وفضت الكوربوراسيون، وهيأت الأساس لازدهار نظام الاقتصاد الرأسمالي الحديث.
ويلحق بغورناي وكسناي الوزير الشهير ترغو الذي حاول التوفيق بين هذين المفكرين الاقتصاديين، وأخرج للملك برنامج إصلاح قبل الثورة لم يوفق إلى تنفيذه.
ومن المفكرين الفرنسيين الذين لا بد لنا من ذكرهم في هذا القرن: موريلي، مؤلف كتاب «قانون الطبيعة». وكان بابوف، الثائر الفرنسي الذي اشتق نغمة اشتراكية جديدة في الثورة أيام حكومة «الإدارة»، يكثر الرجوع إليه ويستقي من آرائه.
ولعلنا، وقد بلغنا هذا المبلغ من بحث الفكر الفرنسي، بتنا نلمس صحة ما قلناه من أن المفكرين والأدباء الفرنسيين أفاقوا على المجتمع، قبل الثورة، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فوجدوا أن معظم الفرنسيين، من حيث وضعهم في الهيئة والدولة ومسالك السياسة، إنما هم وسائل لبعض الفرنسيين، وليسوا غاية كما يحق لهم أن يكونوا، فعمد هؤلاء الأدباء والمفكرون إلى الاحتجاج على الحالة الراهنة، وتلمس أسباب الفساد، ووضع الخطط، ورسم هيئة المجتمع الجديد. وكان لهم من «العقل» مصباح، ومن «الطبيعة» دعامة يرتكزون عليها. وكان لنشاطهم وتوجيههم أثر بليغ في الثورة ونهضتها. ولقد أدى الثوار سنة 1789 واجبهم في الاعتراف بفضلهم؛ إذ نقشوا بيان حقوق الإنسان الخالد وجعلوا في أعلاه عينا مطلة مضيئة هي «عين العقل الرفيعة التي طلعت تبدد سحب الجهالة!»
مجاري الثورة إلى الشرق
كيف اتصلت الثورة الفرنسية بالشرق العربي؟ وأية هي المجاري التي سلكتها؟
يعرض لنا هذا السؤال، وفيه ما فيه من أسباب الصعوبة؛ لأنه لا يزال موضوعا غير مطروق، ولأن تعيين الانتقالات الفكرية في التاريخ أمر بطبيعته يتعذر البت فيه. وقد تتيسر للانتقالات الفكرية مسالك خفية لا يدركها المؤرخون على رغم أهميتها، أو هم يدركونها ولكن إدراكا عاما غامضا يعوزه التدقيق وينقصه التفصيل.
مع ذلك فليس البحث في مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي خلوا من كل أساس، ولا شك أن ما سنكتبه في هذا الفصل محاولة جد بدائية تقبل التحسين والتوسيع.
إن أول مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي - ولعله أعظمها - كان الفتح النابليوني لمصر سنة 1798 أيام حكومة الإدارة. وكانت الرجعة النابليونية إذ ذاك في أوائلها، على أنها كانت بارزة الأثر. وقد أذاع نابليون منشوره الأول على المصريين فتكلم باسم التجار الفرنسيين، غير أنه صدر أيضا في كلامه عن بعض مبادئ الثورة فتحدث إلى المصريين عن تسلط المماليك واستئثارهم بأجود الأراضي.
وهذا بعض نص المنشور:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله ولا ولدا له ولا شريك بملكه
من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية، والساري عسكر الكبير بونابرت أمير الجيوش الفرنساوية، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمن مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدي، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم، وحسرة من مدت عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من جبال الأبازا والكرجستان يفسدوا في الأقاليم الأحسن ما يوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء قد حتم في انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون! قد يقولوا لكم أنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه. وقولوا للمفتريين إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه محمد والقرآن العظيم. وقولوا لهم أيضا «إن جميع الناس متساويين عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم بعض فهو العقل والفضايل والعلوم فقط. وبين المماليك ما العقل والفضل والمعرفة التي تميزهم عن الآخرين وتستوجب أنهم أن يتملكون وحدهم كلما يحلو به حياة الدنيا؟ حيثما يوجد أرض مخصبة فهي مختصة للمماليك، والجواري الجمال والحلل الحسان والمساكن الأشهى فهذه كلها لهم خاصة. فإن كان الأرض المصرية التزام للماليك فليوردون الحجة التي كتبها لهم الله. ولكن رب العالمين هو رأوفا وعادل على البشر. بعونه تعالى من اليوم وصاعدا لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية». فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبروا الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها. سابقا في الديار المصرية كانت المدن العظيمة، والخلجان الواسعة، والمتجر المتكاثر، وما زال ذلك إلا لطمع وظلم المماليك
1 ...
وواضح ما في هذا الكلام من صلة متينة بمبادئ الثورة وبيان حقوق الإنسان.
2
ويقول الأمير حيدر الشهابي إن أعيان مصر استغربوا هذا «الخطاب المهول والأمر المجهول»؛ فقد كان جديدا على الأسماع والأفهام.
ولم تستقر قدم نابليون في وادي النيل حتى هيأ ديوانا استشاريا من كبار العلماء والتجار، فكان في عمله بذرة، وإن تكن طفيفة، من تمرين الأمة على الإدارة الذاتية.
هز الفتح النابليوني جو الجمود الذي كان مخيما على مصر، فنهضت أيام محمد علي الكبير نهضة سياسية، عسكرية، صناعية، ثقافية. وأخذت من عهد نابليون تتجه الميول الثقافية المصرية إلى الارتشاف من ينابيع فرنسية، حتى كان زمن محمد علي، فقوي الترابط الثقافي بين البلدين، وعززه التفاهم السياسي. وأنفذ محمد علي باشا البعوث العلمية، فكانت من أسباب الاطلاع على فرنسا الثائرة والمبادئ التحريرية التي حركت شعبها إلى انتفاضات جبارة، ثم كانت في مصر تلك القافلة من الأدباء والمفكرين من رفاعة رافع الطهطاوي إلى طه حسين اليوم.
ومن حسن الحظ أن أحد أعضاء هذه البعوث، وهو الطهطاوي، قد ترك لنا كتابا نفيسا عن رحلته إلى باريس وما تلقاه فيها من ثقافة، وما شاهده وتأثر به في فرنسا، ولا سيما عاصمتها العظيمة. واسم الكتاب هو: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريس. ولا نغالي إذا قلنا إن الطهطاوي مؤلف الكتاب عقل من أعمق العقول الشرقية العربية التي ماست الغرب كما يتجلى في فرنسا، وفهمته فهما واعيا لفضائله وحسناته من وجوه عديدة. وصادف عهد الطهطاوي في باريس عهد الملك شارل العاشر ووزيره بولينياك. وكانت ملكية شارل العاشر - نظريا - ملكية دستورية مقيدة بالصك «الشارت»
La Charte
التي تولى العرش على أساسها لويس الثامن عشر. لكن شارل العاشر كان نزاعا إلى الملكية المطلقة، ومن أقواله: «إنه يؤثر أن ينشر الخشب على أن يكون ملكا من الطراز الإنكليزي (أي دستوريا).» وكان وزيره بولينياك يستهدف إلغاء كل أثر من آثار الثورة الفرنسية الكبرى، ويقول: «غرضنا أن نعيد تنظيم المجتمع؛ أن نرجع إلى الكليروس نفوذه في الدولة، ونخلق أرستقراطية قوية نسيجها بالامتيازات.» ولم يتورع شارل العاشر عن فض المجلس النيابي، فأعاد الشعب انتخاب أكثر أعضائه ، ولا سيما الأعضاء الذين عرفوا بمقاومة الملك، فأصدر شارل قوانينه المشهورة
Les Ordonnances
بإلغاء حرية الصحافة، وفض المجلس مرة ثانية. فاندلعت الثورة في باريس سنة 1830 وطالت ثلاثة أيام من شهر تموز (26 إلى 29 منه) وهي الأيام المعروفة ب «الثلاثة المجيدة»، فسقط شارل العاشر، وأقيم مكانه الملك لويس فيليب على أساس صك جديد.
وقد شهد الطهطاوي ثورة الأيام الثلاثة المجيدة، وهي تعتبر صفحة تالية للثورة الكبرى، ووصفها وصفا طريفا دقيقا أثبتناه في النصوص في هذا الكتاب. وعني عناية خاصة بالدستور الفرنسي وسماه تسميته الفرنسية فدعاه الشرطة
La Charte ، ونقله إلى العربية قبل التعديل زمن شارل العاشر وبعد التعديل زمن لويس فيليب.
3
وتحدث عن مجلس النواب الفرنسي، أو المجلسين على الأصح: ديوان «رسل العمالات» الذين «هم وكلاء الرعية المنتخبون
Les Députés »، وديوان البير؛ أي أهل المشورة الأولى.
ولم ينس أن يلم بشئون أخرى تتصل بنظام فرنسا السياسي. وفيما يلي نص الخلاصة التي وضعها الطهطاوي للشرطة، مع تعليقه عليها، في أول ملك لويس فيليب:
الفرنساوية مستوون في الأحكام على اختلافهم في العظم والمنصب والشرف والغنا، فإن هذه المزايا لا نفع لها إلا في الاجتماع الإنساني والتحضر فقط، لا في الشريعة؛
4
فلذلك كان جميعهم يقبل في المناصب العسكرية والبلدية، كما أنه يعين الدولة من ماله على قدر حاله. وقد ضمنت الشريعة لكل إنسان التمتع بحريته الشخصية حتى لا يمكن القبض على إنسان إلا في الصور المذكورة في كتب الأحكام، ومن قبض على إنسان في صورة غير منصوصة في الأحكام يعاقب عقوبة شديدة. ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة، ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته، ولا يجوز وقف شيء على الكنائس وإهداء شيء لها إلا بإذن صريح من الدولة. وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات أو في مادة الأديان بشرط ألا يخل بالانتظام المذكور في كتب الأحكام. كل الأملاك على الإطلاق حرم لا تهتك؛ فلا يكره إنسان أبدا على إعطاء ملكه إلا لمصلحة عامة، بشرط أخذه ، قبل التخلية، قيمته، والمحكمة هي التي تحكم بذلك. كل إنسان عليه أن يعين في حفظ المملكة العسكرية بشخصه، بمعنى أنه كل سنة يجمع أولاد إحدى وعشرين سنة لتضرب القرعة لأخذ العساكر السنوية منهم، ومدة خدمة العسكرية ثمان سنوات. وكل فرنساوي عمره ثمانية عشر سنة - وله حقوقه البلدية - يمكنه أن يتطوع ويدخل العسكرية. ويعافى من العسكرية عدة أناس؛ الأول: من طوله دون متر وخمسة وسبعين سنتمترا، يعني أربعة أقدام وعشرة برامق، الثاني: أصحاب العلل، الثالث: الابن أكبر الإخوان الأيتام من أبيهم وأمهم، الرابع: الابن البكري أو المنفرد، وابن الابن الأكبر أو المنفرد عند فقده، إذا كانت الأم أو الجدة لا زوج لها، أو كان أبوه أعمى، أو سنه سبعون سنة، الخامس: البكري أحد الأخوين الذين وقعا في قرعة لمة واحدة، السادس: الأخ الذي أخوه فاضل تحت البيرق أو مات في الخدمة أو جرح في الحرب. ولو أراد إنسان أن ينوب عنه غيره فإن المنوب عنه يضمن النائب سنة من خوف الهرب، إلا إذا كان الهارب قبض عليه في السنة أو مات تحت بيرق الفرنساوية. وفي واحد وعشرين في شهر ديسمبر من كل سنة، كل العساكر التي تمت خدمتهم يؤذن لهم بالعودة إلى محالهم. ولما كان لا يمكن لكل إنسان أن يدخل بنفسه في عمل الدولة وكلت الرعية بتمامها عنها في ذلك أربعماية وثلاثين وكيلا تبعثها إلى باريس في المشورة، وهؤلاء الوكلاء تختارهم الرعية وتوكلهم بأن يمانعوا عن حقها ويصنعوا ما فيه مصلحة لها؛ وذلك أن كل فرنساوي مستكمل للشروط، التي منها أن يكون عمره خمسا وعشرين سنة، له أن يكون ممن له مدخل في انتخاب رسل عمالاته. وكل فرنساوي له أن يكون رسولا إذا كان عمره ثلاثين سنة، ويكون موصوفا بالشروط المذكورة في كتاب الأحكام. وفي كل مأمورية مجمع اختيار وانتخاب، ومجامع انتخاب للأقاليم الصغيرة، ومجامع المأموريات الكبيرة مؤلفة من المنتخبين الكبار، وتعين 172 رسولا. ومجامع انتخاب الأقاليم الصغيرة تعين 258 رسولا . ودفاتر أرباب الانتخاب تطبع وتكتب في الطرق شهرا قبل فتح مجامع الانتخاب، حتى إنه يمكن لكل إنسان أن يكتب إعلاما به. وكل منتخب (بكسر الخاء) يكتب رأيه سرا في ورقة يعطيها للرئيس مطوية، والرئيس يضعها في إناء القرعة. وديوان رسل العمالات يتجدد أهله بالكلية كل خمس سنوات. ولا يمكن أخذ الفرد
5
إلا بخلاصة من مشورة الديوانين مقررة من طرف الملك. يمكن لأهل البلدان أن يرسلوا أهل الديوانين بطرق العرضحال ليشتكوا من شيء أو يعرضوا شيئا نافعا. القضاة لا ينعزلون؛ فلا يحكم على إنسان إلا بقضاة محل استيطانه. والدعاوى تقام جهرا، وذنوب الجنايات لا يحكم فيها إلا بحضرة جماعة يسمون الجوريين
Les Jurés . والعقوبة بالقبض على الأموال بطلت. للملك أن يعفو عن المعاقب بالموت وأن يخفف العقاب الشديد. على الملك وورثته أن يحلفوا عند ارتقاء الكرسي بأن يعملوا بما في كتاب قوانين المملكة. ثم إنه يطول علينا ذكر الأحكام الشرعية والقانونية المنصوبة عند الفرنساوية، فلنقل إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، إنما هي مأخوذة من قوانين أخرى غالبها سياسية، وهي مختلفة بالكلية عن الشرائع، وليست قارة الفروع. ويقال لها «الحقوق الفرنساوية»؛ أي حقوق الفرنساوية بعضهم على بعض؛ وذلك لأن الحقوق عند الإفرنج مختلفة. ثم إن بباريس عدة محاكم، وفي كل محكمة قاض كبير كأنه قاضي القضاة، وحوله رؤساء وأرباب مشورة ووكلاء الخصوم ومحامون للخصوم ونواب عن المحامين وموقع الوقائع.
وطبيعي أن يتنبه الطهطاوي إلى هذا كله وهو الشرقي العربي الذي يلتمس لوطنه أسلوبا في الحكم يسير عليه ويساير الأمم الناهضة في نظام يشترك فيه المواطنون جميعهم في حقوق وواجبات مفصلة مصونة متساوية، مبدئيا على الأقل.
وقد أشرنا إلى أن الطهطاوي عرب «الشرطة» الأصلية التي ملك لويس الثامن عشر وفاقا لها، غب سقوط نابليون النهائي وانعقاد مؤتمر فيينا. وكتب الطهطاوي في مقدمة تعريبه لتلك الشرطة:
فيها أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل. ومعنى الشرطة في اللغة اللاتينية: ورقة، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله (
صلى الله عليه وسلم )، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم بناهم وارتاحت قلوبهم؛ فلا تسمع فيها من يشكو ظلما أبدا، والعدل أساس العمران. ولنذكر هنا نبذة مما قاله فيه العلماء والحكماء أو في ضده. من كلام بعضهم: ظلم اليتامى والأيامى مفتاح الفقر، والحلم حجاب الآفات، وقلوب الرعية خزائن ملكها فما أودعه إياها وجده فيها. وقال آخر: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقيل فيما يقرب من هذا المعنى: سلطان الملوك على أجسام الرعايا لا على قلوبهم. وقال بعضهم: أبلغ الأشياء في تدبير المملكة تسديدها بالعدل وحفظها من الخلل. وقيل: إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع. إن المولى إذا كلف عبده ما لا يطيقه فقد أقام عذره في مخالفته.
وفي هذا ما يجب أن يستوقفنا؛ لأننا نرى الطهطاوي، وهو من أعلام مفكرينا الأوائل، ينظر إلى مبادئ الشرطة؛ أي المبادئ التي استوحيت من الثورة الفرنسية الكبرى، نظرة إعجاب وتقدير، ولكنه يرى أن أكثرها مما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله.
6
ومع ذلك فهو يضرب في تأييدها الحكم العربية، وما قصده إلا أن يبين أن هذه المبادئ ليست غريبة عنا؛ فيكون الطهطاوي قد حاول شيئا من التوفيق بين تقاليدنا والمبادئ التي انبثقت من الثورة الكبرى. وسنجد أن المفكرين قد خطوا خطوات أبعد من التوفيق، فبينوا أن روح هذه المبادئ تساوي روح كتاب الله وسنة رسوله.
وبعد أن يفرغ الطهطاوي من تعريب الشرطة يكتب معلقا عليها:
فإذا تأملت رأيت أغلب ما في هذه الشرطة نفيسا، وعلى كل حال فأمره نافذ عند الفرنساوية. ولنذكر هنا بعض ملاحظات فنقول:
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة؛ معناه سائر من يوجد في بلاد فرانسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره. فانظر إلى هذه المادة الأولى فإن لها تسلطا عظيما على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظرا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية وتقدمهم في الآداب الحضرية. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة؛ فهذه البلاد حرية بقول الشاعر:
وقد ملأ العدل أقطارها
وفيها توالى الصفا والوفا
وبالجملة إذا وجد العدل في قطر من الأقطار فهو نسبي إضافي، لا عدل كلي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدة من البلدان؛ فإنه كالإيمان الكامل والحلال الصرف.
وأما المادة الثانية
7
فإنها محض سياسية. ويمكن أن يقال إن الفرد ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس، خصوصا إذا كانت الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال أو كانت ممنوعة بالكلية، وربما كان لها أصل في الشريعة على بعض أقوال مذهب الإمام الأعظم.
8
ومن الحكم المقررة عند قدماء الحكماء: الخراج عمود الملك. ومدة إقامتي بباريس لم أسمع أحدا يشكو من المكوس والفرد والجبايات أبدا ولا يتأثرون بحيث إنها تؤخذ بكيفية لا تضر المعطي وتنفع بيت مالهم خصوصا، وأصحاب الأموال في أمان من الظلم والرشوة. وأما المادة الثالثة
9
فلا ضرر فيها أبدا، بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم ولم يقف تمدنهم على حالة واحدة مثل أهل الصين والهند ممن يعتبر توارث الصنائع والحرف ويبقي للشخص دائما حرفة أبيه. وقد ذكر بعض المؤرخين أن مصر في سالف الزمان كانت على هذا المنوال؛ فإن شريعة قدماء القبطة كانت تعين لكل إنسان صنعته ثم يجعلونها متوارثة عنه لأولاده . قيل: سبب ذلك أن جميع الصنائع والحرف كانت عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مقتضيات الأحوال لأنها تعين كثيرا على بلوغ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يحسن عادة ما رأى أباه يفعله عدة مرات بحضرته ولا يكون له طمع في غيره؛ فهذه العادة كانت تقطع عرق الطمع وتجعل كل إنسان راضيا بصنعته لا يتمنى أعلى منها، بل لا يبحث إلا عن اختراع أمور جديدة نافعة لحرفته توصل إلى كمالها (انتهى). ويرد عليه أنه ليس في كل إنسان قابلية لتعلم صنعة أبيه، فقصره عليها ربما جعل الصغير خائبا في هذه الصنعة، والحال أنه لو اشتغل بغيرها لنجح حاله وبلغ آماله. وأما المادة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة
10
فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء.
وأما المادة الثامنة
11
فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات: الأولى جمع جرنال، والثانية جمع كازيطة
Gazette ؛ فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة سواء كانت داخلية وخارجية؛ أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد فيها من الكذب ما لا يحصى، إلا أنها قد تتضمن أخبارا تتشوق نفس الإنسان إلى العلم بها. على أنها ربما تضمنت مسائل عملية جديدة التحقيق أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير؛ لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحتقر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها ...
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما أو رديئا، وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام؛ لترغيب صاحب العمل الطيب، ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام فيعرف قصة المظلوم والظالم، من غير عدول عما وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم، ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر. وأما المادة التاسعة
12
فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جور الأقوياء على الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة
13
من باب اللياقة الظاهرة ... إلخ.
وليس في هذا كله إلا ما يدل على أن الطهطاوي تأثر أعمق التأثر بما رآه في نظام فرنسا من نتائج ثورتها الكبرى. وله في كتابه «تخليص الإبريز» ملاحظات موزعة على تقديره التفكير الفرنسي المبني على أحكام العقل، وهو التفكير الذي أزهر زهره وأثمر ثمره في القرن الثامن عشر في أعلام المفكرين قبل الثورة. وإلى القارئ شيئا من ملاحظاته:
إن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات. وليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائما معرفة أصل الشيء، والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم يعرفون أيضا القراءة والكتابة ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله؛ فليست العوام في هذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة. والفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين. وأقول هنا: إنهم يذكرون خوارق العادات ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا. إن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده، وإن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وإن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية.
14
غير أن الطهطاوي إذ يبلغ به الحديث إلى مسألة القضاء والقدر، يخالف التفكير الفرنسي المبني على أحكام العقل؛ فهو يترك للقضاء والقدر مجاله «وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير إذ يحتج بها قبل الوقوع.»
وللطهطاوي فصل خاص في الكتب التي طالعها في باريس، وأكثرها يرقى إلى القرن الثامن عشر، وتأخذ بأسباب التفكير المبني على أحكام العقل. وفيما يلي نص كلام الطهطاوي عن مطالعاته:
قرأت كثيرا من كتب الأدب؛ فمنها ... عدة مواضيع من ديوان ولتير ... وديوان روسو، خصوصا مراسلاته الفارسية التي يعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية
15 ... وقرأت في الحقوق الطبيعية، مع معلمها، كتاب برلماكي وترجمته وفهمته فهما جيدا. وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين يجعله الإفرنج أساسا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية. وقرأت أيضا مع مسيو شواليه جزأين من كتاب يسمى روح الشرائع، مؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له مونتسكيو، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية ومبني على التحسين والتقبيح العقليين. ويلقب عندهم مونتسكيو ب «ابن خلدون الإفرنجي». كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضا مونتسكيو الشرق؛ أي مونتسكيو الإسلام. وقرأت أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى عقد التأنس والاجتماع الإنساني، مؤلفه يقال له روسو، وهو عظيم في معناه ... وقرأت عدة محال نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة ولتير وعدة محال في كتب فلسفة قندلياق
Condillac .
ومن الأمور التي يبدي الطهطاوي إعجابه بها ثقافة المرأة الفرنسية؛ فيقول: «إن للنساء تآليف عظيمة، ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وجودتها. ومنهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة. ومن هنا يظهر لك أن قول بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد.»
وهكذا نستطيع أن نقول إن رافع الطهطاوي مع رجال البعوث الذين أنفذهم محمد علي باشا الكبير إلى فرنسا، كانوا من أعظم المجاري التي تسربت خلالها إلى الشرق العربي آثار من مبادئ الثورة الفرنسية وكبار مفكريها.
ولكن هناك مجرى آخر، إذا شئنا أن نرجع إلى أصله في التاريخ وجب علينا أيضا الرجوع إلى الحملة النابليونية؛ فإن هذه الدفعة العسكرية القوية تجاوزت مصر وبلغت أسوار عكا حيث حاصرت أحمد باشا الجزار في قاعدته، وطارت أخبارها إلى لبنان زمن الأمير بشير الشهابي.
بين أيدينا هذا الكتاب الغني الذي تركه المطران يوسف الدبس عن تاريخ سوريا، فلنكتف منه بالنسخة الموجزة، ولنراع وقائع التاريخ اللبناني خلال الأيام التي كانت تهب فيها رياح الثورة الفرنسية على الدنيا.
16
سنرى أن هذا الوطن البديع النشيط، القائم على ساحل الأبيض المتوسط، كان هو أيضا في غليان دائم. والقصة واحدة : أمير حاكم على لبنان، يحتاج إلى المال، أو يطلب منه أسياده الذين ولوه الإمارة مبلغا من المبالغ، أو هو يتبرع بتقديم المبلغ ليزاحم أميرا آخر رشح نفسه لحكم لبنان، ويأتي موعد الدفع، فيضرب الضريبة على السكان وعلى مواسمهم، ويبث جباته، فيمتنع الناس، وتندلع نيران الثورة، إلى أن يسقط الأمير، أو يغلب الأهالي على أمرهم فيؤدوا المال، إلا أن روحهم تبقى على حدتها وتوفزها غير مثلومة ولا منكسرة.
وإذن، فقد كان في اللبنانيين استعداد عقلي وقابلية روحية لما لفحهم أول أنباء الثورة في البلاد المقابلة لبلادهم عبر البحر الذي يطلون على أمواجه. أما كيف وصلتهم هذه الأنباء، فقد سبق أن الحملة النابليونية على مصر هي التي حملت إليهم تباشيرها.
كانت تنمو في لبنان إذ ذاك بواكير الزهرات الأدبية التي بشرت بمطلع النهضة الحديثة وموسمها المقبل. ونخص بالذكر من تلك البواكير الكاتب الشاعر نقولا الترك.
ونستطيع أن نتصور الناس في لبنان وقد بلغتهم أنباء الحملة الفرنسية على مصر وامتدادها إلى أسوار عكا؛ فإن أميرهم، الأمير بشير، كان مواليا للجزار، فما يكون موقفه الآن والجزار محصور في قاعدته؟ وهذا القائد الفرنسي بونابرت يشد عليه الخناق، ومحتمل كل الاحتمال أن يفتح عكا ويتقدم بجيوشه إلى لبنان. ولكن من بونابرت هذا؟
ولا شك أن حديث الناس عن الفاتح الجديد، الذي حط رحاله في وادي النيل ومشى يريد إكمال الفتح، صرف الناس إلى الحديث عن فرنسا وما طرأ عليها قبل أن يبرز بونابرت.
وهكذا وقعت الأنظار على الثورة الفرنسية الكبرى والانقلاب العميق الذي أحدثته في فرنسا. ولسنا نعرف بالضبط كيف اطلع اللبنانيون على حوادث الثورة؛ فربما حملها إليهم التجار الذي كانت لهم صلات قديمة بين هذا الشاطئ من المتوسط والشاطئ المقابل، وربما جاءتهم أخبارها على ألسنة مسافرين كانوا في مصر وعرفوا جنود نابليون وخاطبوهم.
على أننا نعلم علم اليقين، استنتاجا من تاريخ الأمير حيدر الشهابي، أن اللبنانيين سمعوا ببعض حوادث الثورة في عهد باكر، كهجوم الشعب سنة 1792
17
على القصر الملكي في باريس (التويلري)، وعرفوا أن الشعب طلب مجلسا نيابيا «ديوانا عظيما ومحفلا جسيما يكون فيه للملك الصوت الأول»، وعرفوا كذلك أن الملك حاول أن يهرب فقبض عليه وسجن في حبس «الطامبل»
Temple
ثم أعدم وانفردت «المشيخة» بالتدبير. لكن اللبنانيين - إذا استندنا إلى تاريخ الأمير حيدر - لم تخل معلوماتهم عن الثورة من اضطراب ظاهر، وقد يكون هذا طبيعيا ومنتظرا في مثل تلك الأحوال والأيام.
أما رأيهم في الثورة وحوادثها، فكلام الأمير حيدر يدل حينا على عطف وحينا على تشجيب. ونقدر أن موقف كثير من الأوساط الدينية تجاه الثورة والحكم على الملك بالإعدام ساعد الدعايات المعارضة للثورة وغشى حقيقتها بغشاء كثيف. ولا تزال الدعايات تستغل هذه الأمور وأمثالها للتشنيع على الثورة إلى اليوم. وطريف حقا أن نقرأ الوصية التي أثبتها الأمير حيدر على لسان لويس السادس عشر قبل إعدامه؛ فإن في أسلوبها ما يذكر ببعض الأدباء المعاصرين الذين يكتبون عن الثورة فيكتفون بالحديث عن «الغوغاء» و«الحزن الملكي» وما أشبه. ومفهوم أن للثورات بوادر من بطش وعنف. ويمكن القول إن كثيرين من اللبنانيين، لما التفتوا إلى الثورة الفرنسية على بعد المسافة، غلبت على أبصارهم مشاهد العنف والبطش. وجاءت الدعايات المعارضة تضخم تلك المشاهد في أبصارهم، وتجرد الثورة من فضائلها؛ فهي «الفتنة» أو «الفتنة العمياء» وكفى. وستكون لنا إلمامة أخرى بهذا الموضوع.
لكن اللبنانيين، منذ الساعات الأولى، ساورهم شعور أدى بهم إلى المقايسة بين شيئين: فظاعة الثورة والتخريب الذي أحدثته من جهة، ونهضة فرنسا وظهور رجل كنابليون على مسرح الحوادث العالمية من جهة أخرى. وبين الثورة ونابليون صلة وصل متينة؛ فكيف تكون الثورة فظاعة وخرابا وتنتهي بهذه القوة الباهرة؟
ومن يقرأ مقدمة الكتاب الذي ألفه الشاعر الكاتب نقولا الترك في الثورة الفرنسية والحروب النابليونية يشعر بالشعور الغامض الحائر الذي خالج النفوس بإزاء الثورة والحكم لها أو عليها. يقول نقولا الترك:
جرت عادة الأوايل، بتأليف الكتب والرسايل، وذكر ما يمر عليهم من الحادثات الكونية والحركات الكلية، من قيام دولة على دولة، وانتشار الحروب المهولة، وما يتعلق بها من المواقع المريبة والأمور الفظيعة، فحق لنا أن نؤرخ في هذا الكتاب؛ لانتفاع الطلاب، ما حدث من التغيير والانقلاب، مما أجرته يد الأقدار في هذه الأمصار، ومما آذنت العزة الإلهية بظهور المشيخة الفرنساوية، وما تكون بسببها من الفتن في البلاد الإفرنجية وديار الرومية، وقتل سلطانهم وخراب بلدانهم وانتشار شأنهم وربحهم من بعد (خسرانهم)، وذلك بظهور فرد أفرادهم وقايد أجنادهم، الليث الشديد والبطل الصنديد، أمير الجيوش؛ الأمير بونابرت، وذكر الحروب التي ثارت بتلك الممالك، وحدوث الشرور والمهالك، وقهر البلاد التي اتصلوا إليها، والانتصارات العظيمة التي حصلوا عليها، بانتقالهم الغريب من الغرب إلى الشرق، ومرورهم العجيب أسرع من البرق، ونزولهم على جزيرة مالطة، كالصواعق الهابطة، وفتوحهم ثغر الإسكندرية، واستيلائهم على الأقطار المصرية، وذكر ما تم لهم من التمليك، في حروبهم مع الغز والمماليك، وسيرهم على الأقطار الشامية، ومحاصرتهم لمدينة عكا القوية، مسكن ذلك الوزير الجبار، المعروف أحمد باشا الجزار، ورجوعهم إلى أرض مصر، وما تم لهم في ذلك العصر، وكفاحهم مع الدولتين العظيمتين: الدولة العثمانية والدولة الإنكليزية، ومصادمتهم للعساكر البرية والبحرية ... إلخ.
فإذا تأملنا هذا الكلام وجدنا ذكر الثورة الفرنسية مقرونا بالفتن وقتل السلطان (أي الملك لويس) وخراب البلدان، ولكن سرعان ما وجدنا المطاف يفضي بنا إلى: انتشار شأن الفرنسيين، وربحهم بعد خسرانهم، وانتصاراتهم العظيمة، وانتقالهم الغريب من الغرب إلى الشرق، وهلم. وكم كان نقولا الترك موفقا حين أتى على ذكر الثورة وقيام المشيخة الفرنساوية في جملة «الحادثات الكونية والحركات الكلية»؛ فالثورة الفرنسية حقا حادث كوني وحركة كلية، وهذا من أوجز ما يقال فيها وأبدعه.
وكأن اللبنانيين ما لبثوا أن تقدموا تقدما سريعا في فهم الثورة وحقيقة معناها. وإننا لنصادف في التاريخ اللبناني حوالي هذا العهد بعض حركات وانتفاضات يعمل فيها وعي الشعب عمله الملموس، كعاميتي إنطلياس ولحفد سنة 1820-1821، وكالثورة على إبراهيم باشا والاحتلال المصري سنة 1840، وكغضبة طانيوس شاهين على التحكم الإقطاعي سنة 1859.
ويهمنا أن نلاحظ في هذا الصدد أن كلمة «العامية» إنما هي تعريب حرفي لكلمة
Commune
الفرنسية. وكان اللبنانيون يؤلفون العاميات، في مناسبات خاصة، للامتناع عن دفع الضرائب، كما وقع في عاميتي إنطلياس ولحفد إذ طلب عبد الله باشا الوالي العثماني في عكا مبلغا ماليا من الأمير بشير ففرضه الأمير على اللبنانيين وبث الجباة لجمعه، فكانت عاميتا إنطلياس ولحفد. ولسنا نعلم هل كان اللبنانيون متأثرين في عامياتهم بشيء من الثورة الفرنسية.
ولكنا نعلم علما لا يشوبه الظن أن اللبنانيين، في المنشور الذي أذاعوه سنة 1840 يدعون فيه إلى الثورة على إبراهيم باشا، ضربوا للشعب مثلا من البأس والثبات الفرنسي في القتال. يقول المنشور:
فليرقد بسلام رفات إخواننا (يقصد الحورانيين، وكانوا قد ثاروا على الحكومة المصرية) الذين ماتوا في سبيل الحرية؛ فإنهم ضاهوا بشجاعتهم الفرنسيين الذين عندما هددوا بالاستئصال إذا لم يستسلموا فضلوا الموت فخاضوا غمرات الوغى وقتلوا 150 ألف رجل؛ فهذا أيها الإخوان حادث تاريخي يجب ألا يذهلكم؛ فإن مواطنينا الذين قاتلوا في حوران كانوا قليلي العدد، ومع ضعف وسائلهم - كما تعلمون - قد فاقوا الفرنسيين.
18
ولسنا نعرف بالضبط الحادثة التي يشير إليها المنشور في التاريخ الفرنسي، على أننا نرجح أنها تلك الوثبة الجبارة التي وثبها الباريسيون أيام الثورة الكبرى حين بعث الدوق دي برونشفيك البروسي يتهددهم بسحقهم ومحق عاصمتهم إذا مسوا الملك وقصره، فردوا عليه بمحاصرة قصر التويلري وافتتاحه في 10 آب 1792 واعتقلوا الملك وصادموا جيش التدخل الأجنبي وظفروا به في معركة فالمي الشهيرة.
أما حركة طانيوس شاهين فليس في أخبارها إشارة صريحة إلى تقاليد فرنسا الثورية. على أن في مخطوطة أنطوان ضاهر العقيقي،
19
التي تحدث فيها عن هذه الحركة، ذكرا لشكل السلطة التي كان يستند إليها طانيوس شاهين؛ إذ كان يقول: «بقوة الحكومة الجمهورية»، ويدعو صاحب المخطوطة طانيوس شاهين وجماعته «الجمهور». ويغلب على الظن أن كلمة «الجمهورية» و«الجمهور»، بالمعنى السياسي، عرفها اللبنانيون بتأثير من الثورة الفرنسية الكبرى. وقد رأينا أن أول منشور أذاعه نابليون على المصريين يحمل في فاتحته هذه العبارة: «من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على الحرية».
بهذا ينتهي بنا الحديث عن مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي من طريق مصر وفلسطين ولبنان؛ فينبغي لنا أن نحول النظر منذ الآن شطر الشمال، شطر البلقان وتركيا، وكانت هي والشرق العربي داخلة جميعها في نطاق الإمبراطورية العثمانية الضخمة.
ومعلوم أن ريحا من الثورة الفرنسية ما لبثت أن هبت من غرب أوروبا على البلقان في شرقها، فساعدت على إيقاد لهيب من الثورات الوطنية الاستقلالية على الحكم العثماني. وكانت أبعد هذه الثورات صدى في الشرق العربي ثورة اليونان التي حررتهم بعد نضال طويل دام من سنة 1827 إلى سنة 1829. ونفذت لفحات من ريح الثورة الفرنسية إلى صميم الإمبراطورية العثمانية وقاعدة السلطنة.
وغني عن البيان أن الإمبراطورية العثمانية كانت إذ ذاك تحرك رجلا للهبوط في سلم التاريخ. وقد بدأت طلائع فيها من أهل العقول النيرة تشعر بوجوب الإصلاح. والسلطان سليم الثالث الذي ولي الحكم سنة 1789 - وهي أول سني عهد الثورة - ما لبث أن أحس بضرورة شيء من التعديل والتبديل، ولكنه قصر جهده على الجيش، وكان كثير من إصلاحاته مظهريا. ومع ذلك فقد شق عليه جيش الإنكشارية عصا الطاعة، وخلعوه، ثم قتلوه، وألغوا ما سماه «النظام الجديد». وبالطبع إن الثورة الفرنسية وحوادثها قد حملت الأوساط الرسمية العثمانية فورا على اشمئزاز وامتعاض شديدين. وعاطف باشا الذي صادف أن كان رئيس الكتاب (وزير الخارجية) أيام السلطان سليم الثالث علق على الثورة الفرنسية بما يلي:
إن جان جاك روسو وغيره من مشاهير الزنادقة والدهريين قد قاموا بتأليف الكتب الإلحادية المفسدة في سب الأنبياء وإبطال الأديان وذم الملوك والأشراف، ونراهم في هذه الكتب يميلون إلى التهكم، ويستخدمون ألفاظ العوام وأساليبهم حتى يفهم منهم الناس ويتذوقوا طعم المساواة والجمهورية ... وهم الذين دعوا إلى إلغاء أصول الالتزام (أي نظام الإقطاع) الذي يعتبر أساس كل دولة (!) ومدار ارتباطها ونظامها. ثم حرضوا على الإلحاد ونبذ الدين والشرع والمذاهب، وبذلك مهدوا لانقلاب سكان فرنسا إلى هيئة البهائم. وليت الأمر وقف بهم عند هذا الحد، بل إنهم تجاوزوه؛ فقد وجدوا في كل مكان أشياعا مماثلين لهم ترجموا بيانهم المفعم بالطغيان والمسمى ب «حقوق الإنسان» إلى جميع اللغات ونشروه بين عامة الأمم والملل التي كانوا يحرضونها فيه على حكامها.
20
غير أن الطلائع الذين ألمعنا إلى ذكرهم من أهل العقول النيرة في الإمبراطورية العثمانية، لم يكونوا ليوافقوا عاطف باشا ونظراءه على مثل هذه الأحكام والآراء التي تجري مجرى التهم الباطلة. ولم يتحاشوا أن يسددوا سهام نقدهم إلى الحكم السلطاني المطلق ويطالبوا بالدستور. وما زال عددهم يتزايد وتأثيرهم ينمو حتى كانت حركة مدحت باشا ودستوره، ثم الرجعة الحميدية (نسبة إلى عبد الحميد)، ثم حركة تركيا الفتاة، والانقلاب العثماني سنة 1908.
ولا يحتاج إلى قول أن الحركة الدستورية العثمانية، من مدحت باشا
21
إلى شباب تركيا الفتاة،
22
بل إلى الانقلاب الكمالي، تأثرت بالثورة الفرنسية ومبادئ مفكريها تأثرا واضحا. ولقد عرف الشرق العثماني والعربي أيام عبد الحميد قافلة كبيرة من أحرار الفكر استلهموا فرنسا الثائرة وأعلام أدبائها الثائرين، وهاجروا إلى الأرض الفرنسية، ونقلوا آثارا فرنسية
23
من نتاج العقول الحرة، وكانت هجرتهم وما نقلوه من المجاري البارزة التي سلكتها الثورة إلى الشرق.
ولكن هذا كله يدخل بنا في فصل جديد، كثير الشعاب، طويل الشقة.
الأدباء والمفكرون العرب أمام الثورة
(1) عرض عام ... والحقيقة هذه هي: إن الإنسان لا يفلح ولا يسعد ولا يرتقي إلا بممارسة حقوقه الطبيعية، وإن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وإن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر تصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان: الحرية؛ حرية الفكر وحرية القول وحرية العمل. وأول أسباب الرقي في الأمم: الحرية الاجتماعية والحرية السياسية والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية، فيسعون دائما في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تقيد أو تمتهن. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليهم الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون ويحاولون قتلها.
أمين الريحاني في الريحانيات
ها نحن في زمن السلطان عبد الحميد الثاني!
وواضح أن السلالة العثمانية كانت تأخذ بأسباب «الحكم المطلق» وتستند إلى حق الملوك الإلهي شأن غيرها من السلالات المالكة القديمة.
1
وكان عبد الحميد الذي قبل بالدستور، أول الأمر، شديد النزعة إلى الحكم المطلق، يريد حصر السلطة بيده، وقد فعل؛ فباتت تكال له ألقاب التفخيم والتمجيد، فهو «ظله (ظل الله) الأكرم وخليفته الأعظم»،
2
وهو «وارث الأنبياء بلا امتنان وخلاصة بني عثمان».
ولعلنا نحسن صنعا إذا وقفنا قليلا لنجس نبض الفكر السياسي الذي كان يبيحه عبد الحميد؛ فإن هذا ليزيدنا فهما لتيار الفكر السياسي الذي انطلق بدافع من الثورة الفرنسية، ويعيننا على فهم الاصطدام القوي الذي لم يلبث أن وقع بين التيارين.
ولعلنا لا نجد أحدا يمثل الفكر السياسي الحميدي «مفلسفا» كما يمثله لبناني من أدباء ذلك العهد هو الدكتور الظريف شاكر الخوري. والأرجح أن الدكتور شاكر كان لا يشعر بأنه يبث «فلسفة» السياسة الحميدية، بل الأرجح أنه كان لا يريد أن يبثها، إلا أنه مع ذلك كان يكره جلب الأذى لنفسه، و«المسكين» - في نظره - «من تقدمت أفكاره عصرها؛ فهو الذي يكون الضحية الأولى.» وما أغناه عن أن «يفحص كلف الشمس بالعين العارية ويعرض نفسه للعمى بلا فائدة.» وباختصار «أكرم رئيسك ولو كان حمارا.»
3
مع أن الدكتور في خاتمة كتابه «مجمع المسرات» يعلن أن مؤلفه «حبل به في الظلم وولد في الحرية»؛ لأن صدوره مطبوعا سنة 1908 وافق سقوط عبد الحميد وإعلان الدستور العثماني، وبهذه الكلمة نفس عن صدر متضايق كان ينفس عنه قبلا بلذع التوريات والنكات.
وفي الكتاب فصل عن «ضرورة السياسة للهيئة الاجتماعية» كتب في العهد الحميدي، وهو الفصل الذي يساير فيه الدكتور شاكر تيار الفكر السياسي الحميدي «مفلسفا» مجلببا بجلباب من «المنطق» و«القياس»؛ فيثبت الدكتور أولا ضرورة «القوانين التي تعطي كل ذي حق حقه»، ثم يثبت ضرورة «أناس مخصوصين يديرون حركة القوانين ويسيرون بموجبها، وهؤلاء هم الساسة.» أما القوانين فقسمان: قسم يتعلق «بحقوق الأفراد بين بعضهم»، وقسم يتعلق «بحقوق الهيئة عموما مع هيئة أخرى.» ولا بد للفئة المخصوصة التي تتولى إدارة القوانين من أن «يرأسها شخص تعطى له السلطة»، ويكون له مساعدون وقوة تنفيذ هي الجيش؛ ولئلا تخرب الجمعية «حصر الباري السلطة بيد واحد».
ومن ثم يقابل الدكتور بين الحكومة والجسم مقابلة طريفة لا نلبث إذا دققنا فيها النظر أن نجد أن الحكومة هي الدولة العثمانية الحميدية، شبهها الكاتب بالجسم الإنساني ليثبت موافقتها للخلق الطبيعي.
ف «الرأس هو الملك»، والرأس عليه «مدار الحياة»، وهو «مركز العقل يميز النافع من الضار»؛ ولذلك «نرى هذا التحفظ الكلي للرأس» إذ «تحيطه الحصون من كل ناحية.» ثم «الرئة» التي هي «الصدر الأعظم»، ووجه الشبه أن الرئة تدخل الهواء الجديد وتنقي الدم، والصدر الأعظم وظيفته أن يدخل كل شيء نافع لبلاده. ثم «القلب» وهو «وزير المالية»، القلب يوزع الدم في الجسم ووزير المالية يسهر على الإمداد بالنفقة؛ فالدم هو المال.
أما «المعدة» فهي «الخزينة».
وأما «الأعصاب» فهم «الولاة»، صلة الوصل بين الملك الذي هو الرأس وبين البلاد. ثم تأتي «الأطراف»، وهؤلاء هم «العسكرية»، و«الأطراف العليا تشبه الخيالة، والسفلى المشاة»، و«كلها تتحرك بأمر الملك.» و«كما أن الأطراف تقنع بالغذاء القليل، كذلك العسكرية التي عليها مدار شرف المملكة وحمايتها فتكتفي بغذائها فقط؛ لأن ليس لها سلطة الإدارة؛ فالقساوة على الأطراف كالقساوة على العساكر؛ لأن الأطراف لتعودها مس الأرض فيقسو جلدها ويصير قليل الإحساس، كالعسكر الذين يعتادون الشغل والتعب والحر والبرد ولا يجوز لهم الترفه لأنه يضرهم!»
ثم تأتي «الحواس» التي هي «السفراء».
أما الإفرازات التي يلفظها الجسم فكالأشخاص المفسدين والمقلقين في المملكة، وإخراج هذه الإفرازات وظيفة من وظائف «العسكرية». ويخلص الدكتور إلى النتائج الآتية: «الوظائف مختلفة في الأهمية، ولكل عضو وظيفته، ويكون مؤلفا بهيئة تجعله قادرا على إتمام هذه الوظيفة. وكلما كثرت أهمية العضو كان أكثر كمالا وتركيبا. وهذا التفضيل سنة من الخالق، وليس من العضو ذاته. وليس من الحكمة أن يتساوى الرأس والقدم؛ لأنهما لو تساويا لاختل النظام وخربت الحياة؛ إذ لا يمكن للقدم أن تقوم بواجبات الرأس، ولا لهذا أن يخلف ذاك. ولكل منهما وظيفة خصوصية يتكافأ أو يتجازى حسب ضرورتها وحاجة الحياة إليها. وهذا التمييز هو عين العدل؛ مثلا: يجب للرأس بتغذيته خمسين غراما من الدم، وللقدم يلزم عشرة غرامات؛ فيلزم أن يعطى الخمسون غراما من الدم أولا للرأس إذ بدونه لا تقوم قائمة للقدم؛ ولذا ترى أن الدم أول ما يتوزع للرأس!»
وبعد ذلك يرش الدكتور على هذا «المعجون الحميدي» شيئا من الكلام العسلي: «أساس السياسة الحق، وأساس الاجتماع المحافظة على الحقوق.»
ولسنا بحاجة إلى أن نشرح للقارئ كيف أن الدكتور يبث الفكر السياسي الحميدي «مفلسفا» ومجلببا بجلباب من المنطق والقياس؛ فهو يقرر ضرورة حصر السلطة في فرد، ويدعو كل عضو إلى الاهتمام بوظيفته، وإلى الرضا بقسطه من الدم (أي من المكافأة على عمله)؛ فيكون محصل كلامه توطيد الأوضاع الحميدية. ومما يسترعي انتباهنا بوجه خاص رأيه في وظيفة الجنود. وإذا ذكرنا أن الأوتوقراطية الحميدية تلقت ضربتها من الجيش، ظهر لنا معنى دروس الدكتور شاكر الخاصة بالعسكرية.
وغني عن البيان أن مقابلة الدكتور بين الحكومة والجسم لا تصمد للنظر. والمثل الألماني يقول: كل تشبيه أعرج. وتشبيهه هذا كسيح، لا أعرج وحسب! ولمحة تعرفنا أن الملك، للهيئة أو الجمعية، ليس كالرأس للجسم؛ فالرأس إذا قطع هلك الجسم، وقد قطعت رءوس ملوك فلم تهلك الهيئة، بل زكت عافيتها وربت صحتها.
وكان طبيعيا أن يتصدى لهذه «الفلسفة» السياسية الحميدية من يخالفها، بل إن هذه «الفلسفة»، وهي مجلى من مجالي التعبير عن شرعية الحكم المطلق، أخذت بها الأوتوقراطية العثمانية قديما. ووجدت طليعة من المعارضين أيام السلطان عبد المجيد، بل قبله أيضا. وكان عبد المجيد نفسه على جانب من الاستنارة، فعمد إلى شيء من الإصلاح في نظام الحكم، فأدخل وزيره رشيد باشا «القانون المسمى بالتنظيمات الخيرية، للمساواة بين رعايا الدولة المنسوبين إلى غير العنصر الحاكم.» ولم يلبث عبد المجيد أن أيد التنظيمات الخيرية بخط يعرف بخط الكولخانة. وسارت الدولة العثمانية خطى نحو الملكية المقيدة.
فلما ولي العرش السلطان عبد العزيز «ساقته عظمة الملك إلى حب الأثرة والاستبداد، ورأى اللذة في الانفراد بالأحكام، فلم يجسر أحد على التلفظ بكلمة واحدة في أمر الإصلاح؛ فقامت مقام التنظيمات وخط الكولخانة والقوانين الجديدة إدارة استبدادية.» و«ظن عبد العزيز الحكومة غير الأمة، وبذر أموال الدولة في غير طائل، كشراء الأسلحة وإعداد الجنود لمقابلة الشعب بقوة مكونة من أبنائه»،
4
وحارب الوزيرين المستنيرين عالي باشا وفؤاد باشا.
5
وفي هذا العهد أشرق نجم مدحت باشا، وهو أحد الأعلام الساطعين في الكفاح من أجل حكم الشورى في الشرق؛ وكان يتجه إلى الغرب بنظره الإصلاحي؛ وكانت الثقافة الفرنسية صلة الوصل بينه وبين الغرب؛ وكان عميق التأثر بمبادئ الثورة الفرنسية، إلا أنه، في الأغلب، كان يرمي إلى ملكية مقيدة بدستور ديمقراطي عصري لا إلى جمهورية، وإن يكن ظهر من خصومه من «يتهمه» بالجمهورية وتفكيك الدولة العثمانية وحب الاستقلال ببعض أجزائها.
ووفق مدحت باشا وأعوانه إلى خلع السلطان عبد العزيز وتولية السلطان مراد ليحكم بحسب دستور تقره الأمة. لكن عبد العزيز انتحر بمقراض لشدة غيظه. ولم يطل حكم مراد، فعهد بالسلطنة إلى عبد الحميد، والنية لا تزال معقودة على إعلان الدستور. وأعلن الدستور، إلا أن عبد الحميد ما لبث أن اتهم مدحت وأعوانه بقتل السلطان عبد العزيز، ودبر لهم محاكمة انتهت بإعدام مدحت. وهكذا استطاع السلطان عبد الحميد أن يتابع سيرة الأوتوقراطية العثمانية، واستبد بالأمور وبالغ في استبداده.
وقد سبق لنا أن رأينا تيار الفكر السياسي الحميدي كما مثله الدكتور شاكر الخوري «مفلسفا» ومجلببا بجلباب من «المنطق» و«القياس»، فما هو التيار الفكري المعارض الذي كان يمثله مدحت باشا وأعوانه ومفكرونا وأدباؤنا الذين نزعوا نزعته متأثرين بالثورة الفرنسية ومبادئها؟
من أقدم آثار هذا العهد كتاب بعنوان «محاكمة مدحت باشا»، عربه يوسف كمال حتاتة، وصدر تعريبه في مصر. وفيه نقرأ ما يوجهنا إلى فهم مذهب الأحرار المعارضين لعبد الحميد، ونلمس مدى تأثرهم بالثورة الفرنسية ومفكريها. يقول الكتاب:
الحرية تحدد للإنسان حدوده، وتعرفه موقفه في الهيئة الاجتماعية، وهي التي تفرق بين الإنسان وبين الحيوان؛ وهي التي أوصلت الحكومات المتمدنة إلى درجة الرقي ...
خلق الله الإنسان وخلق أعضاءه ، فهو مختار في استعمالها، حر في تصرفاته وحركاته وسكناته، له حق العمل كما يريد والتوجه إلى أي مكان يرى فيه مصلحة نفسه؛ وهذه هي الحرية الشخصية. ومع هذا فالإنسان يميز بواسطة العقل النافع والضار والحسن والقبيح. والعقل يختلف بين الناس، ولا يقدر الإنسان على الوقوف عند حده وعدم التجاوز على حقوق الغير؛ ولذلك فقد وجدت القوانين لوضع حدود للبشر وتعيين حقوق أفراد الشعب ... إلخ.
ولقد أثبتنا في باب النصوص من كتابنا هذا مقطوعة طويلة نقلناها عن كتاب «محاكمة مدحت باشا»، فإذا راجعها القارئ - ولا بد له من مراجعتها - وجدها أشبه بمنهج كامل كان أساسا فكريا بنى عليه أعلام مفكرينا وأدبائنا العرب؛ فكما كثر الالتفات في هذه المقطوعة (التركية) إلى «العدل، والمساواة، والحرية، والشعب، والحقوق، ومونتسكيو» - وفي ذلك ما فيه من أثر بين للثورة الفرنسية ومبادئها - كثر كذلك التفات أعلام مفكرينا وأدبائنا إلى هذه القيم والمذاهب في الحكم وإلى مونتسكيو وروسو والثورة الفرنسية ومبادئها.
ولسنا نظن أنفسنا بحاجة إلى المعارضة بين التيار الفكري السياسي الذي تمثله تلك المقطوعة والتيار الفكري السياسي الحميدي كما عرفناه في مقال الدكتور شاكر الخوري؛ فإن نقاط الخلاف والتناقض بين التيارين ظاهرة للقارئ.
ويلاحظ من المقطوعة أيضا أن الأعلام من مفكرينا وأدبائنا لم يكتفوا بالنظر إلى الثورة الفرنسية، بل نظروا معها إلى الإسلام ومبادئه، فوجدوه يؤيد مطامحهم في الإصلاح والشورى والدستور (وهذه شعبة من الموضوع سنعالجها معالجة خاصة).
واندفعت هجمة فكرية عنيفة على الاستبداد الحميدي في سبيل الحرية والدستور والإصلاح، فكان الانقلاب العثماني سنة 1908، ولكن بقوة الجيش. واستمرت اليقظة العربية الفكرية، وقد كانت - وما برحت - للثورة الفرنسية يد قوية فيها.
وسبيلنا في هذا الفصل أن نعرض لقافلة من كتابنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية ومبادئ أعلامها. وسنرى أن القافلة عظيمة حقا تكاد لا تخلو من اسم كاتب أو مفكر عربي شهير، وغني عن البيان أننا سنقتصر على أسماء الذين كان تأثرهم واضح السمة، عميق الطابع.
وليكن ابتداؤنا بالسيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314ه/1839-1897م). وهو وإن لم يكن عربيا، فقد اتصلت حياته اتصالا وثيقا بالشرق العربي، وأتقن اللغة العربية وله فيها آثار أدبية (كلمات وخطب مقطعة ورسائل) تنزله منزلة الأديب العربي.
ولسنا نعلم كيف بدأ اطلاع الأفغاني على الثورة الفرنسية ومبادئها، لكننا نعلم أنه انضم إلى الحركة الماسونية في مصر أيام الخديوي توفيق، والتحق بالمحفل الاسكتلندي؛ ظنا منه أن الماسونية حركة تحريرية. ولا يزال هناك اعتقاد إلى اليوم بأن الماسونية لها يد قوية في جميع الثورات ومنها الثورة الفرنسية، على أن التحقيق التاريخي - كما يقول زيدان
6 - دل على أن هذا الظن لا يستند إلى أساس. وبالفعل اصطدم الأفغاني بخيبة مرة لما رأى أن المحفل الاسكتلندي الذي التحق به جعل من شعاراته: «الماسونية لا دخل لها في السياسة!» فألقى كلمات نرويها كما حفظها لنا السيد محمد باشا المخزومي مؤلف كتاب «خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني»، وهو أوسع كتاب في موضوعه. قال الأفغاني:
إذا لم تدخل الماسونية في سياسة الكون، وفيها كل بناء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تستعمل لهدم القديم ولتشييد معالم حرية صحيحة وإخاء ومساواة، وتدك صروح الظلم والعتو والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة حجارة، ولا قامت لبنايتهم زاوية قائمة ...
أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير خطير: حرية، مساواة، إخاء - غرض منفعة الإنسان، سعي وراء دك صروح الظلم، تشييد معالم العدل المطلق - فحصل لي من كل هذا وصف للماسونية، وهو همة للعمل وعزة نفس وشمم واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم.
وظاهر ما في هذا الكلام من تأثر بشعارات الثورة الفرنسية. ولما لم ير السيد الأفغاني أن اشتراكه في المحفل الاسكتلندي يهيئ له ما يريد من النشاط والتوجيه السياسي، أنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنسي، وركز جهوده على المطالبة بدستور ومجلس شورى، مستندا إلى ما تأثر به من شعارات الثورة الفرنسية ومبادئها، مستمدا من روح الشورى في الإسلام، مقتنعا بأن الإصلاح الداخلي في طريقة الحكم يقوي الشرق في ثباته للغرب الزاحف عليه. وترتبط سيرة جمال الدين الأفغاني بثلاث حركات شورية في الشرق ، هي: الحركة التركية الدستورية، والحركة المصرية النيابية في عهد الخديوي توفيق وبعده، والحركة الإيرانية النيابية أيام ناصر الدين شاه.
ويلاحظ أن باريس، وما وراءها من تقاليد ثورية،
7
كانت جوا استأنس به جمال الدين الأفغاني، فأصدر من مدينة ثورة 1789 مجلته «العروة الوثقى» بمساهمة صديقه الشيخ محمد عبده. ومع أن هذه المجلة لم ينتشر منها إلا ثمانية عشر عددا، بين 13 آذار و16 تشرين الأول سنة 1884، فإن صدى صوتها كان عظيما في تنبيه الأفكار في الشرق العربي عامة.
ويجد القارئ في باب النصوص من هذا الكتاب طائفة مختارة من أقوال الأفغاني تشف جميعها عن تأثر واضح بثورة فرنسا ومبادئ مفكريها الأحرار.
وينتقل بنا القول إلى مفكر آخر من طلائع مفكرينا: فرنسيس فتح الله مراش الحلبي، وقع في يدنا منه كتابان: غابة الحق (طبع في بيروت سنة 1881)، ومشهد الأحوال (طبع في بيروت سنة 1883). كان فرنسيس مراش عميق التأثر بما بلغته فرنسا من التقدم في صحة أساليب الحكم وروعة المظاهر العمرانية، وكان شديد التفاؤل بتيار الإصلاح الذي دب دبيبه أيام السلطان عبد العزيز. فهو، في كتابه غابة الحق، قوي الإيمان بفوز العدل والحرية والعلم والعقل؛ قوي الدعوة إلى تأمل الطبيعة وأحكامها وعبرها، كثير التحدث عن «نزاهة الطبع الإنساني» و«حرية الفطرة».
8
على أنه، في كتابه مشهد الأحوال الذي أنشأه، أو أنشأ معظمه، في غربته في باريس، ميال إلى التشاؤم، وإن يكن أكثر تشاؤمه معلقا بسوء حظه الشخصي. والأرجح أنه لم يفقد يوما إيمانه بفوز العدل والحرية والعقل، إلا أنه ما لبث أن أدرك أن موجة الإصلاح التي لمسها أيام عبد العزيز ضعيفة سطحية؛ فلا بد من أمد طويل قبل اندفاع موجة إصلاحية قوية عميقة النبع كما يريدها.
ولئن يكن فرنسيس فتح الله مراش لم يذكر الثورة الفرنسية ومبادئها ذكرا صريحا، فإن وشائج الارتباط بينه وبينها وبين أعلامها المفكرين صريحة ملموسة، ولا سيما في كتابه غابة الحق.
وإنه لكتاب فريد في نوعه، قص فيه المؤلف قصة حلم تراءى له، وأودعه آماله وأمانيه في مصير بلاده والدنيا . يدور هذا الحلم الرمزي العجيب على حرب نشبت بين «مملكة الحرية» و«العبودية»، فظفرت فيها مملكة الحرية، ووقع ملك العبودية في الأسر، وأقيمت محكمة اجتمع فيها ملك الحرية وامرأته «ملكة الحكمة» ورئيس جنده «قائد جيش التمدن» ووزيره وزير «محبة السلام»، وسيق إليها ملك العبودية وأعوانه ليحاكموا، وكان «الفيلسوف» يمثل دوره الأساسي في توجيه المحاكمة وتوضيح طرق التسوية والإصلاح.
ولما كان اجتزاء الأقوال القصيرة من كتاب غابة الحق لا يفي بغرضنا، فقد آثرنا أن يرجع القارئ إلى باب النصوص من مؤلفنا هذا؛ ففيه فصول اخترناها لإظهار أثر الثورة الفرنسية ومبادئها في كاتب يعد باكورة زكية من موسم نهضتنا الفكرية والأدبية.
ومن فرنسيس مراش ينتقل بنا الحديث إلى أديب إسحاق، تلميذ الأفغاني وصديقه ورفيقه. وقل بين كتاب العرب، في مطلع النهضة الحديثة، من تصرف بقلم وبيان كقلم أديب إسحاق وبيانه. وإن القارئ ليحس بحرارة الشباب تتنفس في كلماته. ولعل الشيخ إسكندر العازار وفق إلى تصوير الرجل وإنصافه خير توفيق حين قال يؤبنه: «عاش حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، ومات حر الضمير فكرا وقولا وفعلا. يبكيه ضمير الأحرار، وتندبه الحرية. نشأ وطنيا خالصا صحيحا، وعاش جنديا لأشرف الأصول وأسمى الغايات ... إي، والإنسانية! كان للإنسانية نصيرا، ولأعدائها نذيرا، وبالإنسانية بشيرا، فلتبكه الإنسانية!»
وأديب إسحاق من أعمق كتابنا صلة بالثورة الفرنسية وبمبادئ مفكريها، وله لفتات إلى الثورة تملأ كل ما سطره قلمه، وله لفتات رائعة في وصف هذه الثورة واستنباط العبرة منها وضرب المثل بها. وفي كتاب «الدرر» (منتخبات من آثاره، طبع في بيروت سنة 1909) رسائل بليغة بعنوان: «نفثة مصدور»، خطها كما يقول في فرنسا «تحت سماء الإنصاف، على أرض الراحة، بين أهل الحرية، يسمع ألحانا في مجالس العدل، فيذكر أنين قومه في مجالس الظلمة وتحت سياط الجلادين، فينوح نوح الثاكلات، ويرى علائم النعمة في معاهد المساواة فيذكر شقاء سربه في ربوع الظلمة فيذرف الدمع ممتزجا بسواد القلب ويكتب به إليهم ...»
وقد أثبتنا في باب النصوص من هذا الكتاب رسائله الأربع التي تتعلق بالثورة الفرنسية . وأثبتنا كذلك جزءا من مقالته «حركة الأفكار» وهي تدور في أساسها على الثورة الفرنسية وسريان روحها من الغرب إلى الشرق، كتبها لمناسبة خلع السلطان عبد العزيز، وظهور حركات معارضة للشاه في بلاد فارس. وكثيرة هي النصوص الملائمة التي يمكن اختيارها من أديب إسحاق،
9
إلا أننا أثبتنا النصوص الرئيسة التي سبق ذكرها وعززناها بمقتطفات قصيرة من أقواله، واضطررنا إلى الاكتفاء بذلك نظرا لضيق المجال.
ونغادر أديب إسحاق إلى كاتب آخر من طلائع كتاب العرب ومفكريهم الذين ناضلوا الظلم في سبيل «قيم» ومبادئ يظهر عليها طابع من الثورة الفرنسية وآراء مفكريها؛ ذلك الكاتب هو عبد الله النديم الذي اضطر إلى الاختفاء من ملاحقة السلطات عقدا كاملا من حياته على أثر الثورة العرابية في مصر. وقد دون تيمور باشا في كتابه «أعيان القرن الثالث عشر» قصة عبد الله النديم واختفائه، فإذا هي حقائق عجيبة كاختلاقات الخيال. ولم يترك الشيخ نديم كثيرا من الآثار، ولا ريب أن يد الاضطهاد مسئولة عن ضياع بعض روائع قلمه، إلا أننا وقعنا على إحدى مقالاته التي تبين ما نحن بصدده، فأثبتناها مع النصوص. وسيرى القارئ أن عبد الله النديم يدعو ملوك الشرق إلى الشورى، ويؤيد دعوته بشاهد من الغرب، ويعد بأنه سيؤيدها بشواهد من القرآن الكريم في مقالة ثانية.
وإلى جانب عبد الله النديم يرتفع أمامنا شخص بقامة معنوية فكرية شاهقة؛ أعني عبد الرحمن الكواكبي مؤلف كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى». وغني عن البيان أن الكواكبي، كغيره من الأعلام الذين نسوق الحديث عنهم، لم يكن نتيجة لتيار واحد، وإنما اشتركت في تكوينه تيارات منها الثورة الفرنسية ومبادئها. وقد عرض الكواكبي في «طبائع الاستبداد» لذكر السبيلين الرئيسين من سبل الإصلاح في نظره، فكان أولهما: «سبيل النبيين»، وثانيهما: «سبيل الفئة التي اتبعت أثرهم»، يعني «فئة الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد ولا تمسكوا بمعاداة كل دين، بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقربوا.» وضرب مثلا لهذه الفئة فذكر «مؤسسي جمهورية الفرنسيس.» وكان الكواكبي معجبا بيقظة الشعب الفرنسي وتوثبه الثوري، ويرى «أن الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها، كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يوم خص بحكمه ذوي قرباه دون المسلمين، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس».
ويستطيع القارئ أن يرجع إلى النصوص التي اخترناها للكواكبي من طبائع الاستبداد وأثبتناها في هذا الكتاب؛ فإنها أوضح دليل على عمق تأثره بثورة فرنسا وأحرار مفكريها.
وينتقل بنا الكلام من الكواكبي إلى الدكتور شبلي الشميل، وهو فلتة زمانه في قبول النظريات الجديدة في العلم والسياسة واعتناقها اعتناقا مدركا واعيا. ترك الرجل مجلدين غنيين يحويان جل آثاره الأدبية، نشرتهما مجلة «المقتطف» باسم «مجموعة الشميل»، وليس يهمنا منهما في هذا الكتاب إلا الجزء الثاني. وطبيعي أن يكون الدكتور شبلي شميل قد تأثر بالثورة الفرنسية ومبادئها، على أنه لم يقف عند حدها، بل اعتبرها حادثة عالمية هي مرحلة من مراحل التطور البشري الذي كان يعتقد أنه سائر نحو الاشتراكية. ويكفينا هنا أن نثبت له هذه الكلمة في الثورة الفرنسية: «لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة.»
ومع الدكتور الشميل يعرض ذكر فرح أنطون صاحب مجلة «الجامعة». وفرح هو معرب رواية «ديماس الكبير» عن الثورة الفرنسية، طبعت ثلاثة أجزاء في مجلدين: «نهضة الأسد» و«وثبة الأسد». وكان فرح، أول الأمر، شديد الإيمان بمبادئ الثورة يعتقد أنها الدواء لكل داء، ثم ضعف إيمانه. إلا أنه - كما قال عن نفسه - تغذى بهذه المبادئ حتى أصبح يحرم على نفسه رشقها ولو بوردة، حتى في المبادئ التي بطل اعتقاده بها. والواقع أن ارتياب فرح أنطون في قيمة الثورة ناتج عن أنه لم يرها - كما رآها الشميل - مرحلة من مراحل التطور البشري، واعتبرها - وهي التي حدثت في أواخر القرن الثامن عشر - دواء لكل داء في نظام الهيئة الإنسانية، ولو بعد مضي قرن خطا فيه التقدم خطى جبارة وجدت مشاكل تستدعي إصلاحات جديدة. ولنا رجعة إلى هذا الموضوع.
وقد كتب فرح أنطون كلمة تمهيد للطبعة الثانية من تعريب رواية «ديماس»، أثبتنا قسما منها في باب النصوص؛ لأنها تدل على مدى تأثره بالثورة الفرنسية، وصلة الانقلاب العثماني بها، وضغط العصر الحميدي على الفكر وحريته.
وما كان لنا أن ننسى في هذا العرض مصطفى كامل الزعيم المصري الوطني، وهو الذي نشر كثيرا من مبادئ ثورة فرنسا وآراء أحرارها. ولقد أمضى مصطفى كامل ردحا من حياته في باريس، ويكاد لا يخلو كتاب في سيرته من الصورة التي عرضها في شوارع باريس تمثل مصر فتاة مكبلة مسلوبة الإرادة تستنجد بفرنسا لرد حريتها. ويفهم من نص العريضة التي وجهها مصطفى كامل إلى فرنسا في سبيل إسعاف مصر أنه إنما علق أمله على روح الثورة الكبرى وما رافقها من مبادئ. وفي العريضة يشيد الزعيم الوطني المصري بفرنسا «التي أعلنت حقوق الإنسان.» ومفهوم أن استنجاد مصطفى كامل كان عملا سياسيا فيه كثير من السذاجة، إلا أنه يدل على عمق أثر الثورة الفرنسية في الشرق العربي وجمال الهالة التي أحاطت بها الثورة وجه فرنسا.
ولمصطفى كامل خطب كثيرة تشف عن صلة قوية بمبادئ فرنسا الثائرة وتسرب عدواها إليه. وكان أول هدف يتوخاه «الحزب الوطني» الذي يقوده مصطفى كامل: «إعلان مبادئ الحرية الدينية والسياسية، وتشكيل مجلس نواب مصري، وتحديد كل سلطة.» وقد أوردنا في باب النصوص مقتطفات من خطبه يستطيع القارئ مراجعتها.
وبين طلائع كتابنا ومفكرينا أديب ناضل الظلم، وقاسى النفي والاضطهاد، واتصل اتصالا روحيا عميقا بالثورة الفرنسية وأعلام المفكرين الذين أوقدوا شعلتها في الضمائر قبل أن يندلع لهب نارها في مدن فرنسا وقراها ويرسل ضوءا كبيرا قشع ظلمة عن العالم. أردنا ولي الدين يكن، صاحب «القلم الذي أصبح غازيا في حرب الاستبداد» كما قال عنه في كتابه «المعلوم والمجهول». وما أشد ما يذكرنا ولي الدين بفولتير حين قال لعبد الحميد: «لأهزن بقلمي أركان قصرك هزا!» وكان متأثرا بما قاله ساخر فرنسا الساحر لملك بروسيا فردريك الكبير: «ليس لي صولجان، ولكن لي يراع!» ولقد سالت من ولي الدين على سن قلمه كلمات قصيرة تذهب مذهب المثل، وكلها تشف عن تأثر بالثورة الفرنسية، كقوله: «الحرية عدوة الملوك وحبيبة الشعوب!» وكأن مشهد ثورة كالثورة الفرنسية تشب في وجه عبد الحميد لم يفارق باصرة ولي الدين؛ فهو ينظر إلى الأمة أيام عبد الحميد ويراها «أجملت الصبر حتى تنفست عن البارود.» ويرى قصر عبد الحميد وكراسي ملكه، ثم «ما هي إلا صيحة أخذتهما فتساقطت تلك اللبنات الذهبية، وقعقعت هاتيك العروش، وقضي الأمر!»
ولولي الدين رقة على باريس وحنين إليها، وما مقالته فيها، يوم طغى عليها نهر السين سنة 1900 فنكبها نكبة مؤلمة، إلا قصيدة ناعمة والهة. ومن أبرز ما يشاهده أديبنا بعين الخيال من المدينة العظيمة «برج إيفل كأنه خطيب الحرية!» ويجد القارئ بين النصوص المختارة في هذا الكتاب قطعة لولي الدين عن «البلبل»، اجتزأناها من روايته «دكران ورائف»، وهي الرواية التي أراد بها تصوير جواسيس عبد الحميد وسعي الشباب الأحرار في سبيل الانعتاق من نير السلطة المطلقة المستبدة. وولي الدين متأثر في قطعته هذه التي اخترناها بفكرة استلهام الحرية من الطبيعة، ومعلوم أنها فكرة روسوية. ويلاحظ أن بلبل ولي الدين «يترفع عن تمليق الملوك»، وهو «على ضعفه وصغره بطل الحرية، ما أودع قفصا إلا ومات فيه غما أو انتحر يأسا».
ولن ننسى من كبار أدبائنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية: أمين الريحاني. وقد توجنا هذا الفصل بكلمة له تنادي مناداة على صلته الواضحة الوثيقة بالثورة الفرنسية ومبادئها، وتكاد لا تخلو صفحة من «ريحانياته» في أجزائها الأربعة من أثر من آثار ثورة فرنسا وأعلام مفكريها. ولأمين الريحاني فصل ناقش فيه كتاب كارليل عن الثورة الفرنسية، ودار في نقاشه على مسألة تاريخ الثورة وقضية العنف، فأثبتناه في باب النصوص من هذا الكتاب لقيمته. والذي يقرأ القصيدة المنثورة التي كتبها الريحاني في الثورة، إطلاقا، ترتسم في ذهنه صورة راسخة من حياة هذا المفكر الجريء، وهو لا يفتأ يذكر الظالمين ويردد قوله: «ألم نقص عليهم قصص باريس؟»
ويقودنا الريحاني إلى جبران خليل جبران. وقد تأثر هو الآخر بفرنسا الثائرة
10
وأحرار مفكريها تأثرا عميقا، إلا أنه غير ظاهر فيه ظهوره في الريحاني؛ والأرجح أن ذلك راجع إلى أن جبران قليلا ما تعاطى السياسة، وطرأت عليه طوارئ أفكار في القسم الأخير من حياته فلان العصب النضالي في أدبه كما لم يلن في الريحاني وذهب مذهب الاكتفاء بتأملات نفسية حلوة مخدرة. على أنه في مطلع سيرته الأدبية أعرب عن ثورية غاضبة، متسمة بسمات بارزة من الثورة الفرنسية ومبادئها. ويحب بعض أن ينسوا تلك البواكير القوية التي أنتجتها يراعة جبران في أول أمره ك «الأجنحة المتكسرة» و«الأرواح المتمردة» و«عرائس المروج»، ولكن لها من القوة، والحيوية الثورية، ما يكفل بقاءها. وإن الهيئات التي سدد إليها جبران ثورته تجعلنا، في هذه الأحوال، نؤثر الاقتصار على رسالة له بعث بها إلى إحدى الأوروبيات المهتمات بشئون الشرق، فراجعها في باب النصوص، أما هنا فنكتفي منه بهذه النفثات النارية المنيرة. قال في مقالته «يوم مولدي»:
قد أحببت الحرية فكانت محبتي تنمو بنمو معرفتي عبودية الناس للجور والهوان، وتتسع باتساع إدراكي خضوعهم للأصنام المخيفة التي نحتتها الأجيال المظلمة، ونصبتها الجهالة المستمرة، ونعمت جوانبها ملامس شفاه العبيد. لكني كنت أحب هؤلاء العبيد بمحبتي الحرية!
وقال في مقالته التي كتبها يصف بؤس لبنان وجوعه أيام الحرب العظمى الماضية، وعنوانها «مات أهلي!»:
لو ثار قومي على حكامهم الطغاة وماتوا جميعا متمردين لقلت إن الموت في سبيل الحرية لأشرف من الموت في ظل الاستسلام.
عند هذا الحد نقف في عرض الأعلام من مفكرينا وأدبائنا الذين انطبعوا بطابع ذهني ونفسي عميق من ثورة فرنسا وأحرار أدبائها ومفكريها. وكان يمكننا أن نطيل السلسلة فنذكر كثيرين ممن لم نذكرهم، ونقف عندهم، كروحي الخالدي،
11
وجرجي زيدان،
12
والدكتور طه حسين،
13
والدكتور حسين هيكل،
14
والأستاذ عبد الرحمن الرافعي،
15
والأستاذ محمد كرد علي، وغيرهم وغيرهم .
16
ولكننا اكتفينا بمن سبقوا، وأوردنا لأحد هؤلاء (الأستاذ محمد كرد علي) في باب النصوص من هذا الكتاب قطعته الشهيرة عن باريس. وكذلك أثبتنا مقالا لأحد كتابنا المهاجرين عن الإصلاح والصحافة، وفيه يبرز جليا كيف كان يفكر مهاجرونا متأثرين بعوامل عديدة منها الثورة الفرنسية.
17
ولما كان الأدباء اللبنانيون والسوريون في طليعة من تصدى لتصرفات الحكم العثماني وفي مقدمة من بث المبادئ المنبثقة من الثورة الفرنسية في الشرق العربي، ولا سيما مصر، فقد أثبتنا مقالا للكاتب الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي يؤدي فيه واجب القدر والإعجاب لأولئك الأعلام الأحرار.
والآن ننتقل إلى ناحية أخرى من هذا الفصل، فنذكر الدروس الفكرية التي تلقاها أدباؤنا ومفكرونا من فرنسا الثائرة وأعلام ثورتها. (2) دروس في الفكر والإصلاح
إن بين الاستبداد والعلم حربا وطرادا مستمرا، يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في إطفاء نوره. والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا. وهم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا ...
عبد الرحمن الكواكبي
ولكن ما هي الدروس الأساسية التي قبسها أدباؤنا ومفكرونا من فرنسا الثائرة وأعلام مفكريها الثوريين؟ يبدو أن هذا هو المحور الذي يدور عليه كتابنا. وليس من ريب أن أدباءنا ومفكرينا لما اتجهوا بقلوبهم وعقولهم شطر فرنسا الثورية كانوا يرمون إلى دروس ومبادئ يتعلمونها، لا إلى تأييد دولة في غرض من أغراضها الخاصة.
أما أول هذه الدروس التي تعلموها فهو فكرة الثورة نفسها. لقد رأوا أن حياة الأمم ربما اعترتها المفاسد والظلامات في شئون الحكومة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، ورأوا أن الإصلاح ربما أصبح غير ممكن عن طريق الإقناع والتسوية السلمية، فآمنوا بوجوب الثورة في بعض الأحوال، ورأوا بناء على الانقلاب الفرنسي العظيم أن الثورة إذا أجيدت وكانت في موضعها أتت بخير كثير، بل خلقت الأمة والبلاد خلقا جديدا.
وإننا لنجد هذا الخط من التفكير الشديد الوضوح والجلاء عند أمين الريحاني، ولكنه ملموس عند مفكرينا وأدبائنا الأحرار جميعهم. يقول الريحاني في رسالة وجهها إلى نفسه على لسان صديق: «من الحقائق الرائعة أن الثورة للأمة كالحمام للإنسان، تنبه فيه الدم وتوقظ النشاط، ناهيك بالنظافة؛ فالخمود الملازم لحكومات الشرق كلها، والفساد الذي اعتراها، والأقذار التي تراكمت عليها، لا يزيلها غير الحمام، حمام الثورة الغالي.» ويقول ملتفتا إلى الثورة الفرنسية: «في الأمة الفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره بادية حية نامية في ترقي الأمم والناس.»
وقد ذهب أدباؤنا ومفكرونا في تبرير الثورة إلى شبيه بما ذهب إليه الأدباء والمفكرون الفرنسيون؛ فأعلنوا أن السلطة والسيادة هما للأمة والشعب، وأن الهيئة الحاكمة ليست إلا لخدمة الأمة والشعب، وهي مسئولة أمامهما، فإذا هي أساءت التصرف حقت محاسبتها، فإذا هي أصرت وعاندت جازت إزالتها بقوة السلاح. ولنذهب إلى أمين الريحاني مرة أخرى فنقرأ: «الحكومة للرعية، لا الرعية للحكومة»، «وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأمة على السواء بالحقوق الطبيعية، فيسعون دائما في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تقيد أو تمتهن. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية ويوجب عليهم الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون يحاولون قتلها.»
18
ولما كان الريحاني يحاول أن يقيم لنفسه تفكيرا متسلسلا في موضوع الثورة، من الوجهة النظرية، فقد انتقل من ميدان السياسة والاجتماع إلى ميدان الحياة كلها والطبيعة كلها، شأن المفكرين الفرنسيين، فرأى هنا وهناك شواهد على روح الثورة وفعل الثورة، وانتهى عند هذه القاعدة: «ازرع العاصفة تحصد القاصفة»، «إن روح الثورة حية عاملة في دوائر الحياة كلها.»
19
وما لبث أن عرض لأدبائنا ومفكرينا السؤال التالي: إن الثورة لا بد لها من عنف وتدمير وسفك دم، أفيجوز ذلك؟ أتوازي الفوائد المرجوة من الثورة ما يرافقها من أعمال القوة والتقتيل والتخريب؟
غني عن البيان أن الثورة لم تكن في نظر مفكرينا لهوا ولعبا يصح أن تقدم عليه الأمة أو هيئة من الشعب إقداما أعمى أو أرعن، بل من المقرر أن مفكرينا، جميعهم، كانوا يتمنون تلافي الثورة بإصلاح عن طريق الإقناع والتسوية السلمية؛ ولذلك رأيناهم، في برهة النشوة والاغتباط بالانقلاب العثماني سنة 1908، يجعلون من مميزاته سرعته وحقنه للدماء وإمساكه للأرواح. ويلاحظ أن كلمة ثورة بمعناها الحديث مستجدة في اللغة العربية، أما التسمية القديمة فهي الفتنة، وقد تركها مفكرونا الحديثون لتسمية النزاعات الداخلية المسلحة التي يصطدم فيها فريق بفريق سفها وتعصبا وهوسا عن غير مبدأ ولا فكرة ولا طلب إصلاح أو حق. ومفهوم أن أصحاب الأغراض يخلطون بين الثورة والفتنة، وقل أن قامت ثورة لم يقم من شنع عليها بأنها فتنة وفوضى. ودائرة المعارف البستانية في الفصل الذي عقدته على روسو تدعو الثورة الفرنسية «الفتنة العظمى المشهورة»، كما أن نوفل الطرابلسي في كتابه «سياحة المعارف» يدعوها «الفتنة» أيضا. ونعتقد أن للمناخ العقلي الحميدي يدا في ذلك، مباشرة أو غير مباشرة.
نريد بهذا أن نمهد للقول: إن مفكرينا الأحرار كانوا يفرقون بين الثورة والفتنة من جهة، وكانوا من جهة أخرى لا يجيزون الثورة إلا إذا لم يكن سبيل غير سبيلها. وقد تقرر لديهم بناء على شواهد في مقدمتها الثورة الفرنسية أن الانقلابات الضرورية التي تستدعي تخليا عن امتيازات بطل وجه الحق فيها، وتستهدف تبديل نظام راهن، وترمي إلى إحداث تحويل جديد في مجاري الحياة، لا تقع، أو قل أن تقع، سلمية بقوة الإقناع والاقتناع وحدها. ولنقرأ ما يقوله جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: «والتاريخ لم ينقل لنا أن ملكا أو أميرا أو دخيلا بقوته على شعب يرضى عن طيب خاطر أن يبقى مالكا اسما وأمته هي المالكة فعلا لإدارة شئونها وزمام أمورها على مطلق المعنى»، «إذا صح أن من الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال.»
20
وهنا نفضي إلى القول: إن مفكرينا الأحرار الذين فرقوا بين الثورة والفتنة، ورأوا أحوالا يصبح فيها التبديل والتحويل ضروريا، وأدركوا أن أصحاب الامتيازات وأنصار النظام الراهن لهم منطق يبتعد بهم عن فهم منطق طلاب الانقلاب ومريدي الإصلاح (بحيث يتعذر الحل السلمي الناجع)، رأوا عند ذاك أن الثورة ضرورة واجبة. ولما كانت واجبة كان لا بد من قبول كل ما يرافق طبيعتها، اعتقادا بأن ذلك مغرم لا مفر منه لمغنم مرغوب فيه. وهكذا أجاب أدباؤنا ومفكرونا عن السؤال الذي عرض لهم فيما يتعلق بعنف الثورات وقسوتها بما يلي: «إن التنديد برجال الثورة والاستياء من النهضة بجملتها والنفور من هولها والفرار من نارها المحرقة المنيرة ... ذنوب لا تغتفر للمؤرخ إذا اقترفها؛ فالطفل يولد في الألم والعذاب، والجمهوريات تنشأ في الثورات والحروب، والأم تتألم ساعة الولادة وكذلك الأمة.»
21
والذي يستفاد من إحدى كلمات أديب إسحاق أنه لا يحمل الثوار تبعة أعمال العنف التي ترافق الثورات، بل هو يرى أن ما يأتيه الثائرون ليس سوى رد على فعل سبق، ويخاطب الجماهير الهائجة بقوله: «ما أنتم بأصحاب الثورة، وإنما أصحابها الذين يوجبونها بما يظلمون!»
22
ولكن مسألة أخرى عرضت لأدبائنا ومفكرينا فيما يتعلق بقضية الثورة، وكان أهم ما أحدث هذه المسألة وقوع الانقلاب العثماني وإعلان الدستور وانطلاق موجة من الحماسة والفرح أسفرت بعد قليل عن فتور وانقباض. لقد سدد الانقلاب العثماني ضربة إلى سلطة مطلقة هي سلطة عبد الحميد، وصك دستورا ديمقراطيا يعترف «بحقوق الإنسان» ويؤكد حمايتها، وأقر مجلسا نيابيا منتخبا من الشعب، وجعل الأمة موئل السيادة؛ وأقر مبدأ الحكم الشوري الحديث، فكان في ذلك كله شبيها بالثورة الفرنسية. على أنه مع ذلك لم يثمر الثمرة المنتظرة،
23
لم يتناول الدولة وحياة البلاد بتغيير عميق ثابت كما تناولت ثورة السنة 1789 دولة فرنسا وحياتها.
فما السبب؟ ما السر؟ هكذا تساءل أدباؤنا ومفكرونا.
وكان جواب الدكتور شبلي الشميل نافذا مقنعا؛ فقد رد السبب والسر في تقصير الثورة العثمانية إلى «عدم اشتراك الأمة فيها اشتراكا محسوسا بسوى الإكثار من التغني في أول الأمر، وهي اليوم تكثر من العويل ولا تتعداه إلى عمل حازم، وتخرسها أقل كمامة؛ فثورتنا حتى الآن عسكرية اقتصر فيها التغيير على صورة الهيئة الحاكمة؛ فلم تغير شيئا من أخلاقنا ولم تتصل إلى علومنا وصناعتنا وتجارتنا.»
وضرب شاهدا للثورة التي تشترك فيها الأمة اشتراكا محسوسا، وتأتي بنتائج عميقة باقية، فكان شاهده الثورة الفرنسية.
ويحسن بنا هنا أن نسوق كلام الدكتور الشميل بنصه، قال: «إن الاجتماع لا بد له في بعض الأحوال من ثورة تخلصه من خطر الهلاك. ويلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعداد باطن كأنها اتفاق خفي بين أعضائه، موافقة لأمياله؛ أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكون قانونية، وإلا انقلبت شرا عليه. والثورة التي تكون كذلك هي ثورة لا تغلب ولا تقاوم؛ لأنها ليست من أفعال الآحاد، بل هي عبارة عن تخلص الجسم كله مما ثقلت وطأته عليه تخلصا طبيعيا قانونيا.» ويلتفت الدكتور ليلتمس قياسا يقيس عليه، فيقول فورا: «كالثورة الفرنسية، فإنه لم يصدها شيء، ولم يقو عليها شيء، مع أنه اعترضتها موانع داخلية وخارجية قوية جدا؛ وما ذلك إلا لأنها كانت موافقة لميل الشعب وناشئة عن استعداده.»
وذهب الشيخ مصطفى الغلاييني إلى شبه ما ذهب إليه الدكتور الشميل فقال: «إن الحرية الصحيحة هي التي ينالها بقوته دون مساعدة خارجة عنه، كالجيش مثلا، أو كأن تمنح الحكومة الحرية للشعب من قبل نفسها دون مجبر.»
24
والواقع أن الجيش هو الذي زحف من سلانيك وأسقط عبد الحميد وقام وحده بالانقلاب العثماني. ومع أن رؤساء الانقلاب قالوا في ندائهم الذي أذاعوه على الشعب: «إن الجيش هو الشعب، والشعب هو الجيش.»
25
فقد ظل الواقع أن الفرق بعيد جدا بين انقلاب تحدثه القوات المسلحة وحدها وانقلاب تفرضه الجماهير المتحفزة.
وكان طبيعيا أن يعمد أدباؤنا ومفكرونا، إثر تجربة الانقلاب العثماني على الخصوص، إلى النظر في قضية الانقلابات الناجعة وخصائصها ومميزاتها، وفي مقدمة هذه الانقلابات الناجعة الثورة الفرنسية الكبرى. تساءل أدباؤنا ومفكرونا: من يهيئ للثورة ويقوم بها؟ ما هي مقاصد الثورة وأهدافها؟
فأما السؤال الأول، فنرى في الجواب عنه مذهبين: مذهبا يقول إن المفكرين هم مهيئو الثورة وموقدو شرارتها؛ فالثورة الفرنسية أنشأتها
26
أفكار جان جاك روسو وفولتير مثلا. وكتاب «الاتفاق الجمهوري» الذي وضعه جان جاك مؤذنا «بوجوب المساواة هو الذي أدى إلى الفتنة العظمى المشهورة.»
27
ونرى مذهبا آخر يقول: «إن الفرد إنما هو صوت واحد ينطق باسم ملايين الناس الصامتين؛ فالرجل العظيم إنما هو عظيم بشعبه لا بنفسه؛ هو يستمد معظم قوته مما يحيط به من الأشياء والظروف والرجال.»
28
وقد سبق لنا في تعليق طويل في الفصل الذي عقدناه على مفكري الثورة الفرنسية في هذا الكتاب، أن أوضحنا رأينا في قيمة الفكر ودوره في الانقلابات، وقلنا ما خلاصته: «إن الفكر الثوري، السياسي الاجتماعي، إذا هو قاطع الدعائم المادية الجديدة التي تهيئها النشأة التاريخية المحدثة أو عدمها، لم يكن له وزنه في الثورات والنهضات؛ فجان جاك روسو اشترك في تهييء الثورة الفرنسية ولا ريب، ولكن اشتراكه في تهييئها كان ممكنا لأن فكره وافق مطامح الأمة الفرنسية، إذ ذاك، وصح أن يكون مرشدا وسلاحا نظريا لها في ثورتها. ومطامح الأمة الفرنسية، إذ ذاك، لم يوجدها روسو، ولكن التطور التاريخي الذي قوى الطبقة الثالثة
Tiers Etat
ودفعها إلى طليعة المجتمع نفوذا وأهمية هو الذي أوجد هذه المطامح، فعقلها جان جاك روسو وأحسها وعبر عنها، ونبه إليها، بل إن روسو نفسه لم يكن إلا ثمرة من ثمرات هذا التطور التاريخي، ومظهرا من مظاهر تلك المطامح التي تحركت بها أعماق الأمة الفرنسية إذ ذاك؛ فروسو لم يكن ممكنا في فرنسا في القرن السادس عشر مثلا.»
ولنقل: إن هذا الانقسام النظري لا يزال ظاهرا في تفكيرنا الحديث بين فريقين: فريق يؤمن «بعبقري» أو «نخبة مختارة» يفرضون أنفسهم وبرامجهم الإصلاحية على الأمة، وفريق يؤمن بأمة تناضل بجماهيرها نضالا يشاركها فيه أفذاذ الرجال، وتنجب في أثنائه الرجال الأفذاذ، وتعلمهم ويعلمونها، وتقودهم ويقودونها.
ولنقل أيضا: إن فريقا من أدبائنا ومفكرينا السابقين في مطلع النهضة أدركوا أنهم مهما سمت آراؤهم وطابت مقالاتهم لا يستطيعون وحدهم، كما لا يستطيع زعيم ولا تستطيع هيئة كالجيش مثلا، أن يحققوا انقلابا عميقا وإصلاحا راسخا في أمة لم تتيقظ صفوفها، وفي بلاد لم تقم فيها دعائم مادية لبناء الإصلاح.
هذا أديب إسحاق في فصله عن الثورة يتصور جماهير غربية (الأرجح أنها فرنسية) تثور وتنطلق في تيار الثورة، وينتهي الصخب والعنف باستقرار الحرية، وتثبيت الجامعة الوطنية، واستتباب وحدة الحقوق، وانتشار العمران والرخاء. ثم يتصور جماهير شرقية تأتي ما يأتيه الغربيون في ثوراتهم من صخب وعنف، ولكنها (أي الجماهير الشرقية) لا تنال بعض ما نال أولئك؛ والسبب هو أن الشرقيين - كما عرفهم - «لا يقاتلون عن أنفسهم، ولا نحسبهم على بينة مما يقصدون ... فهم في الثورة دعاة زعيم وعصاة زعيم ...» وظاهر من كلمات أديب إسحاق أن الثورة لا تنجع إلا إذا انبعثت من جماهير، جماهير «يقاتلون عن أنفسهم»، أي يطالبون بحقوقهم ويدافعون عن مصالحهم، وهم «على بينة مما يقصدون»، أي إنهم مدركون واعون، وليست حركتهم «دعوة لزعيم أو عصيانا لزعيم»؛ أي إنها غير قضية شخصية.
وهذا أمين الريحاني يبحث في «الثورة الحقيقية» فيقول: «الثورة الحقيقية، ونحن من أنصارها، من رسلها، إنما هي التي يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم ... هي الثورة التي يتقدمها ري العراق مثلا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم ... الثورة الحقيقية، أو بالحري الانقلاب العظيم، هو الذي يساعد في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون.» وواضح أن أمين الريحاني لا يصدق الثورة المرتجلة التي لم «يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم.» فإذا قام مفكر أو مفكرون مثلا تضم أفكارهم بذور ثورة، فإن ذلك لا يكفي، إذ لا بد من «الزمان» الذي يزرع البذور، ولا بد من «التربة» التي هي القلوب والعقول، قلوب الناس وعقولهم. والناس هم الكثرة، لا عشرون ولا مائة. ثم لا بد أيضا من أن تكون البذور صالحة والتربة قابلة؛ أي لا بد من أن تكون الأفكار الثورية تجاوب مطالب قلوب الناس وعقولهم في العهد الذي تلقى فيه إليهم. ناهيك عن أن الثورة ليست أفكارا في أفكار، ولكنها أيضا تقوم على دعائم مادية عمرانية، كسكة الحجاز مثلا وري العراق، وتظهر في مظاهر قانونية نظامية تفسح في المجال للنشاط الحر في ميادين ثقافية واقتصادية، كالطباعة والتعليم والتجارة، و«تساعد» بالنتيجة «في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون!»
وفي قول الريحاني: «يتقدمها ري العراق، مثلا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم ...» أمر يجب أن يستوقفنا. فما الذي أراده كاتبنا بكلمة «يتقدم»؟ فالمعروف أن الثورات تقوم لكسب حرية، كحرية الطباعة والتجارة والتعليم، والمشهور أن الثورات تهب لخلق أحوال يتيسر فيها إنشاء المشاريع العمرانية؛ فهل قصد الريحاني وهو يتحدث عن الثورة الحقيقية أن يصفها باعتبار ما يكون من نتائجها، فذكر في مقدمتها بعض نتائجها زيادة في التأكيد، لكيلا يخال أن حادث الثورة غاية في ذاته لا وسيلة إلى غاية؟ أم إنها فلتة من فلتات القلم؟
نرجح أن الريحاني أراد ضمنا أن يفرق بين نوعين أو مرحلتين من الثورة؛ فهو في خطبة عنوانها «روح الثورة» ألقاها في «جمعية تهذيب الشبيبة» سنة 1913، يبحث في الإصلاح، ثم يقول: «ولكن هذا الإصلاح لا يتم بلا انقلاب في الأحكام، ولا يتم انقلاب بلا ثورة سياسية.» والذي يقصده بالثورة السياسية استيلاء العناصر الجديدة على السلطة توفيرا لأحوال يصبح فيها الإصلاح ممكنا، بل واجبا؛ إذ إن الثورة إذا اكتفت بالاستيلاء على السلطة لم تكن في الحقيقة ثورة، بل كانت كما قال الدكتور الشميل عن الانقلاب العثماني: «تغييرا يقتصر على ثورة الهيئة الحاكمة.»
وهذا يخرج بنا إلى معالجة السؤال الذي طرحناه سابقا: ما هي مقاصد الثورة وأهدافها؟ (مع العلم طبعا أننا نسوق الحديث عن أدبائنا ومفكرينا، والدروس التي تلقوها من الثورة الفرنسية.)
يؤخذ من مغزى كلمات الريحاني السابقة ومن أقوال لغيره، أن الثورة تتدرج من مقصد إلى مقصد، ومن هدف إلى آخر. ويكون أحد المقاصد والأهداف في وقت ما هو الغاية، ولكنه إذا تحقق بات وسيلة إلى مقصد وهدف آخر يصبح هو الغاية عندئذ، وهكذا حتى تتحقق الغاية النهائية.
فأما المقصد الأول، والهدف الأول، فهو أن تعمل العناصر الجديدة، الثورية، في سبيل «انقلاب في الأحكام» أو «ثورة سياسية» أو «استيلاء على السلطة». ولما كان أدباؤنا ومفكرونا يواجهون سلطة مطلقة في نظام الحكم العثماني، ولا سيما أيام عبد الحميد، فقد غلب عليهم رأي الاستيلاء بالقوة على زمام الأحكام.
29
وكان «شاهد» الثورة الفرنسية قدوة لهم؛ وكان الاستيلاء على السلطة بالقوة معناه في نظرهم خلع السلطان ونصب سلطان يوافقهم ويسلم بمطالب الانقلاب. وقليلون جدا منهم من كانوا يريدون الجمهورية؛
30
فالرأي الأعم الأغلب كان طلب الملكية أو السلطنة المقيدة بالدستور.
فإذا تم الخلع، ونصب السلطان الجديد، أعلن الدستور، وأطلقت الحريات الديمقراطية المعروفة، دعيت الرعية إلى انتخاب مجلس نيابي يمثلها ويشارك السلطان في الحكم.
ولكن هذا كله ليس إلا مرحلة من المراحل، بل هو بدء الطريق؛ هكذا قالت طليعة من أدبائنا ومفكرينا رأت أن الانقلاب العثماني وقف عند هذه الغاية؛ فلقد نسخ الانقلاب العثماني الصفحة الأولى من الثورة الفرنسية واكتفى، ولم تكن له جماهير تؤيده في الشوارع كما كانت الحال في الثورة الفرنسية.
وكان الدكتور شبلي الشميل وأمين الريحاني وغيرهما في مقدمة الطليعة من أدبائنا ومفكرينا الذين لمسوا التقصير في الانقلاب العثماني وأحسوا طبيعته السطحية، وأدركوا أن الانقلاب يجب أن تكون له أهداف ومقاصد تعليمية ثقافية وصناعية زراعية تجارية.
إن إعلان الدستور وإحداث المجلس النيابي إنما هو إصلاح - إذا وقع كما وقع الانقلاب العثماني بقوة الجيش واشتراك فئة قليلة فيه - لا تتم فائدته إلا إذا سيق إلى أذهان الشعب بالتثقيف المتواصل المخلص، وإلا إذا طهر جهاز الدولة القديم، فإن موظفا قبل الدستور يعمل بروح ما قبل الدستور لا ينقلب بسرعة ما تصله القوانين الجديدة والتعليمات الجديدة.
كان هذا رأيا في نقد الانقلاب العثماني أخذت به الطليعة من أدبائنا ومفكرينا فدلت على أنها فهمت طبيعة ذلك الانقلاب السطحية، وأكدت - كما أكد مفكرو القرن الثامن عشر في فرنسا - ضرورة تعليم الأمة، وتنقية جهاز الدولة، وتربية القائمين بأعمال الحكومة تربية جديدة.
أما من حيث الصناعة والزراعة والتجارة، فلعل الرأي الاقتصادي السائد كان يعتبر نشاط الدولة في إنشاء الصناعات أمرا غير مرغوب فيه، بل محظورا.
31
وهو رأي مستعار من مفكري النهضة الصناعية الأوروبية الحديثة في مفتتح شأنها، ومستعار أيضا من الثورة الفرنسية واعتمادها بالنتيجة على قاعدة ما نسميه «الاقتصاد الطليق». غير أن دولة كالإمبراطورية العثمانية، تأخرت في إحداث انقلابها الدستوري إلى أول القرن العشرين، وهي جد متأخرة في بنائها الاقتصادي نصف الإقطاعي، وعرضة لمآرب الدول الاستعمارية، ما كان لها أن تكتفي بالنشاط الفردي في ميدان الصناعة (ولا سيما الصناعة!) والزراعة والتجارة اعتقادا منها بأن مجرد إعلان الدستور وإحداث المجلس النيابي كفيل بسير كل شيء على ما يرام؛ فالنشاط الفردي الاقتصادي، وإطلاق الحرية لهذا النشاط الفردي، كله واجب ومثمر أيضا، إلا أنه وحده لا يكفي للوثب بدولة أفاقت متأخرة على السباق الاقتصادي العالمي.
على أننا قد نكون، هنا، جاوزنا بعض الشيء ما قاله أدباؤنا ومفكرونا في نقد الانقلاب العثماني. والواقع أن ثقافة أدبائنا ومفكرينا من الوجه الاقتصادي كانت ولا تزال ضعيفة في الغالب. ولكن يجب القول: إن أدباءنا ومفكرينا إذا كانوا قد مالوا إلى مذهب الاقتصاد الطليق، وآثروا أن ترفع الدولة - ولو كانت منبثقة من الأمة - يدها عن البناء الاقتصادي، فقد أدركوا كل الإدراك هذه الحقيقة الأساسية، وهي: أن وجود حكومة شورية (أو دستورية أو ديمقراطية) تطلق الحريات وتحميها، حاجة أولية لا بد منها لتقدم الشعب ونهضة البلاد.
وهكذا دعوا إلى العناية بمسألة السلطة وأيدوا الاهتمام الكلي بها؛ لأنها مفتاح كل شيء. وكأنما جعلوا شعارهم أن «المرء الذي لا يكترث لأمور حكومته يعد خاملا.»
32
ووجهوا الفكر والأدب إلى السياسة والاجتماع، شأن الأعلام الفرنسيين في القرن الثامن عشر، ورائدهم الحرية السياسية التي هي «العافية المفقودة» كما سماها عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد».
ويتصور أديب إسحاق فريقا يقول له: «دع السياسة لأهل الرئاسة فهم فيها أحق، وبها أعلم، وعليها أقدر.» وقد أراد أديب إسحاق أن يعرض بنوع من ذهنية تعتقد أن السياسة وقف خاص أو احتكار، وراح ينقض هذا الرأي فقال: «ألف الكاتب الفرنسوي روسو كتاب الميثاق الاجتماعي في السياسة، وشعر من أهل زمانه بمثل ذلك الاعتراض، فأجاب: «يقولون: أأنت أمير أم أنت حاكم لتكتب في السياسة؟ وأقول: لا، ولكنني من أجل هذا كتبت؛ فإني لو كنت أميرا أو حاكما لما أضعت الزمان في كتابة ما ينبغي أن أفعل، بل كنت أفعله أو ألتزم السكوت».» ويستأنف أديب إسحاق كلامه فيقول: «من حقوق الإنسان الطبيعية، بل من واجباته، أن ينظر فيما يمسه وما يحيط به من الأمور الدنيوية والأحوال الاجتماعية. ولقد جاز للمرء أن يبحث عن أسرار الوجود ويستكشف نواميس الطبيعة في حالة كونه لا يستطيع تغيير شيء من نظامها ولا يقوى على مخالفة حرف من أحكامها، فكيف يحظر عليه النظر في النظام الذي هو جزء منه والأحكام التي هي من وضع الإنسان؟»
وينظر كاتبنا إلى الفلسفة فلا يعترف بأنها «مخصوصة بطائفة من الناس دون الآخرين.» ثم يقول: «إن الأمم خرجت من خطة الغنيمة ... وانتقلت من دور الطفولية، وسئمت أنفسها الغذاء من لبن الخرافات والرموز، فلا بد لها من دور العلم بالحقائق السامية كما تعلم المعارف الدانية؛ فقد أزف الوقت الذي يخرج فيه عن صفة الإنسانية من لم يكن عارفا بكل ما اكتشفه عقل الإنسان.» ويذهب كاتبنا إلى التصريح بأن الفلسفة أداة، أو يجب أن تكون أداة، من أدوات الكفاح الثوري في شئون الاجتماع وقضايا السلطة، ف «تأثير (علمها) غير منحصر في المعلومات الإنسانية، ولكنه يتجاوزها إلى هيئة الاجتماع فتظهر فيه آثار تغيره (أي الاجتماع) بمظاهر من ثورات الخواطر وتجليات الألباب. ولا بد من ذلك؛ فهو (أي علم الفلسفة) علم الإنسان؛ فلو قدر أن يكون من نتائجه الحكم بكون الناس نوعين اثنين: أحدهما للأمر والسلطة والآخر للطاعة والانقياد، للزم من ذلك أن يكون في الأرض ظلام لا يرحمون وعبيد لا يأبقون. ولو فرض أن تلك النتيجة قد هذبت فيه ولطفت فلم تقض إلا بأن يكون في كل جمعية مدنية فريق يتدبرون الأمور عن الكافة، وأن تكون الكافة وقفا على خدمة ذلك الفريق، لحصل من ذلك مبدأ الامتياز الأرستقراطي القبيح لزوما.»
ويلتفت أديب إسحاق إلى الكتاب فيجرهم إلى المعمعة، ويريدهم مكافحين مناضلين، ويجعل من واجباتهم «السعي إلى جنة الحرية مع ثقل سلاسل العادات وقيود القوانين ...»
ووجد أدباؤنا ومفكرونا أنفسهم أمام قيم ومثل ومعقولات جديدة شاعت على الألسنة والأقلام إبان الثورة الفرنسية وتناقلتها الأفواه والقراطيس في الشرق العربي؛ فقد طفق الناس يتحدثون عن «الوطن» و«الوطنية» و«الأمة» و«القومية» و«الحرية » و«المساواة» و«الحقوق الطبيعية» وشئون أخرى، فكان النظر فيها واجبا على أدبائنا ومفكرينا .
أما الوطن، فلا نعلم أن أحدا من طلائع أدبائنا ومفكرينا حاول البحث فيه كما حاول أديب إسحاق. وقد أثبتنا له في باب النصوص من هذا الكتاب قطعتين تدوران على الموضوع. ويلاحظ أن أديب إسحاق بنى على المفكرين الفرنسيين قبل الثورة، وأيد نفسه بقول من «لابرويير»: «لا وطن في حالة الاستبداد.» وخلاصة رأي كاتبنا في موضوع الوطن أنه «خير وحدة» يرجع إليها المواطنون و«يجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرا صلدا»، ولا بد للوطن - حتى يكون وطنا بصحيح المعنى - من حرية وحقوق وواجبات تسري على الجميع، ف «إن امتياز بعض الناس عن بعض في وطن واحد يلحق بذلك الوطن الضرر العظيم حسا ومعنى.»
33
والوطنية هي الوطن والمواطنين، مع ما يستدعي ذلك من الخدمة والتضحية، والفداء في بعض الأحيان. وقد تطرق أديب إسحاق إلى بحث الوطنية فأثبتنا بحثه في باب النصوص. ولأحمد فارس الشدياق فصل ممتع في نقد الوطنيين الزائفين، أثبتناه أيضا، وهو يشف عن روح الرجل الفكهة اللاذعة وقرابتها من رابليه وفولتير.
34
وبديهي أن أدباءنا ومفكرينا انصرفوا إلى تعزيز الشعور الوطني وتقويته، واعتبروا الوطنية خير جامعة يجمعون بها صفوف الأمة لحمايتها وإنهاضها. وما كاد الشيخ عبد الله النديم يطرح هذا السؤال الذي جعله عنوان إحدى مقالاته: «هذه يدي في يد من أضعها؟» حتى أجاب في أول سطر من المقالة: «ضعها في يد وطنيك!»
أما «الأمة» فيبدو لنا أن أدباءنا ومفكرينا لم يطيلوا الوقفة عندها؛ وسبب ذلك - على ما نرجح - أن معظم أدبائنا ومفكرينا الأوائل كانوا يأخذون بالجامعة العثمانية.
35
ومفهوم أن إمبراطورية السلطان العثماني لم تكن تتألف من أمة واحدة. فإذا استعمل أدباؤنا ومفكرونا لفظ «الأمة» تجوزوا فيه وتوسعوا. والواقع أن تعريف الأمة في الفكر العالمي لا يزال إلى اليوم موضوع جدل كثير. وفي باب النصوص من هذا الكتاب بحث قصير لأديب إسحاق حاول فيه تحديد الأمة فجعلها «الجماعة من الناس» «تتجنس جنسا واحدا»، و«تخضع لقانون واحد »، و«تتعارف باسم تنتسب إليه وتدافع عنه.» أما «وحدة اللغة» فاستحسنها.
36
ولم يذكر الرابطة الدينية مطلقا.
37
وعنى بقوله: «تتجنس جنسا واحدا» أن ليس من الضروري أن تكون الأمة من أصل واحد في النسب؛ لأن التقلبات التاريخية أدت بمعظم البشرية إلى الاختلاط والتمازج. ولا ريب أن أديب إسحاق وفق إلى الصواب في النقاط التي ذكرها، وكان موفقا أيضا في سكوته عن الرابطة الدينية. والذي يمكن استنتاجه من فحوى كلامه: أن الأمة هيئة تتكون تاريخيا (يكونها التاريخ) ولا توجد في أصل الخلق. وإنها لحقيقة من الأهمية بمكان عظيم. على أن أديب إسحاق غفل في تحديد الأمة عن بعض نقاط أساسية.
38
أما كلمة «القومية» فكان استعمالها قليلا جدا إبان انتشار فكرة «الجامعة العثمانية»، ولم تشع إلا بعد نهضة فكرة العروبة.
39
والقومية اسم لشعور وفهم بنيا على النسبة إلى القوم. وقد ذهب أديب إسحاق إلى أن «الأمة من الرجل هي قومه.» ومعنى ذلك أن كاتبنا جعل القوم الأمة، والأمة القوم، فتكون «القومية» من «الأمة» بمثابة «الوطنية» من «الوطن». وهذا هو المعنى الأغلب الذي قصده ويقصده أكثر كتابنا وأدبائنا بالقومية، مع العلم أن بعض الفوضى لا يزال منتشرا في استعمال هذه الكلمات التي لم تعين مدلولاتها الحديثة تعيينا واضحا في لغتنا وأذهاننا.
ويعالج أدباؤنا ومفكرونا موضوع «الحرية» وكلهم مجمعون على أنها الضالة الحبيبة المنشودة.
40
ومن الخير أنهم لم يقفوا في أمرها عند حد المدح والثناء، بل أعملوا الفكر المحلل. وكانت القاعدة التي بنوا عليها ما ورد في «بيان حقوق الإنسان»: «حد الحرية أنه يباح للمرء عمل كل ما يريد شرط ألا يؤذي غيره.» واتفقوا على أن لا بد للحرية من قوانين نافذة؛ فهم بذلك قد ماشوا مونتسكيو، ولكنهم، بلسان أديب إسحاق، أخذوا على مونتسكيو «ذهوله عن ماهية القوانين»؛ ففي واشنطن قانون، وفي طهران قانون، وكذلك الأمر في لندرا وبكين، ولكن التقيد بالقانون في طهران وبكين لا يعني الحرية كالتقيد بالقانون في واشنطن ولندرا. والسبب راجع إلى ماهية القوانين؛ ففي واشنطن ولندرا دستور وشورى وديمقراطية، بينما في بكين كانت تنفذ إرادة الإمبراطور المطلق، وفي طهران كانت تنفذ إرادة الشاه المطلق . وإذن، فالحرية هي: التقيد بقوانين يشترك الشعب في وضعها على يد ممثليه. وفي هذا عرق من روسو نجده في أدبائنا ومفكرينا.
وكما سعت الثورة الفرنسية وسعى أعلامها الفكريون إلى حرية الرأي والعقيدة الدينية والطباعة والخطابة والانتخاب، وحرية التصرف بالأملاك وتنظيم الجمعيات، وحرية الشخص الإنساني بحيث لا يقبض عليه ولا يسجن ولا يحاكم ظلما، كذلك سعى أدباؤنا ومفكرونا إلى هذه الحريات أجمع في مدى قانون يحميها ويضع لها حدا تقف عنده هو: الإضرار بالآخرين وبالمصلحة العامة.
وكما رجع أعلام الفكر الفرنسي الثائر إلى الطبيعة يؤيدون بها مذهبهم، كذلك رجع أدباؤنا إلى الطبيعة أيضا.
وجميل أن نعير التفاتة خاصة مفكرا عربيا خرج عن نطاق الحرية المدنية والسياسية (وكل ما ذكرناه سابقا يدخل في هذا النطاق) فمس موضوع الحرية فلسفيا؛ ذلك المفكر هو فرنسيس فتح الله مراش الحلبي؛ فقد رأى أن بناء الحرية على الطبيعة مذهب سطحي؛ فالطبيعة كلها قواعد ونواميس تضبطها في حركاتها وتطوراتها ضبطا حديديا، فأين هي الحرية في الطبيعة إذن؟ ولكن المراش لم يخلص من هذا إلى إلغاء الحرية، بل كان مؤدى فكرته أن كل شيء في الوجود الطبيعي لا يمكنه أن يكون حرا إلا إذا خضع لقواعد ونواميس هي ضرورة كافلة لوجوده. ومعنى هذا أن لا حرية إلا مع القيام بالضرورات، لا حرية إلا مع إتمام الحاجات التي لا بد منها؛ فالحرية ليست فقط حقوقا نرغب فيها وتضمن لنا بمجرد قانون نضعه، ولكنها أيضا واجبات لا بد من الوفاء بها حتى تحق الحقوق؛ ولذلك لم ينظر المراش في الوجود الاجتماعي والمدني إلى مجرد الرغبة في الحرية، وإلى مجرد قانون يزال أو قانون يوضع، بل نظر أيضا إلى الضرورة، وقرر أن إطلاق الحرية بإلغاء كل قيد لا حاجة إليه هو قانون صوابي. ولرب معترض يقول: ولكن من يثبت أن هذا القيد أو ذاك بات قديما ولا حاجة إليه فيجب إلغاؤه؟ وليس من شك أن المراش فطن إلى مثل هذا الاعتراض، وعرف أن القيد إذا أصبح عائقا للتقدم لا ضابطا يخدم نظاما صالحا فللثورة عند ذلك محلها اللائق، فأيد المراش الحرب الأهلية الأميركية التي وقعت في زمانه لتحرير العبيد مع أنه علم أن كثيرين كانوا في أميركا لا يزالون يجادلون في وجوب استعباد الرقيق ويدافعون بالسلاح عن هذا الحق. ومن أقوال المراش: إن الكون لا يزال مملوءا برائحة البارود في سبيل الحرية.
ومن معاني الحرية التي نظر إليها بعض كتابنا وأدبائنا: الحرية النفسية.
41
والمقاصد بهذا النوع من الحرية كثيرة؛ فمنها ما يتصل بالأخلاق ويرجع إلى التربية. وأديب إسحاق، بناء على روسو وكتاب «إميل»، قد أدرك شدة الحاجة إلى الحرية في التربية، وعرض بالذين «يربون الأولاد كما تضرب الدراهم»، درهم منسوخ عن درهم، ولكن من الحرية النفسية ما قد يعني اكتفاء الإنسان بمحض الاعتقاد أنه حر، وتلك حرية الوهم. ومن الحرية النفسية ما قد يعني استغناء الإنسان بنفسه وانسلاخه عن محيطه تحررا من الواقع وتوصلا إلى شهود الغيب، وتلك حرية لا تدخل في بحثنا.
42
وعالج أدباؤنا ومفكرونا قضية المساواة، وفهموها كما فهمتها الثورة الفرنسية وأقرتها؛ أي مساواة أمام قانون واحد، يسري على جميع المواطنين، يمثلون كلهم أمامه، لا فرق بين غني وفقير، وضعيف وقوي، وأبناء مذهب ومذهب.
43
ومن يراجع آثار الطلائع من أدبائنا يجدهم جميعا كثيري الالتفات إلى قضية المساواة؛ ذلك أن الإمبراطورية العثمانية كانت مبنية الأحكام على الدين والتفريق في القضاء بين أبناء المذهب والمذهب، فضلا عن نقائص صارخة كهضم حقوق الطبقات الهابطة في السلم الاجتماعي، ومحاباة الطبقات الرفيعة، ومراعاة «المحسوبيات»، وشيوع الرشوة وما أشبه. وقد اتخذ التدخل الأجنبي حجة من هذا كله، ففرض محاكم خاصة تنظر في قضايا الأجانب، ونجح في استغلال الاستياء المشروع الذي كانت تبديه عناصر مختلفة في البلاد، فكان من الطبيعي أن يشتد طلب أدبائنا ومفكرينا للمساواة، حرصا على مماشاة الرقي، وإنصافا لجميع المواطنين، وقطعا للحجج الاستعمارية.
وتفرعت من قضية المساواة لدى أدبائنا ومفكرينا مسألة الرجل والمرأة وهل يتساويان؟ وقد ألقى الدكتور شبلي الشميل محاضرة جنح فيها إلى ترجيح جانب الرجل، فكانت موجة قوية من الأخذ والرد . وسبق لأديب إسحاق أن نظر في الموضوع، فشخص إلى هيكل وحيه، إلى الثورة الفرنسية، فرأى - على تعبيره - أن روبسبيير، رسول المساواة الكبير ... نسي نصف النوع الإنساني. وبالفعل، إن الثورة الفرنسية لم تعترف للمرأة بحق مساواة الرجل، وكان أعلام مفكري الثورة ولا سيما روسو متحاملين على المرأة. إلا أن أديب إسحاق قرر أن «المرأة غير الرجل»، وبذلك ترك الباب مفتوحا؛ فلم ينف مساواتهما كما أنه لم يثبتها. وإذا خرجنا عن موضوع المساواة وجدنا أدباءنا ومفكرينا جميعا يعترفون بسمو مكانة المرأة وبوجوب احترامها وتعليمها وإنهاضها. ومن هنا شاع على ألسنتهم القول: الأمة نسيج الأمهات!
أما النظر إلى الطبيعة والتعلم منها، شأن أعلام فرنسا في القرن الثامن عشر، فهو سمة بارزة من سمات أدبائنا ومفكرينا. وقد مر معنا كيف أن فرنسيس المراش رأى أن بناء الحجة في وجوب الحرية على شاهد الطبيعة، مذهب لا يخلو من السطحية، وكان فرنسيس المراش في ذلك أعمق من غيره. إلا أن أدباءنا ومفكرينا - على وجه عام - اتجهوا إلى الطبيعة أسوة بالمفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، واستخلصوا كما استخلص أولئك أن الحرية والمساواة وسائر المطامح الإنسانية إنما هي حقوق أثبتتها الطبيعة للإنسان. وإذن، فقد كان مبدأ الرجوع إلى الطبيعة له مغزى سياسي اجتماعي. وتلك هي أهمية هذا المبدأ بقطع النظر عن خطئه أو صوابه؛ فأديب إسحاق، مثلا، حين يقرر الحرية الطبيعية لا يقف عند حد التقرير، ولكنه يرسل الصيحة إلى النضال، فيقول: «كل ما يذهب بالحرية الطبيعية تقييدا أو إضعافا أو محوا كليا فهو اختلاس أو جهل بماهية الوجود؛ لأن العبودية إما أن تكون إجبارية، فهي من جانب المستعبد سرقة وإتلاف لأقدس حقوق الوجود، وإما أن تكون اختيارية، فهي من جانب العبد جهل وعمى قلب يخرج بهما عن أن يكون إنسانا.»
يضاف إلى ذلك أن التوجه إلى الطبيعة كان له أثر مبارك في حقن أدبنا وأدبائنا بدم جديد؛ فإنهم لما خرجوا إلى جو الطبيعة الطلق بدءوا يخرجون عن الكتب والتقيد بالقواعد المرسومة في الأساليب والأفكار؛ هذا المنفلوطي يهتف بالشاعر داعيا إياه إلى التفلت والانطلاق:
أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله ورءوس أشجاره وضفاف أنهاره؛ فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد!
وهذا جبران خليل جبران يحاول دفع الناس إلى الإحساس بالبون الشاسع بين حالتهم والحالة الطبيعية ويدعوهم إلى الحرية ونور الشمس:
أمام عرش الحرية تفوح الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر. على مسامع الحرية تتناجى العصافير، وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي. في فضاء الحرية تسكب الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح. أما البشر فمحرومون هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنوا لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا، وأقاموا لأميالهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما، فإذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت. لكن هل يظل الإنسان عبدا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر، أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقا بالتراب، أم يحول عينيه نحو الشمس ليحيا بنورها ويحترق بنارها؟
والخلاصة أن مبدأ الرجوع إلى الطبيعة يعني في الحقيقة أن الإنسان ينظر إلى الطبيعة فيفيض عليها حياة من حياته، ويقيمها مقام المشارك له في عواطفه وأفكاره وأمانيه؛ وهذا هو جوهر الرومانتية. إلا أن من الرومانتيين من يتصور الحالة الطبيعية هي الحالة المثلى، ويرى أن لا أمل في العودة إليها، فيعتبر نفسه، والإنسان جملة، أشبه بملاك طرد طردا نهائيا من الفردوس؛ فهو حزين كئيب والطبيعة حزينة كئيبة.
44
ومن الرومانتيين من يشهد الفرق بين الحالة الطبيعية - الحالة المثلى - والحالة الراهنة، فيرسل الصيحة إلى النضال. ولئن تكن هذه الصيحة مبعثها في الغالب شعور يحس الهدف، ولا يرسم طريق الوصول، فإنها مع ذلك خير من رومانتية الندب والعويل.
بقي معنى لا بد لنا من ذكره، يقصده أدباؤنا ومفكرونا حين يقولون: «الطبيعي»؛ فلقد نظروا في أشياء الطبيعة وتصرفاتها، فإذا بهذه الأشياء والتصرفات لها خصائص ونواميس تسري عليها؛ فالحجر إذا أفلت من فوق وقع إلى تحت، وهذا طبيعي. والفحم إذا تمت فحميته اسود، وهذا طبيعي أيضا. ونظر أدباؤنا ومفكرونا في السياسة والاجتماع، فإذا للأمور والتطورات السياسية والاجتماعية خصائص ونواميس تسري عليها؛ فالاستبداد، مثلا؛ أي «حكم الحاكم بأمره» كما عرفه الكواكبي، له صفاته ومسالكه طبائع ملازمة له؛ ومن هنا كان عنوان كتاب الكواكبي «طبائع الاستبداد». ولا يجوز القول بأن أدباءنا ومفكرينا قبسوا هذا الاستعمال من أعلام الفكر الفرنسي وحدهم؛ فقد سبق إليه ابن خلدون إذ يقول مثلا: «من طبيعة الملك الانفراد بالمجد.»
45
ولم ننبه إلى هذا المعنى من معاني «الطبيعة» و«الطبيعي» لنبين محض طريقة من طرق استعمال الكلمة، ولكن لنظهر ما وراء ذلك من صحة وعمق فكر؛ فإن معرفة أدبائنا أن الأمور والتطورات السياسية والاجتماعية - كالأنظمة وأشكال الحكم والانقلابات - لها طبائع مخصوصة، إنما هي معرفة ثمينة تمكننا من انتظار ما يجوز انتظاره، أو يجب انتظاره، في شأن هذا الضرب من ضروب السياسة أو هذا النوع من الاجتماع، فإذا كنا أمام «حاكم بأمره» توقعنا الاستبداد والجور؛ لأن ذلك طبيعي، ولم يحق لنا أن نتوقع زوال الاستبداد والجور إلا بتغيير النظام الذي يحكم فيه حاكم بأمره؛ لأن طبيعة الشيء لا تتغير إلا بتبدل الشيء نفسه؛ فالفحم لا يخرج عن الفحمية إذا دهن بالطبشور، ولكنه ينقلب إذا صار ماسا.
وهناك درس آخر أفاده أدباؤنا ومفكرونا من الثورة الفرنسية وأعلامها الفكريين؛ ذلك هو فصل الدين عن الدولة. وقد شاءت بعض الجهات في الثورة الفرنسية أن تدخل في أمر الدين فترسم للناس عبادة جديدة هي عبادة العقل ممثلا في امرأة، لكن الرأي الأخير قر على أن يفصل الدين عن الدولة، ويحال بين السلطات الروحية والتدخل في الشئون الزمنية. وصحيح أن عددا من أدبائنا ومفكرينا، كالشدياق في «الفارياق» ونوفل الطرابلسي في سياحة «المعارف»، وقفوا موقف المستنكر من الثورة الفرنسية لمسها شأن الدين، وصحيح أيضا أن بعض مفكرينا، كالدكتور شاكر الخوري في «مجمع المسرات»، وقفوا موقف النقد من روسو وفولتير لأنهم خالوهما يريدان نقض
46
الدين، ولكن ليس من شك أن رجال الأدب والفكر عندنا أجمعوا على تأييد مطلب فصل الدين عن الدولة، وحصر نفوذ السلطات الروحية في نطاق خاص بها لا تتعداه، ومفهوم أن أوضاع الإمبراطورية العثمانية كان فيها ما يدفعهم دفعا إلى تأييد هذا المطلب، فشاع على الألسنة والأقلام الشعار التالي: «الدين لله والوطن للجميع».
وبهذا ننهي جانبا آخر من بحث أدبائنا أمام الثورة الفرنسية ومفكريها. وواضح أننا كنا إلى هذا الحد نعرض الذين رأوا في الثورة دروسا ونتائج إيجابية، فلنلتفت الآن إلى الذين حاولوا أن ينقدوا الثورة نقدا يصح اعتباره. (3) نقد ورد
هل جاءت الديمقراطية بكل ما ينتظر منها؟
مي زيادة
هذه التربية الجشعة المحضة التي يحاولون تسخير العلم لتأييدها، فيقوم نياتش ونوردو، فيلسوفا الألمان، مدفوعين برغائب حكومتهما العسكرية، يشدان أزر القوي في القضاء على الضعيف، وتحطيم أسنان الغير، واحتكار الحياة والقوت والارتزاق؛ هي تربية فاسدة تماما تجر الإنسانية إلى الوحشية، وتجعل العالم غار وحش ضار كله بقايا عظام رجسة؛ ولذا وجب دك معالمها، وتقويض أساسها الراسخ، واقتلاع جذورها وإحراقها وتذريتها في الآفاق.
قاسم أمين
قد تغيرت القيود وتنوعت السلاسل واستبدل النخاسون بغيرهم.
أمين الريحاني «فوق سطوح نيويورك»
نعم، لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذلك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا المجتهد المخاطر بالكسول الخامل ... (ولكن) الإنسان لا يكون إنسانا ما لم تكن له صنعة مفيدة تكفي معاشه باقتصاد، لا تنقصه فتذله، ولا تزيد عليه فتطغيه ...
وقد أصبح للثروة العمومية أهمية عظمى لأجل حفظ الاستقلال ...
كلمات للكواكبي
جعلنا سبيلنا في هذا الفصل أن نعرض لأدبائنا ومفكرينا الذين حاولوا أن ينقدوا الثورة الفرنسية الكبرى نقدا يصح اعتباره. ونحن نعني بالطبع أننا لن نعرض الذين لم يستطيعوا أن يروا في الثورة إلا بعض مظاهر وقفوا عندها فأساءوا حتى فهم تلك المظاهر، وكتبوا وهمهم التشنيع على الثورة أو الإغراب الأدبي في سرد القصص والحوادث. وقد كان للروايات التي نقلتها إلى العربية «مجلة روايات الجيب» عن رافائيل سباتيني والبارونة أوركزي أثر سيئ في تصوير الثورة الفرنسية؛ فنحا هذا النحو بعض أدبائنا المحدثين كالأستاذ حسن الشريف في كتابه «تاريخ ما أهمله التاريخ»؛ إذ راح يشبع قراءه حديثا عن مواضيع كالملكة ماري أنطوانيت و«حزنها الملكي»، فكان الحزن أيضا طبقات كطبقات المجتمع! ومن هذه الطائفة أيضا الأستاذ عبد الله عنان الذي كتب سفرا في المؤامرات السياسية في التاريخ، فذكر غراكوس بابوف وحركته، وأظهر ما سطره عجزا ذريعا عن فهم الثائر الفرنسي وحقيقة مكانته.
47
مر بنا أن الأدباء والمفكرين العرب على وجه الجملة وقفوا موقف المعجب المتعلم من الثورة الفرنسية وأفذاذ مفكريها. ولكن تقصير الانقلاب العثماني عن تحقيق الإصلاح المرتجى أضعف الحماسة - بعض الشيء - للمبادئ التي رفع الانقلاب لواءها، وهي مبادئ الثورة الفرنسية. كما أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة» لم تصد دولا تدين بها أو بما يماثلها عن الزحف نحو الشرق بغية التسلط عليه. ناهيك عن أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة»، رغم قيامها في المجتمعات الأوروبية، لم تلغ كفاحا داخليا مستمرا في تلك المجتمعات، ومنها فرنسا نفسها؛ فقد ظل أدباؤنا ومفكرونا يسمعون مثلا بعمال يضربون، وبمفكرين يطالبون بالحرية والمساواة والإصلاح، فخالط بعضهم شك في أن الثورة الفرنسية غيرت شيئا، بل بات بعضهم يعتقد بأن مبادئ الثورة الفرنسية تخالف طبيعة الأمور ولا يتهيأ تحقيقها. وبلغت أذهان أدباء العرب أصداء من فردريك نيتشه الذي حمل حملة شعواء على الثورة ومبادئها، وكذلك لم تلبث أن بلغتهم أصداء من غوستاف لوبون وموقفه العدائي من الثورة، وقامت الحركات النازية والفاشستية فكانت مبادئ الثورة الفرنسية من أهم الأهداف التي صبت عليها نيرانها.
تلك عوامل أضعفت الإعجاب لدى بعض مفكرينا وأدبائنا بالثورة الفرنسية وضاءلت الثقة بقيمة مبادئها.
وكان فرح أنطون في طليعة أدبائنا الذين أخذوا يديرون ظهورهم لمبادئ الثورة بعد أن كانوا شديدي الحماسة لها. على أن فرح أنطون، وقد انتهى إلى الاعتقاد بالاشتراكية، ظن أن اعتقاده الجديد يضائل من قيمة الثورة الفرنسية ومبادئها ومنزلتها في التقدم التاريخي. وكأن الدكتور شبلي الشميل قصد الرد على فرح أنطون حين كتب القطعة التالية، وفيها يبين أن الثورة الفرنسية كانت مرحلة عظيمة في سير التقدم، ولكنها ليست بالمرحلة الأخيرة، ولا هي تفي بمطالب الإصلاح جميعها على ممر الأيام. قال الشميل: ... الغريب أن هؤلاء الذين كان أمثالهم يجورون في الحكم على فرنسا في الثورة الأولى، يعترفون جهارة اليوم بأنه لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة. وهؤلاء الذين يعترفون بذلك اليوم يؤاخذون شعب فرنسا على عدم رضاه من نظام أحكام كانت تصلح له من مائة عام ولم تبق تصلح له اليوم؛ لأن الهيئة الاجتماعية المتمدنة ارتقت كثيرا عما كانت عليه من مائة سنة مع بقاء نظام الأحكام على حاله ... فاضطراب فرنسا وعدم رضاها من نظام جمهوريتها لا يفيدان - كما يتوهمه قصار النظر - أنها تميل للرجوع إلى الملكية، أو أنه إذا قام فيها ملك حازم يستطيع أن يقبض عليها بيد من حديد ويسير بها كيف شاء؛ فهذا حلم يجوز على عقول الأطفال، ولكن لا يجوز على الذين يدركون بعض الشيء من أسرار العمران؛ ففرنسا لن تعود إلى الملكية، ولكن الجمهورية التي تطلبها فرنسا عن حاجة في النفس مندفعة إليها بالطبع، لا عن إجهاد في قوى العقل، والتي تتوقعها أوروبا، هي الجمهورية الحقيقية الديمقراطية التي تصبح فيها الأمة الكل والحكومة لا شيء، بخلاف حكومات أوروبا وجمهورية فرنسا اليوم، فإنها كلها متقاربة في نظاماتها، متساوية في نقصها، ولو اختلفت في أسمائها، وكلها مقصرة عما تتطلبه الهيئة الاجتماعية اليوم وفي المستقبل القريب ... ... ولا سيما أن الأسباب الداعية اليوم إلى النفور من نظامات الهيئة الاجتماعية وأحكامها هي أثقل جدا على عاتق الأمم مما في عصر الثورة الأولى؛ فالثورة الأولى أسبابها الاستئثار بالأعناق والأرزاق لشرف المولد، وقد كان الناس قليلهم يدرك حق المساواة، وأما اليوم فالثورة هي ... بين قوى العقل المستنبط واليد العاملة، وبين فساد نظام الأحكام، حتى أصبحت مستنبطات العقول وأعمال الأيدي خادمة ل «نفر» يستفيدون منها.
وقد كان على التاريخ أن يقطع شوطا كبيرا، فتقع الحرب العظمى الأولى، وتقع الثورة الروسية السنة 1917، ثم تقع هذه الحرب بين قوى التقدم من جهة وقوى الرجعية التي تتزعمها ألمانيا النازية؛ كان على ذلك كله أن يقع، وأن تعثر فرنسا، ثم تأخذ في النهوض من جديد، ويهتف الجنرال ديغول: «من يقل فرنسا يقل ثورة»، ويتحدث عن «فرنسا الغد التي لن تكون كفرنسا الأمس»، وعن الجمهورية الرابعة، وتثار في بريطانيا وكل مكان مشكلة الضمان الاجتماعي، وتمتلئ الدنيا حديثا عن الديمقراطية الصحيحة والعهد العالمي الجديد - كان على ذلك كله أن يقع حتى يظهر كلام الدكتور الشميل في مدى عمقه وصحته.
قبل فرح أنطون أرسل أديب إسحاق هذه الكلمات التي تجذبنا إلى النظر والتأمل فيها، قال:
ليس في الوجود الطبيعي ولا المدني من واجب إلا بحق يماثله، وليس فيه من حق إلا بواجب يقابله؛ فإذا وجب على الوالد للهيئة المدنية تعليم ولده، فقد حق له إمكان ذلك التعليم على قدر الكفاءة. وإذا حق للهيئة الحاكمة إجباره عليه، فلقد لزمها توفير أسبابه وتمهيد سبيله على قدر الإمكان؛ فإن كان الوالد من الذين أصابهم النظام المدني باختلاله ... فهو فقير معدم ... لا يقوى على تعليم ولده ... فالهيئة الحاكمة مأمورة بأن تيسر له ما لا يستطيع.
وهي كلمات أيدها الكاتب بقول الاقتصادي الفرنسي الشهير ساي: «إن مركز المحترف العامل يدني مقدار دخله إلى حد أنه لا يكاد يفي بحاجته إلا بشق النفس، فإذا استطاع تربية الولد وتعليمه حرفة فهو لا شك عاجز عن أن ينيله من العلم القدر الذي يقتضيه حسن الحال في الهيئة المدنية، فإن رامت هذه الهيئة التمتع بنفائع هذا القدر من العلم في الفئة المحترفة العاملة وجب عليها أن تبثه فيهم على نفقتها بإنشاء المدارس المجانية» («الاقتصاد»، الكتاب 3، الفصل 6).
فأديب إسحاق يثير بما قاله وما قبسه من ساي مشكلة عظمى هي مشكلة الذين يصيبهم النظام المدني باختلاله - على حد تعبيره - وهو يعني أولئك الذين يقعون ضحية العجز الاقتصادي فلا يستطيعون أن يعلموا أولادهم. وإلى جانب ذلك يثير أديب إسحاق مبدأ عاما يتناول بمداه شئونا كثيرة غير التعليم الإلزامي، فما هو هذا المبدأ العام؟
يقول كاتبنا: «إذا وجب على الوالد للهيئة المدنية تعليم ولده، فقد حق له إمكان ذلك التعليم على قدر الكفاءة، وإذا حق للهيئة الحاكمة إجباره عليه، فقد لزمها توفير أسبابه وتمهيد سبيله على قدر الإمكان.»
وإذن، فليس يكفي فرض الواجبات على الناس والمجتمع، بل يتحتم على الهيئة الحاكمة أن تيسر لهم وسائل القيام بالواجبات المفروضة. وبطريق القياس، ليس يكفي أيضا منح الحقوق للناس في المجتمع، بل يتحتم على الهيئة الحاكمة أن تيسر لهم الوسائل الضرورية لممارسة الحقوق الممنوحة.
وبكلمة مختصرة، إن القوانين والقرارات، مهما تكن عادلة، نزيهة، إنسانية، تنحو منحى المثل الأعلى، فهي لا تفي بالغرض المقصود منها، بل قد تظل حبرا على ورق، بل قد تنقلب ظالمة جائرة، إن لم تكن قائمة على أساس يمكن من مراعاتها وتنفيذها، ويغلق باب العذر والحجة على من يخالفها.
ولقد عرض كاتبنا نجيب الحداد لشيء من هذا، تنبه إليه بتأثير من فيكتور هيغو وكتاب «البؤساء»، قال:
وضع فيكتور هيغو كتابه المشهور بعنوان «البؤساء» في ستة مجلدات كبيرة بناها على حكاية رجل حسن الأخلاق طيب القلب لم يخلق للشر والعدوان، قضت عليه الضرورة القصوى، وهي ضرورة الجوع أو ضرورة البقاء التي فطر عليها الإنسان، أن يسرق رغيفا من الخبز لأهل منزله وفيهم صغار أطفال يتضورون من الجوع، فقبضت عليه الحكومة بهذا الذنب الكبير، وحكم عليه القضاة، بموجب قانونهم، بالأشغال الشاقة إلى أمد بعيد. وقد أفرغ هوغو في هذا الكتاب كل ما حواه عقله الكبير من فلسفة الشقاء، وكل ما شعر به فؤاده الكريم من واجب الرحمة والحنان، وكل ما سمح به برهانه القاطع وحجته الدامغة من الطعن على القضاء في مثل هذا الظلم الشديد على فقير يائس يسرق رغيفا لسد الرمق وقوام الحياة، دفعته إليه ضرورة العيش وحب البقاء، فأقدم عليه مضطرا غير باغ ولا عاد، وليس من طبعه السرقة وحب الأذى، فحكم القانون القاسي بمثل ما يحكم به على سارق المال الكثير تدفعه إليه يد الطمع وفساد الطبع وحب الأذى والميل إلى السرقة والاختلاس.
وقال الكاتب نفسه يعالج مشكلة صغار الموظفين:
لا يخفى أن حياة الإنسان وحفظ وجوده هو الدافع الأكبر له في كل أمر، بل هو الطبع الغريزي الذي ينقاد إليه بالفطرة الحيوانية حتى يفضله بحكم الطبيعة على كل شيء سواه ... فإذا ضاقت يد العامل (يقصد عامل الحكومة؛ أي موظفها) وكثر عياله وقل مورد رزقه من ضيق راتبه ووجد نفسه مدفوعا إلى حفظ وجوده بعامل الخلقة والفطرة، هانت عليه الذنوب وسهلت لديه أسباب المخالفة والخروج عن الواجب الخفي في سبيل صيانة الحياة الظاهرية، وعن الغرض الوهمي في الحصول على الوجود الحسي الذي هو حقيقة الإنسان وإنسان الحقيقة. ولما كانت أعمال الحكومة التي تمس جانب الشعور مباشرة من طريق الحس قائمة على أيدي صغار العمال كالجندي والجابي والكاتب والناظر ونحوهم، وكان هؤلاء الصغار في ضيق من العيش وقلة في الرزق وحاجة إلى الإنفاق، لم يكن يؤمن على الرعية من اهتضام حقوقها تلك اليد التي تسلمها الحكومة رعاية الشعب من جانب، وتدفعها الفاقة والحاجة إلى ظلمه والتضييق عليه من جانب آخر، لا عن رغبة في الظلم أو حب في السلب والاهتضام، ولكن عن حاجة في النفس وضيق في اليد، وكم قاد شر إلى شر!
وبكلمة أخرى، يريد أديب إسحاق ونجيب الحداد أن يوجها النظر إلى ما للضمان الاقتصادي من شأن عظيم في ضمان القوانين وحسن سير الحكومة، بل حسن سير المجتمع على وجه عام، وكون الحقوق والواجبات فيه ذوات معنى للجميع.
ولكن، ما علاقة هذا كله بالثورة الفرنسية وبانتقادها؟
إن الثورة الفرنسية قد أعطت الإنسان والمواطن حقوقا أساسية جدا. على أن ديدرو، مثلا، كان يقول: إن الملكية (أي ما يملك الإنسان) هي التي تجعله مواطنا.
48
وبالفعل، إننا نجد في الثورة الفرنسية تيارا قويا يأبى اعتبار الذين لا يملكون شيئا مواطنين، ويريد تجريدهم من حقوق المواطن كحق الانتخاب مثلا. وهو تيار قاومه الثائر ماراه مقاومة عنيفة كان من تأثيرها بالنتيجة أن تراجع هذا التيار واندحر. ومع ذلك، فلا شك أن حقوق الإنسان والمواطن، وإن شملت جميع المواطنين نظريا، فإن كثيرين من المواطنين لا تتهيأ لهم ممارستها كما ينبغي؛ إذ ليس يكفي أن تعلن للمواطن حريته الفكرية، مثلا، وحقه في الدعوة إلى رأيه، مع كون هذا المواطن لا يستطيع القراءة والكتابة ولا يتمتع بالطاقة الاقتصادية التي تمكنه من بث فكرته بالتأليف والطباعة؛ وبكلمة أخرى، إن الحرية السياسية والمدنية لا تتوطد ويعز شأنها ما لم توفر باليسر الاقتصادي الشامل؛ وهذا هو وجه النقص الذي حاول أن يتلمسه كاتبانا أديب إسحاق ونجيب الحداد. إلا أنهما لم يهتديا إليه صراحة، بل لمساه لمسا عابرا من طرف ربما خفي عليهما. وقد ذهب نجيب الحداد مع هوغو إلى أن الرحمة المفقودة من قلوب القضاة هي النقص الذي إذا عوض فض المشكلة أو كاد. وربما مرت هنيهات بالكاتبين كليهما طغت خلالها في نظرهما الألوان القاتمة على نظام أوروبا عامة لا فرنسا خاصة، فقررا أن الحرية فيها «اسم بلا مسمى عند القوم، وأن تكرار ذكرها في محافلهم، ورسمها في مجامعهم، هو من قبيل اللغو الساقط والتمويه والتطرئة»،
49
وأن الهمجية السوداء عند الزنوج تقابلها «الهمجية البيضاء»
50
في أوروبا؛ فكأن الثورة الفرنسية وهبات الإصلاح جميعها لم تكن، أو لم تجد فتيلا. وقد يكون مصدر هذا الإجحاف ذهابا مع عاطفة وطنية مستفزة، إلا أنه عند التأمل والتحليل يرجع إلى أن الكاتبين لم يستطيعا أن يفهما حق الفهم وجه النقص الذي ذكرناه في الحرية التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية.
وكأنه كان على أديب إسحاق ونجيب الحداد، كما كان على فرح أنطون، أن يدعا مثل هذا المجال للدكتور شميل يخوض فيه. وقد رأينا كيف تصدى له الدكتور الشميل من غير أن يمس بمنزلة أوروبا وقيمة الثورة الفرنسية وما حققته من نهوض ورقي.
على أننا يجب ألا ننسى أن فرح أنطون وأديب إسحاق ونجيب الحداد في هذا الموقف الذي وقفوه من الثورة الفرنسية، كانوا يطمحون إلى مزيد من الإصلاح، لا إلى نقصان، وكانوا يريدون مضيا في التقدم لا رجعة، فإذا نقدوا الثورة فلأنها قصرت عما ينشدون.
أما غوستاف لوبون فقد نقد الثورة لأنها كانت في رأيه حادثا عبثا، ولو أنها لم تحدث قط لما ضاع شيء على فرنسا من نتائجها. وغوستاف لوبون كاتب مدح الحضارة العربية، فكان ذلك ممهدا لاشتهاره في البلاد العربية، فنقل أكثر كتبه إلى لغة الضاد، ومنها كتاب اسمه «روح الثورات والثورة الفرنساوية» عربه محمد عادل زعيتر. ولعله الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يتناوله القارئ باللغة العربية ويطلع فيه على محاولة طويلة في قدر الثورة الفرنسية؛ ذلك أن الكتب الخاصة بالثورة معدومة تقريبا في لغة الضاد. وقد تناولنا نحن سفرا يجمع بين الثورة الفرنسية ونابليون ألفه محمد صبري وجعله من باب تقرير الوقائع.
وهكذا كاد يخلو الجو لغوستاف لوبون. وتتمثل خلاصة رأيه في الثورة في هذه السطور التي حوتها مقدمة كتابه «روح الثورات ...»: «ولا ريب في نيلنا
51
منذ زمن طويل ما بلغنا إليه وما بلغت إليه أمم كثيرة قبل الثورة الفرنساوية من المساواة والحرية، سواء اشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.»
وأقل ما يقال في هذا الكلام أنه فاقد البرهان. وكيف نستطيع أن نجزم أن فرنسا كانت تنال نتائج الثورة بدون الثورة؟ وقول غوستاف لوبون: «إن أمما كثيرة بلغت قبل الثورة ما بلغته فرنسا من المساواة والحرية.» فيه موضع للنظر؛ فإن هذه الأمم الكثيرة ليست في الحقيقة إلا اثنتين: الأمة الإنكليزية والأمة الأميركية، وكلتاهما نالت الحرية والمساواة بثورة كبيرة شبيهة بثورة فرنسا!
وقد رد إميل أوليفيه على غوستاف لوبون، فقال: «هل يأسف لوقوع الثورة الفرنساوية من لا يريد أن يكون مسخرا لصيد الضفادع في الغدران كي لا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه، وهل ينوح لحدوثها من يريد ألا يرى كلاب شاب عات تخرب حقله، وهل يحزن لنشوبها من يريد ألا يسجن في الباستيل لولوع رجل من بطانة الملكة بزوجته أو لتفوهه بكلمة ضد رجل نافذ أو لغير ذلك، وهل يغتم لاشتعالها من يريد ألا يبغي عليه وزير أو موظف أو وكيل، وألا يكون تحت رحمة أحد من الناس، وألا يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وألا يهينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح؟ ولذلك فإني بصفتي من الطبقة المتوسطة أشكر أولئك الذين أنقذوني، بعد عناد شديد، من الأنيار التي لولاهم لبقيت رازحا تحت أثقالها، وأبارك لهم رغم زلاتهم.»
فكان أن رد عليه غوستاف في مقدمة «روح الثورات ...» بما يلي: «مصدر هذا الوهم الشائع - حتى بين كثير من أقطاب السياسة - هو المبدأ القائل بأن طرق الحياة عند الأمة تكون بحسب نظاماتها. والواقع أن الطرق المذكورة تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة.»
وصحيح، إلى حد كبير، أن طرق الحياة عند الأمة لا تكون بحسب نظامها، كما يقول لوبون. ولكن لماذا حدثت الثورة الفرنسية؟ إنها حدثت لأن الحياة الفرنسية جرت شوطا في التغير عقليا وماديا، بينما بقيت النظامات على ما هي، فوقع التناقض بين الحياة الفرنسية الجديدة الآخذة في الظهور والنمو وبين النظامات القديمة. ولما كان من المستحيل أن يقتنع جميع ممثلي النظامات القديمة بأن دورهم قد انتهى، وقع الاصطدام بينهم وبين ممثلي الحياة الجديدة. وإذن، فالثورة الفرنسية نشبت لتقيم نظامات جديدة ترضي بها مطالب الحياة الجديدة! على أن طرق الحياة عند الأمة تتأثر أيضا بنظاماتها. وقول لوبون: «إن الطرق المذكورة (طرق الحياة) تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية.» يشف عن اختطاف لتعابير ماركسية لم ينزلها حق منزلتها. وكأنه شعر بالخطأ فقال: «إن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة.» مع أن سياق فكرته كان يجب أن يدعوه إلى إثبات كل التأثير للقاطرة ونفي التأثير عن المقصلة! أما أن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة، فهذا مما لا يجادل فيه أحد، إلا أن القاطرة، بمجرد وجودها ، لا تكفل التسوية بين الناس، بل لا بد لها من نظام يضمن هذه التسوية مع القاطرة، ولا بد لهذا النظام، في ولادته وحمايته، من تأييد حتى بالمقصلة أحيانا!
غير أن غوستاف لوبون كان أقل شرا على سمعة الثورة الفرنسية من رجل آخر هو فردريك نيتشه، بلغت آراؤه وأفكاره البلاد العربية عن طريق النقل. وكان فرح أنطون في طليعة من اهتموا من أدبائنا بنيتشه، وإن يكن فرح لم يقف منه موقف المسلم المحبذ. وإلى القارئ ما نقله فرح أنطون عن الكاتب الألماني بشأن الثورة الفرنسية، قال:
ومن أقواله (أي نيتشه) أن الأديان والثورة الفرنسية هي التي أفسدت مبادئ البشر في الدنيا، وخربت طريق الإنسانية، وصرفتها إلى طريق أخرى أدت إلى الاضطراب والفوضى الحاضرة؛ فإن «المساواة والإخاء والحرية» التي وضعت تلك المبادئ أساسها قد أدت إلى تسويد الصغار على الكبار، وترجيح الخاملين القاصرين على أهل الكفاءات، وجعلت الفضل في الدنيا لكثرة العدد لا للاستعداد الطبيعي، وأقامت «سلطنة الشعب» التي هي «سلطنة قطيع المواشي». وقال في فصول عديدة في كتابه «بدء الظلام» وكتابه «ما بين الخير والشر» وكتابه «زاراتوستا»: «إن الأديان ومبادئ الثورة الفرنسية المتولدة منها والناشئة عنها هي أشد وباء أصاب الإنسانية وهدم الكفاءات فيها، ويكاد يفني قواها كما يفني داء التدرن قوى المسلولين. وإن نتيجة هذا الداء ستكون انحطاط الإنسانية إلى ما هو أدنى من انحطاطها الحالي إذا لم يحتط البشر له ويحدث لديهم رد فعل في شأنه.»
52
واهتم أديب آخر، هو فيلكس فارس، بنيتشه فعرب كتابه: «هكذا تكلم زرادشت». وفيلكس من أدبائنا الذين ابتهجوا بالدستور العثماني وأكثروا عنه الخطب فعرفوا ب «خطباء الدستور». ولا شك أن فيلكس، إذ ذاك، كان يحب الثورة الفرنسية ويستلهمها، بل هو ثابر على هذا الحب؛ فنحن نقرأ له في إحدى خطبه «رسالة المنبر» ما يلي: «هدم الرجل الباستيل لأنه أصبح معقلا لمن اختلسوا حق الحرية والحياة، وجاءت المرأة بدورها تهدم جدران بيته (أي بيت الرجل) لأنه كأسياد الباستيل أساء استعمال سلطته.» وهذا كلام يشف عن تأييد للثورة الفرنسية.
إلا أن فيلكس مع ذلك وقف من الثورة موقف المؤاخذة، فقال (الكلام من رسالة المنبر):
خرجت أوروبا إلى عهدها الجديد، ولكن عيسى لم يكن مهديها، ولا محمد ماشيا في طليعتها. كان إنجيلها «حقوق الإنسان» التي كتبها الثائرون بالدم المتمرد، وكان قرآنها القوانين التي سنها نابليون لإقامة الموازنة بين الحقوق، ولكن هذا الإنجيل الحديث الذي استمد من إنجيل عيسى المساواة والإنصاف، لم يتناول سواهما من مبادئ الإحسان والعطف والمغفرة والرحمة. وهذا القرآن الجديد، قوانين نابليون المستمدة من مذاهب الأيمة في الشرع الإسلامي، وقف عند حد التنظيم المادي المحض لحقوق الناس، فقصر عن الأخذ بما في قرآن النبي الهادي من الدعوة إلى المعروف والبر بالأدنين والأبعدين من بني الإنسان.
وهكذا نجد كاتبنا يود لو كانت الثورة لم تهمل القيم الدينية المعنوية كالعطف والمغفرة والدعوة إلى المعروف.
53
فهو من هذا القبيل مخالف لنيتشه الذي ينزل الثورة الفرنسية والأديان منزلة واحدة، كما عرفنا مما ذكره فرح أنطون.
ولقد كاد يعلق شيء من «النيتشية» بأديبة كبيرة من أديباتنا، هي الآنسة مي زيادة، مؤلفة كتاب «المساواة». تقول مي في مقدمة هذا الكتاب:
لأجلها (أي لأجل المساواة) شبت الثورة الفرنساوية وانبرت تعلن للإنسان حقوقه المدنية المرتكزة على الحقوق الطبيعية، فأثبتت في مطلع بيانها بندا أول يشاركها فيه العالم المتمدن، وهو أن الناس «يولدون ويظلون متساوين أحرارا إزاء القانون.» فحذفت بهذا البند نظام الإقطاع القائم على تفاوت الحقوق والواجبات.
ثم تقول:
إنها (أي المساواة) مع الحرية والإخاء لتهز نفسي، وقد لمستها منذ أن كان لي نفس تتحرك. غير أني وصلت إلى نقطة أود عندها تحليل كل شعور وكل تأثير. ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية ...
وليس في هذا الكلام كله ما يدل على صلة بين مي ونيتشه. والحق أن مي لم تسلم يوما بكل ما ذهب إليه الكاتب الألماني، على أنها وقفت مثله موقفا منكرا من المساواة، مؤمنا بعدم إمكانها، بل بضررها. وهذا ما توضحه فصول كتابها.
والخطأ الأساسي عند مي هو أنها لا تتمهل لتقيد كلمة المساواة بمعانيها التي لابستها في التاريخ والحركات التاريخية، كما أنها لا تتمهل أيضا لتقيد كلمات كثيرة بمعانيها في مختلف العصور والأجيال. وهذا جدير بأن يؤدي إلى شطط في التقديرات والأحكام.
إن الآنسة مي لم تجب عن السؤال الذي سمعناه تطرحه على نفسها: «ما هي المساواة؟» بل راحت تتساءل مثلا: «أي قوة أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلع إلى المساواة؟» وهنا لا يتمالك القارئ من أن يسائلها: أي مساواة تعنين؟ ولكنها تستمر فتقول: «لأجلها (أي لأجل المساواة) شبت الثورة الفرنساوية ...» وبديهي أن جعل المساواة هدف المماليك في حركتهم في مصر، وهدف الفرنسيين في ثورتهم السنة 1789، إنما هو حكم يعبث به تخليط تاريخي عجيب؛ فالمماليك آنسوا قوة وفرصة فاستولوا على الإمارة في بلاد حكموها حكما استبداديا مطلقا، بينما ثار الفرنسيون فأقاموا نظام حكم مصدره سلطة الأمة والناس فيه أمام القانون سواء. ولعل مي قصدت أن المماليك أرادوا أن تكون لهم إمارة يحكمون فيها ويستبدون كغيرهم، فكانوا بذلك متطلعين إلى «المساواة». غير أن هذا عنت وإخلال باستعمال الكلمات، وإلا لجاز أن نقول مثلا: إن خروج «فلان» ليصبح لصا ك «فلان»، فيه أيضا «تطلع إلى المساواة!»
يقرأ القارئ كتاب مي فيجدها تبدأ بمسألة «الطبقات الاجتماعية»، وتذكر شيئا تسميه «التنوع بين الطبقات»، تريد بذلك أن تهرب «تمايز الطبقات» في تعبير لا ينفر. وتذكر أيضا «التنوع بين الأفراد»، وتعرض لروسو الذي «طال تأمله في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبد بجهله الفادح، وأن له من الخرافات سجنا لعقله، ومن الأوهام حجابا لروحه؛ فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها، وإن يكن حرا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله، وبقناعته التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمان ما. وهيهات الرجوع إلى الماضي!»
على أن الثورة الفرنسية لم تقصد بشعار المساواة إلغاء التنوع أو التمايز بين الطبقات إلا فيما يتعلق بسريان القانون على الجميع، كما أن أحدا من أعلام الثورة لم يفكر بإلغاء التنوع بين الأفراد. وقد قفزت مي في تعرضها لروسو من موضوع إلى موضوع؛ فالحرية غير المساواة وإن تكن بينهما قرابة. وروسو لم يطالب بإلغاء الطبقات أو التمايز بين الأفراد، بل إن الثورة الفرنسية لم تنشب، وروسو لم يكتب، إلا في سبيل تغيير نظام يحصر الامتيازات حصرا صريحا في طبقة معينة. أما حالة البداوة الأولى - أو الحالة الطبيعية على الأصح كما يسميها روسو نفسه - فقد أصابت مي زيادة في نقدها. على أننا لا نظن أن روسو أراد الرجوع إليها فعلا، بل هو تصورها تصورا واتخذها مهبط وحي يستلهمه.
ثم تتقدم مي إلى مسألة الأرستقراطية، فإذا مر القارئ بفصلها هذا وتسامح بكثير مما فيه، وجدها تقرر ما يلي: «ستظل الأرستقراطية، أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد، ما دامت الطبيعة، ولو تحولت منها الأنواع وتغيرت المظاهر وتعددت الأسماء!» ولكن السر - كل السر - هو في تحول هذه الأنواع، وأنواع الأرستقراطية، إذا شئنا الإصرار على الاسم؛ فإن الثورة الفرنسية مثلا أزالت سيطرة أرستقراطية الإقطاع وشرف المولد، وفسحت في السبيل لأرستقراطية الصناعة والتجارة والمال. هذا صحيح، على أن الأرستقراطية الجديدة وثبت بفرنسا وثبة عظيمة إلى أمام؛ فلا يصح إطلاق الحكم الواحد على الأرستقراطيين. وتستأنف مي كلامها فتقول: «سيظل التفوق موجودا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين.» وفي هذا رائحة نيتشه، بل ألفاظه ظاهرة، ولكن مي هنا تنتقل، بكل يسر وسهولة، من الأرستقراطية إلى التفوق، والمعنيان، بحسب المتعارف، متباعدان جدا؛ فالمفهوم بالأرستقراطية أنها تشمل طبقة من المجتمع تنسب إلى نفسها شرف الدم والمولد، وتتغطى بألقاب خاصة، وتكون ثروتها عقارية في الأغلب، كأمراء الإقطاع في القرون الوسطى مثلا، فإذا كانت ثروتها نقدية أجيز تسميتها بأرستقراطية المال، إلا أن هذه في الغالب لا تنسب إلى شرف المولد ولا تسبغ عليها الألقاب الخاصة. ولسنا ندري ما علاقة هذا بالتفوق، والسير بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود، والتجلي على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين؟ لعل مي تقصد الفاتحين العسكريين، لعلها تقصد العباقرة المفكرين والمخترعين وأصحاب المواهب والكفاءات، لسنا ندري بالضبط. إلا أن مي تتابع طريقها فتقول لنا: «سيوجد أبدا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية مهما تتقلب الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح»، وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا.»
فما هي هذه الأرستقراطية التي هي من الطراز «الأصلح»؟ وما هو هذا الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا؟ إن مي لا تجيب بكلمة. وبمثل هذه الغوامض كان يتحدث نيتشه، ولا يزال الباحثون إلى اليوم مختلفين في معنى الأرستقراطية التي قصدها ومعنى «السوبرمان».
غير أن هذا كله لا يمس حقيقة موضوع المساواة؛ فالمساواة التي سارت تحت لوائها الثورة الفرنسية حاربت الأرستقراطية التي تتربع على ظهر المجتمع وتسيج نفسها بالامتيازات تجاه القانون، وفي احتلال الوظائف وأداء الضرائب وغير ذلك. ولا شك أن الثورة الفرنسية لما أزاحت تلك الأرستقراطية وأعلنت المساواة، وسعت المجال لكفاءات ومواهب كثيرة جديدة، فلم تعن المساواة التي أعلنتها كبحا لطفرة العبقريات والحيويات الدفينة في أعماق الأمة، بل هي التي شجعتها وأطلقتها من مكامنها وعقالاتها.
وما مقصدنا هنا أن نرافق مي في كتابها كله؛ فهي أحيانا ترجع، في نقد الثورة الفرنسية والمساواة التي أعلنتها، إلى ما ذكرناه سابقا من أن هذه الثورة لم تعزز الحقوق السياسية والاجتماعية بكفالة الحقوق والوسائل الاقتصادية. وقد كان هدفنا أن ندل على شيء من النيتشية علق بتفكير أديبتنا أو كاد.
ومن نيتشه وموقفه من الثورة الفرنسية، يخرج الباحث إلى النازية والفاشستية وموقفهما من هذه الثورة؛ فنيتشه هو الكاتب الذي اتخذه النازي والفاشست أبا روحيا. وفي غير مكان من هذا الكتاب يجد القارئ كيف أن موسوليني وغوبلز يشددان الهجوم على الثورة الفرنسية ومبادئها وأعلام مفكريها. «إن التعاليم الفاشستية هي التعاليم المعاكسة لجميع نظريات سنة 1789 الخالدة» (يستعمل هذا النعت متهكما). «إن الفاشستية رد فعل لحركة مجانين القرن الثامن عشر ومعتوهي الإنسيكلوبيديا.»
54 «إن العام 1789 سيلغى من التاريخ.»
55
وليست هذه الأقوال كلمات عابرة؛ ففي كثير من الكتب النازية الهامة يرد ذكر الثورة الفرنسية مشفوعا بالهجوم عليها؛ فكتاب «مباحث عن بعث ألمانيا» يزعم - طبعا - أن الجرماني خالق المدنية الحديثة، ثم يندد بكارثة مشئومة «هي الثورة الفرنسية الكبرى التي قضت على زعماء الشعب الفرنسي الجرمانيين»؛ لأن «طبقة الأشراف - كلها أو معظمها، بما فيها سلالة البوربون - كانت جرمانية الأصل. وهذا ما حدا بالجماهير غداة الثورة الفرنسية أن تصب جام حقدها على طبقة الأشراف خاصة ...» والحق أن هذا مضحك؛ لأن الشعب الثائر إن لم يوجه سخطه إلى طبقة الأشراف في جملة أصحاب الامتيازات، فإلى من يوجهه؟ وإذا كان الشعب يرى أن طبقة الأشراف هي أشد أصحاب الامتيازات تشبثا وتمسكا؛ إذا كان الشعب يرى قليلين من هذه الطبقة ينحازون إلى جانبه بينما ينحاز أكثره إلى الإكليروس؛ إذا كان الشعب يرى أكابر هذه الطبقة يهجرون البلاد ليعودوا غازين مقاتلين تحت لواء أجنبي، فعلى من يصب جام حقده إن لم يصبه عليهم بصورة خاصة؛ لا لأنهم جرمان، بل لأنهم أعداؤه؟
وكتاب «أسطورة القرن العشرين» لألفرد روزنبرغ «يتنازل» إلى حد الاعتراف بالفكر والعقل لأعلام فرنسا من أدباء وفلاسفة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولكنه يجعلهم جميعا «محرومين كل سمو حقيقي في الشعور!» ويستنتج من ذلك أن «يوم 14 تموز أصبح رمز ضعف في الأخلاق!» ويذهب إلى أن الثورة الفرنسية مثلث فيها مسألة اللون دورا خطيرا؛ «فالجماهير اليعقوبية ذات اللون القاتم (!) كانت تجر إلى المقصلة كل من كان ممشوق القامة أشقر الشعر!» (أي آريا!) وأخيرا يقرر روزنبرغ «أن الإنسان الجديد، وليد اختلاط إنسان جبال الألب بإنسان البحر الأبيض المتوسط، احتل المكان الأول منذ هذا اليوم» (يوم انتصار الثورة الفرنسية)!
وهكذا يرى النازيون في ثورة فرنسا سنة 1789 ضربة مسددة إلى «طبقة الأشراف الجرمانية الأصل»، وإلى كل «ممشوق القامة أشقر الشعر». وعلى تعبير «إيوالد ماغولد» في كتابه «فرنسا وفكرة الجنس»، يرى النازيون في الثورة الفرنسية «شق عصا الطاعة من الجماهير القاطنة ما بين البحر الأبيض المتوسط وجبال الألب على سيطرة طبقة الفوهرر!» ويكاد لا يحتاج إلى ذكر أنهم يرون فيها أيضا أثرا من آثار «الإجرام اليهودي»؛ إذ لا بد من الإصبع اليهودي في كل شيء لا يعجب النازيين؛ فيقرر جيرهارد أوتيتيكال في كتابه «الجريمة اليهودية التقليدية» أن اليهود هم الذين قاموا بالثورة ولكن عن طريق الماسون!
في كلمات نيتشه التي نقلناها عن فرح أنطون، يقول الكاتب الألماني: «إن الأديان ومبادئ الثورة الفرنسية المتولدة منها والناشئة عنها هي أشد وباء أصاب الإنسانية وهدم الكفاءات فيها، ويكاد يفني قواها كما يفني داء التدرن قوى المسلولين. وإن نتيجة هذا الداء ستكون انحطاط الإنسانية إلى ما هو أدنى من انحطاطها الحالي إذا لم يحتط البشر له ويحدث لديهم رد فعل في شأنه.»
والنازيون الذين يتخذون من نيتشه أبا روحيا يزعمون أنهم، وحركتهم، هم رد الفعل الذي ينتشل الإنسانية من وهدة انحطاطها التي قذفتها فيها مبادئ الأديان والثورة الفرنسية وشقيقاتها. وفي بعض الآراء التي نقلناها عن كتاب النازيين يبدو من تهوسهم بالجرمانية وعمق عقولهم وتنورهم في البحث، أنهم، حقا، أكفاء للقيام بهذا الواجب الإنساني العظيم!
ولكن لندع المزاح. إن التاريخ يصدر حكمه الآن في ميادين النضال والقتال. إنه يلفظ قرارا رهيبا في أي الجانبين يجب أن يعيش ويكمل سير تطوره وتقدمه: جانب القيم الدينية ومبادئ الثورة الفرنسية وشقيقاتها، أو جانب مبادئ رد الفعل النازي.
ومن قبل أصدر أحد أدبائنا ومفكرينا حكمه في هذا الموضوع؛ ففي خاتمة رواية الريحاني «خارج الحريم»، بعد أن تنتحر بطلة الرواية جهان، يطالع القارئ هذه الأسطر:
أما المدية وكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» فقد كانا على الأرض إلى جانب الديوان (المقعد) مغموسين بالدم، كأنهما يشهدان شهادة حق على ما ينبغي أن يموت في الشرق والغرب قبل أن تولد روح العالم الجديدة!
غير أننا نتحدث عن هذه الروح الجديدة وكأنها لم تولد بعد، وهي في الواقع مولودة، سائرة في طريق الشباب.
ولربما غشيت المفكر ساعات من الحدة العصبية تجلت له فيها الإنسانية شاسعة الفرق بين ما هي عليه وما ينبغي لها أن تكون، فصرخ صراخات جبران خليل جبران
56
في مقالته «العبودية»، وتراءى له «الشبح الهزيل» الذي تراءى لجبران فسأله: «من أنت؟» وإذا به الحرية! فسأله: «من أولادك؟» فإذا بهم ثلاثة: «واحد مات مصلوبا، وواحد مات مجنونا، وواحد لم يولد بعد!» ثم توارى الشبح خلف الضباب ...
الحق أن الحرية منذ عصور لم تبق شبحا هزيلا، ولها أبناء كثيرون لم يموتوا مصلوبين أو مجانين.
والحق أنها لبثت عصرا فعصرا تغالب الضباب الذي ينعقد ليواري شمسها، وإذا بأشعتها تتكاثر وتزداد قوة، وتبدد الظلام، وتنير بقاعا أعظم فأعظم من الكون. ... الخنجر وزراتوسترا نيتشه شاهدا شهادة الحق على ما يجب أن يموت في الشرق والغرب، كما قال الريحاني.
تياران يتفاعلان
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
عمر بن الخطاب
يولد الناس ويلبثون أحرارا متساوين في الحقوق.
من البند الأول من إعلان حقوق الإنسان «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
شد ما تذكر هذه الكلمة التاريخية التي فاه بها عمر بن الخطاب بفاتحة إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وشد ما تذكر أيضا بكلمة روسو: «يولد الإنسان حرا، ولكنه في كل مكان مقيد بالحديد!» وهي الكلمة التي افتتح بها كتابه «الميثاق الاجتماعي».
فهنا قرابة فكرية نفسية بادية للعيان. وقد سبق لنا أن ذكرنا كيف أن الأعلام من مفكرينا وأدبائنا، لما انفتح لهم سبيل الاطلاع على الثورة الفرنسية ومبادئها ومفكريها، رأوا محيطهم وظروفه، فلم يلبث ذلك أن ردهم أيضا إلى عصر النبوة والراشدين ومبادئ الإسلام في طلعته البكر، فسموا الحكم الديمقراطي الذي كانوا يستهدفونه بالحكم الشوري، ونقشوا على الراية الديمقراطية التي رفعوها الآية الكريمة:
وأمرهم شورى بينهم . وإذا طالبوا بحرية الفكر مثلا نادوا بالآية:
لكم دينكم ولي دين .
وقد عزز الكواكبي حق المفكرين في الحماية من الاضطهاد والاستبداد بالآية:
ولا يضار كاتب ولا شهيد .
وبالطبع إن الفرق بعيد بين العصر الذي تلقى فيه الناس آيات القرآن للمرة الأولى، والعصر الذي وقعت فيه الثورة الفرنسية أو العصر الذي طلع فيه الأفذاذ المفكرون من أعلام نهضتنا الحديثة. ولكن فهم المفكرين للكتب الدينية يكون، عادة، من خلال مطالب عصرهم، ولا سيما المفكرون المصلحون والثوريون. ومن أسرار البقاء في الكتب الدينية أنها تتسع في كل عصر لمضمون فكري يطاوع مطالب العصر الإصلاحية. والإسلام بدأ وثبة تقدمية جبارة، والوثبات التقدمية الجبارة في جميع العصور لا يخلو بعضها من مضمون بعض، وكثيرا ما تتقارب تعابيرها اللغوية عن أهدافها العامة، تبعا لتقارب الأشواق الإنسانية واتجاهها في الحياة الاجتماعية نحو الخير والتجديد والعدل والرفق والحرية وسائر المثل والقيم العليا.
ولا شك أن مثل هذا التراث العظيم، الذي وجد مفكرونا المصلحون أنفسهم متكئين عليه، خلق فيهم استعدادا نفسيا كبيرا للإعجاب بالثورة الفرنسية وتقبل مبادئها.
كانوا يرجعون إلى القرآن، فيصادفون الآيات النارية التي تتوقد غضبا على العتاة والجبارين وترن بالنداء إلى الثورة:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . ... وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
وكانوا يرجعون إلى سيرة النبي وأقواله، فيجدونه في ساعة عصيبة من العهد الذي ذاق فيه ألوان الاضطهاد يقسم أن لو وضع خصومه كلا من القمر والشمس بيديه لما رجع عن رسالته، وهو مثال يتبع في الثبات على العقيدة، وفي الإيمان بحق الإعلان عن الرأي. وكانوا أيضا يرددون من مأثور حديثه: إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تودع منها.
وفي زمن الراشدين، كانوا يرون كره الخلفاء للملكية الوراثية المطلقة وما يصحبها من أبهة وبذخ في طريقة الحياة وما تستدعيه من حراس وحجاب وابتعاد عن الشعب. كانوا يسمعون قول القرآن في الملوك:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، ويسمعون رأي أبي بكر في الجالسين على العروش، وتصريح عمر بن الخطاب: «ما أنا بملك فأستعبدكم.» وكانوا يقرءون ما تسجله التواريخ عن ابن الخطاب من مباشرته أمور الناس بنفسه، ومراقبته العمال (الولاة)، وحرصه على بيت المال، وألا تثري الأسر ذوات النفوذ على حساب الرعية. كانوا يسمعون قوله للناس: «كلكم راع وكلكم مسئول.» ويرددون جوابه الشهير للبدوي: «الحمد لله الذي جعل فيكم من يقوم اعوجاج عمر.» فيستنتجون أن للأمة حقا في محاسبة حكامها. وكانوا يتمثلونه نائما كأحد الناس، يوقظه الفارسي متعجبا من رئيس دولة يرقد ولا حارس له، فيجيبه الفاروق: عدلت، فأمنت، فنمت!
وكانوا، إذا راحوا يقرءون أخبار الفتوحات الأولى، يرون كيف التقت جيوش العرب تحت لواء المبادئ الشورية الجديدة في أصول الحكم، بجيوش الفرس وهي تحت لواء الأوتوقراطية الكسروية.
كانوا يقرءون كيف وقف رستم قائد الفرس على قنطرة القادسية قبل المعركة الشهيرة، فواجه مفاوضا عربيا هو فيما سماه التاريخ زهرة، فحدثه المفاوض العربي عن الدين الجديد الذي تألق نوره في سماء الجزيرة العربية ودعاه ودعا الفرس إليه، فقال رستم: أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم، أترجعون؟ قال المفاوض العربي: إي والله! ففكر رستم، لقد كان سمع من المفاوض العربي أن هذا الدين الجديد «يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله»، وفي ذلك - معنويا وعمليا - ما فيه من المس بأوتوقراطية التاج الفارسي، ومصالح الأشراف والدهاقين، والنظام الاجتماعي الفارسي جملة، فقال للمفاوض العربي: «إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، وكانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم.» ومعنى هذا في لغة علم الاجتماع الحديث أن النظام الاجتماعي الفارسي كان نظاما يقسم السفلة (أي جماهير الشعب) إلى طوائف يلتزم كل فرد طائفته التي ولد فيها ووضعه الاجتماعي لا حق له أن يتزحزح عنه، فهو فلاح قن مثلا يكون ابنه فلاحا قنا أيضا، وهو محترف عمل الأحذية مثلا يكون ابنه محترفا عمل الأحذية أيضا، وهكذا ...
فأجاب المفاوض العربي بقوله لرستم: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا.
ولم يكن رستم غبيا، فأحس أن هذا الدين الجديد لن يقبل بنظام اجتماعي إقطاعي متحجر كالنظام الفارسي، ولن يقر الأوتوقراطية الفارسية ويلقي الحبل على الغارب للأشراف والدهاقين.
وكانوا يقرءون محضرا آخر من محاضر المفاوضة بين العرب والفرس قبل القادسية، إذ طلب رستم مفاوضا من العرب يأتيه في الخيمة، فأرسل إليه سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة، فأقبل المغيرة فوجد القوم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، قد فرشت بسطهم على مسافة غلوة فلا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها. وكان رستم قد تأخر عن الحضور مبالغة في الأبهة والعظمة، فما زال المغيرة منطلقا على البسط حتى انتهى إلى مقعد فخم، فارغ، كان مقعد رستم، فجلس عليه. فوثبت رجال الحاشية وأنزلوه ومعكوه، فصاح بهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم! إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى. كان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. اليوم علمت أنكم مغلوبون. إن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا هذه العقول!
وكانوا يقرءون كيف أن أشراف الفرس لما سمعوا كلام المغيرة قالوا: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه (أي يميلون إليه).
1
ثم كانوا يقرءون خبر النقمة على عثمان لما خص أقرباءه، وكيف قيل له: اعتدل أو اعتزل. ثم يقرءون خبر الثورة عليه، فيستنتجون أن ولي الأمر يمكن دعوته إلى التنحي عن منصبه وخلعه.
وفي عصر بني أمية كانوا يجدون الخلافة تتحول على يد معاوية إلى ملكية. بدأ هذا التحول باستحداث تغييرات في نمط حياة الخليفة؛ إذ ابتنى قصرا وجعل له حجابا وحراسا، وفصل بين شخصه وسائر المصلين في المسجد، وأخذ البيعة لابنه يزيد، فأقر بذلك قاعدة الملكية الوراثية، وأصبحت البيعة من بعده مظهرا شكليا لا نوعا من الانتخاب كما كانت قبلا.
قال الجاحظ: فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام تفرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا والخلافة غصبا قيصريا.
2
كانوا يجدون هذا التحول ويسمعون أصوات الاحتجاج وفي مقدمتها صوت عبد الرحمن بن أبي بكر: لا تحدثوا علينا سنة الروم كلما مات هرقل قام مكانه هرقل. وكانوا كذلك يقرءون ما يذكر المؤرخون وعلماء السياسة بهذا الصدد إذ يقررون أن الخلافة انقلبت إلى «ملك عضوض».
أجل، بات الأعلام من أدبائنا ومفكرينا في النهضة الحديثة يرجعون إلى التراث القديم، ويرافقون عصور التاريخ العربي فيستلهمون من عبره ما يوجههم شطر الحرية ومقاومة الاستبداد، ويفتح نوافذ قلوبهم وأذهانهم على الثورة الفرنسية ومبادئها وقواعد الحكم الديمقراطي الحديث.
ونستطيع نحن أن نستأنف السير طوال عصور التاريخ العربي أيام الأمويين وبعدهم، فنرى كم هي كثيرة الوقائع والأفكار الخليقة بأن تذكر بالثورة الفرنسية ومبادئها؛ نستطيع، مثلا، أن نتلو هذه الرواية عن جارية بن قدامة ومعاوية، قالوا: «دخل جارية بن قدامة على معاوية، فقال له الخليفة الأموي الأول: ما كان أهونك على قومك إذ سموك جارية! فأجابه: ما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية (وهي الأنثى من الكلاب)! قال الخليفة: اسكت لا أم لك! فأجابه: بلى، أم لي ولدتني. أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنك لم تهلكنا قسوة ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا، وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن نزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وأسنة حدادا. فقال معاوية: لا أكثر الله في الناس مثلك يا جارية! فأجابه: قل معروفا فإن شر الدعاء محيط بأهله.»
أوليس من المعجب أن يستعمل المفكر الفرنسي روسو كلمتي جارية بن قدامة «عهدا وميثاقا» في جبين كتابه الذي كان إنجيل الثورة الفرنسية كما لقبوه؟ أوليس من المعجب أن يقول جارية للخليفة: «أعطيتنا عهدا وميثاقا، وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن نزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وأسنة حدادا»؟ وفي هذه الكلمات المعدودات زبدة الفكر الثوري الذي ارتكزت عليه الثورة الفرنسية، وخلاصته أن أزمة السلطة الحكومية أمانة في أيدي الحكام سلمتها إليهم الرعية، فإذا أساءوا التصرف بها غدوا غير أهل للأمانة، وحق تجريدها منهم.
3
وكذلك نستطيع أن نقف وقفة عند فرقة الخوارج التي كانت ترى أن الخلافة بالانتخاب وليست مقصورة على أسرة أو قبيلة، والقرآن كلام الله ينزل عندهم سياسيا منزلة الدستور في اللغة السياسية الحديثة، وعلى الخليفة أن يتقيد به، فإذا لم يفعل وجب الخروج على طاعته إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقد اتخذ الخوارج هذه القاعدة شعارا.
4
ومن شعاراتهم أيضا ما جاء على لسان أبي حمزة الخارجي: الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة: حاكما جاء بغير ما أنزل الله، أو متبعا له، أو راضيا بعمله.
وفي وجوب الخروج على السلطان الجائر ومجاهدته بالسلاح، يلتقي الخوارج بالمبدأ الثوري الذي أعلنه المؤتمر الوطني
La Convention ، وفيه يثبت حق الثورة على الحكومة الظالمة.
ولنراجع هنا خبر حادثة وقعت بين الخليفة عبد الملك بن مروان وأحد الخوارج؛ فإنها لتتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده.
روى الشيباني عن الهيثم عن ابن عباس، قال: كنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتاب الحجاج يعظم فيه أمر الخلافة، ويزعم أن ما قامت السموات والأرض إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين؛ وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه. فأعجب عبد الملك بذلك وقال: لوددت أن عندي بعض الخوارج فأخاصمه بهذا الكتاب. فانصرف رجال من جلساء عبد الملك إلى منزله، فجلس مع ضيفانه وحدثهم الحديث، فقال له حوار بن زيد الضبي وكان هاربا من الحجاج: توثق لي منه ثم أعلمني به. فذكر الرجل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال الخليفة: هو آمن على كل ما يخاف. فانصرف الرجل إلى حوار فأخبره بذلك، فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح حوار اغتسل ولبس ثوبين ثم تحنط وحضر باب عبد الملك، فقال الخليفة: أدخله يا غلام. فدخل رجل عليه ثياب بيض يوجد عليه ريح الحنوط، ثم قال: السلام عليكم! ثم جلس، فقال عبد الملك: ائت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به، فقال: اقرأ. فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حوار: أراه قد جعلك في موضع ملكا (ملاكا)، وفي موضع نبيا، وفي موضع خليفة، فإن كنت ملكا فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيا فمن أرسلك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ عن مشورة من المسلمين أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟ فقال عبد الملك: قد أمناك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلد أبدا، فارحل حيث شئت. قال: فإني قد اخترت مصر. فلم يزل بها حتى مات عبد الملك (العقد الفريد، جزء 3).
وأهم ما يعنينا من هذا الحديث الطويل سؤال حوار الضبي لعبد الملك: إن كنت خليفة فمن استخلفك؟ عن مشورة من المسلمين أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟ فكأن حوارا قال لعبد الملك: الخليفة الشرعي (أو الدستوري) ليس الذي يبتز الناس أمورهم بالسيف، بل هو الذي يتولى منصبه عن مشورة منهم؛ الخليفة الشرعي هو الذي تصدر خلافته عن الشورى.
وإننا لنستطيع كذلك أن نعرض لذكر مشهد المنافرة الذي ألم به الكواكبي بين الوليد بن عبد الملك وقيس، إذ خرج قيس مغضبا يقول للخليفة: «أتريد أن تكون جبارا؟ والله إن نعال الصعاليك لأطول من سيفك!»
ثم نستطيع أن نردد هذا البيت لأبي العلاء المعري في الحكام:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وفيه يقرر أبو العلاء أن الحكام ليسوا فوق الرعية ولكنهم مأجورون لها، فوجبت عليهم خدمة مصالحها لا ظلمها وكيدها. ... كان أعلام مفكرينا وأدبائنا يتجهون إلى هذا كله في ثنايا التراث القديم، كما يتجهون إلى الثورة الفرنسية ومفكريها والقواعد التي انبثقت منها في أصول الحكم.
فإذا قال الكواكبي: «إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها.» نظر أولا إلى التاريخ العربي فقال: «كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس.»
وإذا كتب الدكتور شبلي الشميل في الاجتماع البشري أو العمران - وقد عرفنا قدره الثورة الفرنسية وأثرها في ارتقاء الإنسان وإصلاح الأحكام - نظر أيضا في ثنايا التراث القديم، فذكر كلمة منسوبة إلى أنوشروان يقول فيها الملك الفارسي: «ورأس الكل افتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه.» ثم عارض الشميل هذا الرأي برأي سواه خلاصته أن انفراد الملك بالسلطة دونما محاسبة يؤدي به إلى إساءة استعمالها، فيفسد هو وتفسد بطانته ويسري الفساد في الرعية جملة. ثم يعمد الشميل إلى تلاوة أثر من التراث القديم ساقه أبو الفداء في تاريخه، وهو أمر يبين كيف يفسد الحاكم إذا أعفي من المحاسبة وكيف تفسد الرعية، ويبين أيضا أن التراث القديم لم يخل من ذكر شجعان تعرضوا - ولو فرديا - لمحاسبة الحكام المطلقين. ونكتفي هنا بإثبات بعض هذا الأثر:
بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها، فأمنه، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين! فقال المنصور: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجابا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله في هذا الأمر حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها وتجمعها ولا تقسمها، قالوا : هذا قد خان الله تعالى فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه، فاتفقوا على ألا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفع قصة إليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلا ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفا من بطانتك، فإذا صرح بين يديه ضرب ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟
هذا، ولما كان الحاكم يفسد بتحرره من المحاسبة، وكان فساده فساد الرعية أيضا، كان نوع الحكم في المجتمع مفتاح التقدم أو التأخر، السعادة أو الشقاء، وكان الاهتمام بالسياسة أمرا لا بد منه لكل إنسان، ولا سيما رجال الأدب والفكر والفلسفة. وفي أدوار التاريخ وأعمار الأمم عهود خاصة هي عهود الرجات والانقلابات تطرح فيها مسائل الحكم على بساط البحث طرحا لا مناص منه لأحد.
وكان أعلام أدبائنا ومفكرينا يستندون أيضا إلى التراث القديم في تقرير أهمية الدور الذي تمثله السياسة في حياة الإنسان. كانوا يقرءون قول الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك»: «إن الإنسان أعز جواهر الدنيا وأغلاها قدرا وأشرفها منزلة، وبالسلطان صلاح الإنسان.» ويقرءون أيضا: «ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة، كذلك ليس دون رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة.» وكانوا يقرءون أيضا: «أربعة أشياء ينبغي أن تفسر للفهيم كما تفسر للبليد ولا يتكل فيها على ذكاء أحد: تأويل الدين، وإخلاط الأدوية، وصفة الطريق المخوف، والرأي في السلطان.» فيعزز ذلك مذهبهم في ضرورة الاهتمام بالسياسة وبحث قضايا الحكم.
وإننا لنستطيع أن نمضي في هذا الكتاب إلى غاية يمتد معها أجل الكلام في إثبات التوفيق الذي ذهب إليه أعلامنا ومفكرونا بين الثورة الفرنسية ومبادئها والتراث القديم وصفوة مثله وقيمه، على أننا نكتفي بهذا الشاهد الشعري الأخير من أحد كبار الشعراء في الحقبة الأخيرة. دعي حافظ إبراهيم إلى إنشاء قصيدة في حفلة أقيمت بمصر السنة 1899 ابتهاجا بعيد الدستور العثماني، فقال:
فمن يطلب الدستور بالشر بعدما
حمته يد الفاروق فالله طالبه
إذا شوكت الفاروق قام مناديا
إلى الحق لباه نيازي وصاحبه
ثلاثة آساد يجانبها الردى
وإن هي لاقاها الردى لا تجانبه
روت قول بشار فثارت وأقسمت
وقامت إلى عبد الحميد تحاسبه
إذا الملك الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
فهذه التفاتة من الشاعر إلى التراث القديم، إلى بشار، وكان ينزع منزع الشورى في الحكم. وقد صحبها على الأثر التفاتة إلى الثورة الفرنسية وعيد 14 تموز:
لك الله يا تموز إنك بلسم
لجرحى الأسى والدهر تعدو نوائبه
فكم رعت جبارا وأرهقت ظالما
وأنصفت مظلوما توالت مصائبه
ففي الغرب عيد ينظم الغرب حسنه
فتهتز من وقع السرور جوانبه
وفي الشرق عيد لم ير الشرق مثله
تدفق في دار السلام مواكبه
ومفهوم أن العيد الذي في الغرب - كما يقول شارح «ديوان حافظ» - هو عيد الحرية في فرنسا، وهو في شهر تموز.
وليس بالغريب مطلقا أن تتلاقى عند أعلام أدبائنا ومفكرينا صفوة من التراث القديم بصفوة الثورة الفرنسية ومبادئها؛ ليس من الغريب أن يقول الكواكبي مثلا:
لما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، مستثنية القذف فقط. ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية؛ أي الحرية. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بوضعه قاعدة:
ولا يضار كاتب ولا شهيد .
وهذه الأمم الموفقة خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية، وذلك منطبق تماما على ما أمر به القرآن الكريم في آية:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وفي كمالة هذه الآية، وهي:
وأولئك هم المفلحون ، من التبجيل ما يحمل نفوس الأبرار على تحمل مضض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها، الممقوتة طبعا عند المستبد وأعوانه.
ليس من الغريب أن يقول الكواكبي هذا القول وهو يعلم أن النتائج التي تستقر عندها أفكار المتكلمين «في مسائل السياسة وطبائع الاستبداد خاصة» إنما هي نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير بحسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين:
فيقول المادي: الداء القوة، والدواء المقاومة. ويقول السياسي: الداء استعباد البرية، والدواء استرداد الحرية. ويقول الحكيم: الداء القدرة على الاعتساف، والدواء الاقتدار على الاستنصاف. ويقول الحقوقي: الداء تغلب السلطة على الشريعة، والدواء تغلب الشريعة على السلطة. ويقول الرباني: الداء مشاركة الله في الجبروت، والدواء توحيد الله حقا.
هذه أقوال أهل النظر. وأما أهل العزائم، فيقول الأبي: الداء مد الرقاب للسلاسل، والدواء الشموخ عن الذل. ويقول الشهم: الداء التعالي على الناس باطلا، والدواء تذليل المتكبرين. ويقول المتين: الداء وجود الرؤساء بلا زمام، والدواء ربطهم بالقيود الثقال. ويقول المفادي: الداء حب الحياة، والدواء حب الموت.
فإذا تلاقت عند أدبائنا ومفكرينا صفوة من التراث القديم بصفوة من الثورة الفرنسية ومبادئها، فذلك طبيعي ما دام التراث القديم قد استهدف عدل الحكومات وحرية الناس ورقيهم، وما دامت الثورة الفرنسية وأدباؤنا ومفكرونا قد استهدفوا أيضا عدل الحكومات وحرية الناس ورقيهم.
5 «أنا الشرق قد جئتك يا فتى الغرب رفيقا!» هي كلمة لأمين الريحاني في مناسبة ما. وبالطبع إنها رفقة على صعيد المساواة؛ رفقة في سبيل عدل الحكومات وحرية الناس ورقيهم. وهكذا يلتقي الشرق والغرب ويبقى شعر الشاعر كبلنغ سطرا في كتاب.
6
القسم الثاني
نصوص مختارة
الأمير حيدر الشهابي (1761-1835)
(1) الثورة الفرنسية
إنه في سنة 1792 مسيحية، الموافقة 1207 هجرية، حدث في مدينة باريس بلبلة عظيمة إذ هاج شعب هذه المملكة هياجا عظيما، وتظاهر ظهورا جسيما، ضد السلطان والأمراء والأشراف، في يوم كان شديد الارتجاف. وأبرزوا الكمين منذ أعوام وسنين. وطلبوا نظامات جديدة وترتيبات حديثة . وادعوا أن وجود السلطان بصوت منفرد أحدث خرابا عظيما في المملكة، وأن أشرافها يتنعمون في خيراتها، وباقي شعوبها يكابدون أتعابها ومشقاتها؛ فلأجل ذلك نهضوا جميعهم سوية، تلك الشعوب الفرنساوية، ودخلوا على سراية الملك، فخاف منهم خوفا عظيما مع أرباب دولته. وسألهم عن مرامهم والسبب الداعي إلى قيامهم، فأعلموه أنه من الآن وساعد (وصاعدا) لا يبرز الملك أمرا أو يبت رأيا من تلقاء ذاته، بل يكون بت الأحكام والترتيب والنظام بموجب ديوان عظيم ومحفل جسيم. ويكون الملك له الصوت الأول، ثم من بعده مشايخ الشعب الذي عليهم المعول. فبذلك يهون الصعب ويرتفع الظلم عن الشعب.
فلما فهم الملك لويس قيام هذا الشعب المذكور، وما أبدوه من تلك الأمور، أجابهم أنني وأيضا أنا أود عمار هذه المملكة وخيرها، وطيع لما ترونه مناسبا لرفع ضرها وضيرها.
فقالوا له: إن كنت كما زعمت اختم لنا الشروط التي تلايم إصلاح هذه المملكة وقيام المشيخة، فقبل ذلك خوفا من الشعب، وختم لهم الشروط التي قدموها له، ثم بعد أيام جهز الملك نفسه للهرب وخرج ليلا من مدينة باريز وصحبته أخوه وبعض أصحابه قاصدا الإمبراطور ملك النمسا لأنه كان نسيبه شقيق زوجته.
وعندما بلغ مشايخ الشعب خروج هذا الملك جدوا في طلبه فوجدوه في إحدى اللوسطاريات التي في الطريق، فقبضوا عليه ورجعوا به إلى المدينة ووضعوه في السجن مع امرأته وولده. وأما أخوه فإنه نجا منهم وسار إلى بلاد النمسا. وبدا جميع الشعب يصيح صارخا: فليقتل الملك بموجب الشريعة لأنه نكث في عهده مع شعبه، وقد هرب لكي يلتجي إلى «ملك» النمسا الذي هو أخو زوجته الذي قد تسبب لنا هذا الخراب بسببها.
ثم إنه بعدما سجنوا الملك أربعة أشهر حكموا عليه في الموت، وأحضروه أمام الشعب في اليوم الاثنين الحادي والعشرين من كانون الثاني وقد أبرزوا عليه الموت.
وقد طلب الملك لويس أن يخاطب عيلته، والمتوكلون عليه أحضروا امرأته وبنيه وشقيقته واستمروا معهم في المكان الذي كان يأكل به نحو ساعتين ونصف. وخاطب ابنته مريم أنطونيتا قايلا لها: تعلمي من مصايب والدك ولا تجزعي من موته. وطلبوا منه عيلته أن ينظروه عند الصباح، فلم يجيبوهم إلى ذلك. وفي الصباح أعلموه المتوكلون أن الجمهور قد حكم عليه بالموت، فطلب الملك لويس دقيقة لكي يتكلم مع معلم اعترافه فأذنوا له بذلك.
ثم عرض مغلفا على أحد المتوكلين وتوسل إليه أن يرسله إلى مجمع الجمهور، فأجابه: إنني لا أستطيع هذا الأمر لكوني متفوضا أن أرافقك إلى منقع الدم.
ثم أعطى ذلك المغلف إلى شخص آخر وأوعده أن يوصله للجمعية، وكان بذلك المغلف وصيته. (2) إعدام الملك لويس وظهور نابليون
وفي الساعتين ونصف بعد نصف الليل صعد القايد العام نحو الملك لويس وعرفه بأنه مزمع أن يذهب إلى الموت، فأجابه الملك: إنني مستعد لذلك. وإذ خرج من مكانه وصعد الكروسي حيث كان معلم اعترافه. وقد اصطفت العساكر في التبعية حيث كان مكان الموت، وقد كان صمت كلي. وأما الملك لويس، بعدما قرأ صلاة المنازعين، تعرى من ثيابه بشجاعة فريدة وقلب غير مرتجف، وصرخ بصوت عال: أيها الفرنساويون، إنني أموت بريا وأغفر إلى كل أعداي، وأرغب أن موتي يكون مفيدا إلى الشعب. ثم أمر القايد العام إلى الجلاد أن يتمم وظيفته وفي الحال قطع رأسه. وكان حزنا عظيما عند الذين كانوا من حزب الملك. وأما الشعب فكان عنده سرورا عظيما، وصنعوا في مثل ذاك اليوم عيدا في كل سنة تذكارا لقتل الملك وانتصار الشعب.
1
وكان ذلك في مبادي شهر كانون في الرومية، وجعلوه بعد سنتهم، ولقبوه تاريخا للمشيخة، وغيروا الأشهر النصرانية ورتبوها أشهرا جديدة وسموها أسامي مختلفة. وأما الأشهر بقيتها فثلاثين يوما كعادتها الأولى. وفي ذلك الوقت رفضوا الديانة ... وكان خراب عظيم في تلك المملكة، وأهوال متلفة مهلكة. وحدث عدة مواقع وحروب بينهم وبين حزب السلطان، ولا زالت تزداد وتتنامى وتنمو الأحقاد وتتجند الأجناد وتهلك العباد، حتى ضعف حزب السلطان وقويت شوكة المشيخة قوة عظيمة. وبعد أن اعتدل ميزانها وتوطدت أركانها وأهلكوا أخصامها، فأنفذوا كتابات لساير الملوك يعرفونهم عن تآييد مشيختهم، وهذه ما تضمنه كتاباتهم: إن كل من يقر بمشيختنا فهو حبيب لنا، ومن لم يقر بمشيختنا فهو عدو لنا ويستعد إلى محاربتنا لأننا قد استعددنا أن نحارب المسكونة بأسرها! ثم كتبوا بمثل ذلك إلى الدولة العثمانية، وقد كانت هذه الدولة المذكورة منذ قيامها متحدة مع الدولة الفرنساوية دايما، فقبلت كتابتهم وقرت بمشيختهم. وأما الملوك الفرنجية حين وصلتهم كتابة الفرنساوية فنهضوا الجميع باتفاق، على قدم وساق، وعزموا على محاربة ذلك الشعب الخارج عن الأسلوب، لئلا تتشبه به بقية الشعوب؛ فأول من أشهر عليهم بالحروب ملك النمسا الإمبراطور؛ لأنهم قد قتلوا شقيقته وزوجها ملكهم. ثم نهضت ضدهم دولة الإنكليز، ثم سلطان إسبانيا، ثم سلطان إيطاليا، ثم البابا سلطان مدينة رومية العظيمة وجميع الممالك؛ ولكون أن شعب هذه المملكة هو أوفر عددا من ساير الشعوب فاعتصبوا جميعهم عصبة واحدة واستعدوا لحرب جميع مضادديهم. وخرجوا من مدينة باريز إلى قتال أعدايهم الواردين عليهم من كل ناحية. وابتدوا يحاصرون مدينة بعد مدينة، ومملكة بعد مملكة، وهم في عساكر كالبحار الزاخرة، بآلات الحرب الوافرة، والقوات القادرة. إلى أن اشتهر بأسهم واقتدارهم، وانتشر تملكهم وانتصارهم، وتملكوا حصونا وقلعا وبلدانا وضيعا، واستولوا على ممالك بلاد إيطاليا وكانت حكم أحد عشر سلطانا، وامتلكوا عدة قلع من بلاد النمسا. وكان ذلك الانتصار والتملك عن يد ذلك الليث الظاهر، والأسد الكاسر، الفرد الفريد، والبطل الصنديد، أمير الجيوش بونابرت. وكان هذا من بعض كبار المشيخة الفرنساوية. وكان قصير القامة رقيق الجسم أصفر اللون، باعه اليمين أطول من اليسار، مملوا من الحكمة، مشمولا بالسعد والنعمة، يبلغ من العمر ثمانية وعشرين سنة. وهو طلياني الأصل من جزيرة كورسيكا، وتربيته في مدينة باريز كرسي دولة فرنسا. (3) أول منشور لبونابرت أذاعه في مصر
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله ولا ولدا له ولا شريك بملكه
من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية، والساري عسكر الكبير بونابرت أمير الجيوش الفرنساوية. ونعرف أهالي مصر جميعهم، أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدي، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم. وحسرة من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من جبال الأبازا والكرجستان يفسدون في الأقاليم الأحسن ما يوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء فقد حتم في انقضا دولتهم. يا أيها المصريون، قد يقولون لكم إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه. وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه محمد والقرآن العظيم. وقولوا لهم أيضا إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم بعضا فهو العقل والفضايل والعلوم فقط، وبين المماليك ما العقل والفضل والمعرفة التي تميزهم عن الآخرين وتستوجب أنهم أن يتملكون وحدهم كل ما يحلو به حياة الدنيا؟ حيثما يوجد أرض مخصبة للمماليك، والجواري الجمال والحلل الحسان والمساكن الأشهى فهذه كلها لهم خاصة. فإن كان الأرض المصرية التزاما للمماليك فليوردوا الحجة التي كتبها لهم الله. فلكن رب العالمين هو رءوف وعادل على البشر. بعونه تعالى من اليوم وصاعدا لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية. فالعقلا والفضلا والعلما بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال «الأمة» كلها. سابقا في الديار المصرية كانت المدن العظيمة، والخلجان الواسعة، والمتجر المتكاتر، وما زال ذلك إلا لطمع وظلم المماليك.
طوبى ثم الطوبى إلى أهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، وينصلح حالهم وتعلا مراتبهم. طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مبالين من الفريقين المحاربين، فإذا يعرفوننا بالأكثر يسرعون إلينا بكل قلب. لكن الويل ثم الويل للذين يتحدون مع المماليك ويساعدونهم في الحرب علينا، فما يجدون طريق الخلاص ولا يبقى منهم آثار.
المادة الأولى:
جميع القرى القريبة ثلاث ساعات عن المواضع الذي يمر بها العسكر الفرنساوي ترسل للساري عسكر بعض وكلا لكيما يعرفوا المشار إليه أنهم أطاعوا ونصبوا السنجق الفرنساوي الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
المادة الثانية:
كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة:
كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي الواجب عليهم نصب السنجق الفرنساوي. وأيضا نصب سنجق السلطان العثماني محبنا دام بقاه.
المادة الرابعة:
المشايخ في كل بلد يختمون حالا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك متاع المماليك، وعليهم الاجتهاد الزايد لكيلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة:
الواجب على المشايخ والقضاة والأيمة أن يلازموا وضايفهم، وعلى كل من أهل البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنا. وكذلك تكون الصلاة قايمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم يشكرون فضل الله سبحانه وتعالى لانقراض دولة المماليك قايلين بصوت عال: أدام الله تعالى إجلال السلطان العثماني! أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي! لعن الله المماليك! وأصلح الله حال «الأمة» المصرية!
تحريرا في عسكر إسكندرية، في ثلاثة عشر من شهر سيدور
2
سنة ست من إضافة الجمهور الفرنساوي، أعني أواخر شهر محرم سنة 1213 هجرية. (من «تاريخ الأمير حيدر الشهابي»، الجزء الثاني)
أحمد فارس الشدياق (1801-1887)
الوطني الزائف
من الناس من يبالغ في مدح وطنه ويحن إليه حنينه إلى سكنه، فيصف مروجه ورياضه، وبروجه وحياضه، ووهاده وجباله، وتلاعه وتلاله، وربوعه ودياره، ونباته وأشجاره، وبقوله وثماره، ودوحه وأطياره، وطيب هوائه ولذة مائه، ويزعم أن فصوله كلها كالربيع حسنا، وأن جميع أقطاره تتدفق بركة ويمنا، وأن شهرا فيه خير من ألف عام في غيره، وأن كل بلد مستمد من خيره ومحتاج إلى ميره، ثم يزفر زفير الهائم الحيران، ويصرخ صراخ الولهان: ألا إن حب الوطن من الإيمان، لقد جبت السهولة والحزون، وركبت الذلول والأمون، وطوفت في الأمصار، وجولت في الأقطار، وضربت في مناكب الأرض مستقصيا، واختبرت أحوال من عليها مستفتيا، وسبرت أطوارهم وأوطارهم، وعلمت قوافيهم وأسرارهم، فلم أجد عيشا هنيئا إلا في بلادي، ولم يرقني شيء غير ما رأيته فيها من طارئ وعادي؛ فنعمت البلاد مثوى، وطابت مقاما ومأوى، وإنها الجديرة بأن تكون مقاما للملوك، وما غيابهم عنها إلا من النوك؛ فمن أين يجدون لها مثيلا، ومن ذا الذي يبغي عنها حئولا؟ هي البلاد التي تغزلت بها الشعراء، فقال فيها فلان أبياتا وقال فيها فلان قصيدة غراء، وأسمع ما قيل في جداولها ونواعيرها، وبلابلها وعصافيرها، وخمائلها وأزاهيرها، وصروحها وقصورها، ومصانعها ودورها، وظبائها ومراتعها، وزكائها ومواقعها، وفي أريج آفاقها وبهيج أشفاقها، ونضرة حدائقها وبهجة شقائقها، بل قد ذكرت أيضا في بعض الكتب المنزلة في عدة مواضيع مفصلة؛ فقيل إنها معدن الخير والكرم، ومثوى الصالحين من الأمم، ومنها كان مبدأ الصنائع والعلوم في كل معمول ومعلوم، فإذا قلت له: كيف جارك الأدنى، لعله كان لك عونا وخدنا؟ قال: ويلي إنه شر جار، وهو على البلاد عار وشنار. فكيف جاره الذي يليه، عسى أنه ممن توالفه وتصافيه؟ قال: ويلي إنه شر من أخيه. فكيف أهل الحارة طرا؟ قال: ويلي إنهم كانوا كلهم علي شرا، ولم أجد منهم إلا ضرا. فكيف أهل البلد أجمعين؟ قال: ويلي ما منهم أمين ولا معين. فما كأنهم خلقوا من ماء وطين؟ قال: ويلي إني قد اختبرتهم جميعا فلم أجد لأحد منهم من خلاق، وإن هم إلا جهال أغبياء، ينقادون لمن يأمرهم من الأغنياء؛ فإنهم عبيد الدرهم والدينار، ولا يبالون إلا بملء بطونهم ولو من الخشار. فكيف أهل المدن والأمصار؟ قال: ويلي إنهم أولو غبن وغش وتغرير وإخفار، ما تعامل منهم من أحد إلا ويمنيك بالكمد والنكد والخسار؛ لأنهم لما كانوا متقلبين في أمور المعاش، ومنهمكين في اتخاذ الأثاث والرياش، ظنوا أن سائر الناس همج، فما عليهم في غبنهم من حرج. فكيف أهل الجبال، عسى أنهم ممن صفت طويتهم وطاب منهم البال؛ فتلك خلة قد اختصوا بها في جميع الأزمان، وشان قد عرفوا به في كل قطر ونعم الشأن؟ قال: ويلك ومن أين لهم الصفاء وقد فطروا على الشراسة والجفاء فابتعدوا عن الآداب فكادوا أن يحصوا مع الذئاب؛ فإن أحدهم ليقتل أخاه على خبزة يسد بها جوعه، ويسلب صديقه في أكلة ويحرمه هجوعه؛ هذه حالة سكان البلاد، الحاضر منهم والباد، فلا تكثرن من السؤال ، ولا يخطرن ببالك غير هذه الحال. فإن قلت له: ولكن كيف اشتملت بلادكم على تلك المحاسن وأهلها على هذه المساوئ الشوائن؟ قال: إن أهلها الأولين، كانوا من الخيرين، فحرثوها وزرعوها وعمروها، ثم فسد الزمان، فجاءت خلفاؤهم فاسدة، لكن بقيت تلك المحاسن فيها فائدة. ولكن ما معنى فسد الزمان، وهو لم يكن صالحا قط منذ خلق الإنسان، والتواريخ على ذلك شاهدة، ونصوصها عليه متساندة متعاضدة؟ ثم كيف فسدت الناس وأنت بقيت من بينهم صالحا ترى كل من سواك طالحا؟ ولو كنت من الصالحين لما رأيت في غيرك خلقا يشين؛ فإنما ينظر في عيون الناس من كان أسوأ منهم حالا:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
كذا قال الشاعر الحكيم؛ فما أنت في طعنك على جنسك إلا مليم، وإن امرأ يحسب جميع أهل بلاده دونه لجدير بأن يشيعوا مفتونه ويذيعوا جنونه ويتجنبوا محضره ويتنكبوا منظره؛ فيا للعجب ممن يمدح وطنه ليرجع المدح إلى نفسه مع ذم قومه وجنسه، وممن لا يعجبه شيء مما يقال إلا إذا كان ذاته وصفاته محورا للمقال، ومع ذلك فإنه يقول حب الوطن من الإيمان، وهو لأهله شنآن، وبذكر عيوبهم سكران، وعن عيوب نفسه وسنان! هكذا حالة أكثر الناس في هذا الزمان، وهذه محبتهم للأوطان، وهي محبة كاذبة، ودعوى عائبة. ومنهم من يغار على وطنه، ويجتهد في نفع سكنه، وإذا ذكر من قصور أهل بلاده شيئا فإنما لتنبيههم لا لتشويههم، ولحثهم على الوصول إلى الكمال لا للتنديد بهم لدى الأجيال، ولكي يحملهم على عظائم المساعي لا لأن يقوم بالنعي على أفعالهم مقام الناعب الناعي؛ فتراه كلما سنحت فرصة لنفعهم انتهزها، أو لبانة لخيرهم تنجزها؛ فمثله كمثل المربي الشفيق والمتعهد الرفيق الذي يحزن لحزن من يتعهده ويفرح لفرحه، ولا يطيب له عيش إلا إذا رآه مثله في غبطته وسرحه. لا جرم أن العيش لا يطيب إلا إذا كان لكل واحد من رغده حظ ونصيب، فأما إذا اختص الإنسان بنعمة ورأى غيره في كرب وغمة فلن يهنئه ورود مشربها والتمتع بها. وقولنا الإنسان المراد به من كملت إنسانيته وصفت سريرته ونيته؛ فهو يرى سعادة جاره داعية لبلوغ أوطاره وتشييد داره، لا من كان ذا عينين ولسان يطعن بلسانه طعن السنان وينظر بعينيه معايب الأقران؛ فشتان ما بينهما ثم شتان! فقد عرفت أن بعض الناس يمدح ولا غيرة له، وبعضهم يغار ولا يمدح وأن هذا لهو الأصلح. ألا قل لمن يطرئ نفسه ويزكيها: إن أنت بهذه التزكية إلا مذكيها، وإن ما خفي عليك من شينها أكثر مما ظهر لك من زينها، وإنك كما تدين تدان، وكما تهين تهان، فإن كان قد استحوذ عليك الغفول لعلمك رفع الفاعل ونصب المفعول، واستهواك الغرور لمعرفتك «بون جور»، فاعلم أنك ما علمت شيئا إلا ما علمت، ولا فهمت معنى إلا ما فهمت، فبم تفتخر؟ ومن الذي تحتقر؟ ولم لا تعتبر فتنزجر وفيك يدخل الطاهر فيستحيل نجسا؟ ولست ترى إلا مفراحا أشرا أو جزعا مبتئسا، فاقن الحياء، وليكن عرفانك بقدرك أول ما تعرفه من الأشياء، إن الله عليك رقيب، ولا يخفى عليه مغيب. (من مقالته «جمل أدبية» نقلا عن «مجالي الغرر لكتاب القرن التاسع عشر»، القسم الأول)
رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290ه)
(1) حق الفرنساوية المنصوب لهم
1
المادة الأولى: سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة. المادة الثانية: يعطون من أموالهم، بغير امتياز، شيئا معينا لبيت المال؛ كل إنسان على حسب ثروته. المادة الثالثة: كل واحد منهم متأهل لأخذ أي منصب كان وأية رتبة كانت. المادة الرابعة: ذات
2
كل واحد منهم يستقل بها ويضمن له حريتها فلا يتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة وبالصورة المعينة التي يطبق بها الحاكم. المادة الخامسة: كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب، لا يشاركه أحد في ذلك بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادته. المادة السادسة: يشترط أن تكون الدولة على الملة الكاثوليكية الحوارية الرومانية. المادة السابعة: تعمير كنائس الكاثوليكية وغيرهم من النصرانية يدفع لها شيء من مال النصرانية ولا يخرج منه شيء لتعمير معابد غير هذا الدين. المادة الثامنة: لا يمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه ويطبعه بشرط ألا يضر ما في القانون، فإذا أضر أزيل. المادة التاسعة: سائر الأملاك والأراضي حرم فلا يتعدى أحد على ملك آخر. المادة العاشرة: للدولة دون غيرها أن تكره إنسانا على شراء عقاره لسبب عام النفع بشرط أن تدفع ثمن المثل قبل الاستيلاء. المادة الحادية عشرة: جميع ما مضى قبل هذا القانون من الآراء والفتن يجب نسيانه، وكذلك ما وقع من المحكمة وأهل البلاد. المادة الثانية عشرة: أخذ العساكر قد يرتب وينقص عما كان عليه، وقد يعين بقانون معلوم وضع عساكر في البر والبحر. (2) حقوق الناس التي يضمنها الديوان (البرلمان)
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة، معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره. فانظر إلى هذه المادة الأولى فإنها لها تسلط عظيم على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم؛ نظرا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية وتقدمهم في الآداب الحضرية، وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة؛ فهذه البلاد حرية بقول الشاعر:
وقد ملأ العدل أقطارها
وفيها توالى الصفا والوفا
وبالجملة إذا وجد العدل في قطر من الأقطار فهو نسبي إضافي، لا عدل كلي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدة من البلدان؛ فإنه كالإيمان الكامل والحلال الصرف وأمثال ذلك ونظائره؛ فلا معنى لحصر المستحيل في الغول والعنقاء والخل الوفي كما هو مذكور في قوله:
لما رأيت بني الزمان وما بهم
خل وفي للشدائد أصطفي
أيقنت أن المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخل الوفي
مع أن ذلك ممنوع في العنقاء فإنها نوع من الطيور موجود الأفراد، يذكره أرباب علم الحشايش، وذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قضية العنقاء مع سيدنا سليمان في تكذيبها بالقدر. نعم، لا وجود للعنقاء بالمعنى المشهور عند العامة من العرب والإفرنج من أنها من أعلاها عقاب ومن أسفلها أسد، وعلى كل حال فلها في الجملة وجود. وأما المادة الثانية فإنها محض سياسية، ويمكن أن يقال إن الفرد
3
ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس، خصوصا إذا كانت الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال أو كانت ممنوعة بالكلية، وربما كان لها أصل في الشريعة على بعض أقوال مذهب الإمام الأعظم.
4
ومن الحكم المقررة عند قدامى الحكماء: الخراج عمود الملك. ومدة إقامتي بباريس لم أسمع أحدا يشكو من المكوس والفرد والجبايات أبدا ولا يتأثرون بحيث إنها تؤخذ بكيفية لا تضر المعطي وتنفع بيت مالهم، خصوصا وأصحاب الأموال في أمان من الظلم والرشوة. وأما المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدا، بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم ولم يقف تمدنهم على حالة واحدة مثل أهل الصين والهند ممن يعتبر توارث الصنائع والحرف ويبقى للشخص دائما حرفة أبيه. وقد ذكر بعض المؤرخين أن مصر في سالف الزمان كانت على هذا المنوال؛ فإن شريعة قدماء القبطة كانت تعين لكل إنسان صنعته ثم يجعلونها متوارثة عنه لأولاده. قيل: سبب ذلك أن جميع الصنائع والحرف كانت عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مقتضيات الأحوال لأنها تعين كثيرا على بلوغ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يحسن عادة ما رأى أباه يفعله عدة مرات بحضرته ولا يكون له طمع في غيره؛ فهذه العادة كانت تقطع عرق الطمع وتجعل كل إنسان راضيا صنعته لا يتمنى أعلى منها، بل لا يبحث إلا عن اختراع أمور جديدة نافعة لحرفته توصل إلى كمالها (انتهى). ويرد عليه أنه ليس في كل إنسان قابلية لتعلم صنعة أبيه، فقصره عليها ربما جعل الصغير خائبا في هذه الصنعة، والحال أنه لو اشتغل بغيرها لنجح حاله وبلغ آماله. وأما المادة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء. وأما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات، الأولى جمع جرنال والثانية جمع كازيطة؛ فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة سواء كانت داخلية وخارجية؛ أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد فيها من الكذب ما لا يحصى إلا أنها قد تتضمن أخبارا تتشوف نفس الإنسان إلى العلم بها. على أنها ربما تضمنت مسائل علمية جديدة التحقيق أو تنبيهات مفيدة أو نصايح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير؛ لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحتقر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها.
وقال الشاعر:
لما سمعت به سمعت بواحد
ورأيته فإذا هو الثقلان
فوجدت كل الصيد في جوف الفرا
ولقيت كل الناس في إنسان
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما أو رديئا، وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيب، ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر. وأما المادة التاسعة فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جور الأقوياء على الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة من باب اللياقة الظاهرة. وفي المادة الخامسة عشرة نكتة لطيفة وهي أن تدبير أمر المعاملات لثلاثة مراتب: المرتبة الأولى الملك مع وزرائه، والثانية مرتبة البيريه المحابية للملك ، والثالثة مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية والمحابون عنهم حتى لا تظلم من أحد، وحيثما كانت رسل العمالات قائمة مقام الرعية ومتكلمة على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمة نفسها، وعلى كل حال فهي مانعة للظلم عن نفسها وهي آمنة منه بالكلية. ولا يخفى عليك حكمة باقي المواد. (3) ثورة السنة 1830 في ذكر التغييرات التي حصلت ما ترتب عليها من الفتنة
وقد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة الثامنة، أنه لا يمنع إنسان في فرنسا من أن يظهر رأيه ويطبعه، بشرط ألا يضر ما في القوانين، فإن أضر به أزيل؛ فما كانت سنة 1830 وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر منها النهي عن أن يظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه أو يطبعه بشروط معينة خصوصا الكازيطات اليومية؛ فإنه لا بد في طبعها من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة فلا يظهر منها إلا ما يريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده فكان لا يمكنه عمله إلا بقانون، والقانون لا يصنع إلا باجتماع آراء ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل ديواني المشورة، يعني: ديوان البيريه وديوان رسل العمالات؛ فصنع وحده ما لا ينفذ إلا إذا كان صنعه مع غيره. وغير أيضا في هذه الأوامر شيئا في مجمع اختيار رسل العمالات يعني في الذين يختارون رسل العمالات ليبعثوها في باريس، وفتح ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا بعد اجتماعهم كما فعله في المرة السابقة، وهذا كله على خلاف القوانين. ثم إن الملك لما أظهر هذه الأوامر كأنه أحس في نفسه بحصول مخالفة فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساء مشهورين بأنهم أعداء للحرية التي هي مقصد رعية الفرنساوية. وقد ظهرت هذه الأوامر بغتة حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مستعدين لها. وبمجرد حصول هذه الأوامر قال غالب العارفين بالسياسات إنه يحصل في المدينة محنة عظيمة يترتب عليها ما يترتب كما قال الشاعر:
أرى بين الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له اضطرام
فإن النار بالعيدان تذكو
وإن الحرب أولها الكلام
ففي مساء اليوم الذي ظهرت فيه هذه الأوامر في الكازيطات، أخذ الناس في الحركة بقرب المحل المسمى باليروايال، يعني السراية السلطانية التي سكنها عيلة أقارب الملك المسماة عيلة أرليان التي الملك الآن منها، وهذا الوقت ظهر الغم على وجوه الناس. وكان هذا اليوم السادس والعشرين في شهر يوليو، وفي اليوم السابع والعشرين لم يظهر غالب كازيطات الحرية لعدم رضائها بالشروط؛ فلذلك بلغت الأوامر جميع الناس وحصلت حركة عظيمة بعدم ظهور الكازيطات التي من عادتها أنها لا تفتر عن الظهور إلا لمهم عظيم. فأغلقت الورشات والمعامل والفبريقات والمدارس، فظهر بعض كازيطات الحرية آمرة بعصيان الملك والخروج من طاعته ومعددة لمساويه، وفرقت على الناس من غير مقابل. وبهذه الديار، بل وفي غيرها قد يبلغ الكلام حيث تقصر السهام، خصوصا مادة الخطابات فإنها قوية، وخصوصا بلاغة الإنشاء فلها مدخلة عظيمة كما قيل: إن ينزل الوحي على قوم بعد الأنبياء نزل على بلغاء الكتاب، خصوصا إذا كان ما يذكر في تلك اليوميات مقبولا عند العامة ومقصودا عند الخاصة، فإن هذا هو عين البلاغة الصحيحة؛ فإنها (أي البلاغة) ما فهمته العامة ورضيت به الخاصة، فلما سمع بذلك ولاة الحسبة
5
حضروا في المحال العامة ومنعوا الناس من قراءة هذه الكازيطات وحاصروا مطابعها، وهموا بكسر آلات الطباعة، وكسروا بعضها، وحبسوا من اتهموه من الطباعين، وبهدلوا كثيرا، مما أظهر شيئا مخالفا لترتيب الملك من الرعية. وهذا أيضا مما قوى غضب الفرنساوية فكتب أرباب هذه الكازيطات - يعني رؤساء الفرنساوية الذين هم يكتبون فيها آراءهم - ورقة إنكار وأشهروها وعددوا نسخها ولصقوها بجدران المدينة وأمروا فيها الرعية بالحرب وعينوا محله. وكان الميعاد في درب سراية باليروايال، فازدحم فيه كثير من الأمم وفيما حوله من الحارات، فكانت العساكر السلطانية تحاول تفريق هذه الزحمات، فعظم دوي الرعية وكثرت أصواتهم وظهر غضبهم في سائر الدروب والحارات، فهجم العسكر على الرعية والتحم القتال بين الفريقين؛ فكانت الرعية تقاتل أولا بالأحجار والعساكر بالسيوف وآلات الحرب، فكثر القتال وعظمت المطاردة من الجانبين. ثم بحث الرعية عن آلات الحرب، وظهر صوت البارود من الجانبين في مدينة باريس، فكأنما لسان حال الفرنساوية الذي هو أصدق من لسان مقالهم جعل يقول: إن بني عمك فيهم رماح. فعظم القتال وكان أكثر المقتول من الرعية، فاشتد غضبهم وعرضوا القتلى في المحال العامة لتحريض الناس على القتال وإظهار عيوب العساكر. وقامت أنفس الناس على ملكهم لاعتقادهم أنه أمر بالقتال؛ فما مررت بهذا الوقت بحارة إلا وسمعت فيها: السلاح! السلاح! أدام الله الشرطة، وأهلك شدة الملك! فمن هذا الوقت كثر سفك الدماء، وأخذت الرعية الأسلحة من السيوفية بشراء أو غصب، وأغلب العملة والصنائعية خصوصا الطباعين هجموا على القرقولات وخانات العساكر وأخذوا منها السلاح والبارود وقتلوا من فيها من العساكر. وخلع الناس صورة علامة الملك من الحوانيت والمحال العامة - وعلامة ملك الفرنسيس هي صورة زهر الزنبق، كما أن علامة ملك الإسلام صورة هلال، وملك الموسقوبية صورة عقاب - وكسروا قناديل الحارات، وقلعوا بلاط المدينة وجمعوه في السكك المطروقة حتى يتعذر مشي الفرسان عليه، ونهبوا جبخانات البارود السلطانية، فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك، وهو خارج، أمر بجعل المدينة محاصرة حكما وجعل قائد العسكر أميرا من أعداء الفرنساوية مشهورا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة؛ فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح فإن عفو الملك أبقى للملك، ولما ولى على عساكره إلا جماعة عقلاء أحبابا له وللرعية غير مبغوضين ولا أعداء، ولكن أراد هلاك رعاياه حيث أنزلهم بمنزلة أعدائه، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم:
عليك بالحلم وبالحباء
والرفق بالمذنب والإغضاء
إن لم تقل عثرة من يقال
يوشك أن تصيبك الجهال
فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده، وبنظير ما نواه لأضداده؛ فلو أنعم في إعطاء الحرية لفرقة بهذه الصفة حرية، لما وقع في مثل هذه الحيرة ونزل عن كرسيه في هذه المحنة الأخيرة، سيما وقد عهد الفرنساوية بصفة الحرية وألفوها واعتادوا عليها وصارت عندهم من الصفات النفسية، وما أحسن قول الشاعر:
وللناس عادات وقد ألفوا بها
لها سنن يرعونها وفروض
فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم
فذاك ثقيل عندهم وبغيض
وفي اليوم الثامن والعشرين أخذت الرعية من يد العساكر محلا يسمى دار المدينة الذي هو محل شيخ مدينة باريس؛ فعند ذلك ظهر الخفر الجنسي،
6
يعني ورديان الرعية وهم عساكر كانت سابقا تخفر الأهالي، كما كان للملك عساكر ورديان تخفره وقد كان عزلهم الملك شارل العاشر، فلما وقعت الفتنة ظهروا ليمانعوا عن الرعية فأشهروا أسلحتهم للقتال وطردوا سائر العساكر من محلهم وحرقوا كثيرا منها. وفي هذه الأوقات ارتفعت المحاكم وصار الحاكم هو الرعية ولم يكن للدولة عمل شيء؛ فقد بذلت ما عندها من القوة لإخماد ذلك وتسكينه فلم تقدر عليه فكانت جميع القواصة متحركة والطبجية معينة لاثني عشر ألفا من الورديان السلطاني وستة آلاف من عساكر الصف؛ فكانت جملة العساكر السلطانية ثمانية عشر ألف نفس غير الطبجية والقواصة. وكان من يحمل السلاح من الرعية أقل من هذا العدد، ولكن من لا يحمل السلاح يحارب بالأحجار ويعين المتسلح. وبعد أخذ دار المدينة وسلب مدفع من العساكر الحربية ظهر انهزام سائر العساكر السلطانية بالبلدة، ثم ذهبوا إلى محل يقال له لوفر، وإلى قصر التولري وهو سراية الملك، ووقع الحرب فيما بين العساكر وأهل البلد. وبينما هم في الحرابة بهذا المحل إذ انتشر البيرق المثلث الألوان الذي هو علامة الحرية على الكنائس والهياكل العامة، ودقت النواقيس الكبيرة لإعلام سائر الناس داخل وخارج باريس من أهل المدينة أو غيرها بطلب حمل السلاح منهم للاستعانة على العساكر، فلما رأت العساكر أن النصرة للرعية وأن ضرب السلاح على أهل بلادهم وأقاربهم عليهم امتنع أغلبهم وعزل كثير من رؤسائهم نفسه من منصبه. وفي اليوم التاسع والعشرين في الصباح ملكت أهل البلدة ثلاثة أرباع المدينة، ووقع أيضا في أيديهم قصر التولري واللوفر فملكوهما ونشروا عليهما بيرق الحرية، فلما سمع بذلك صاري عسكر المأمور بإدخال أهل باريس في طاعة السلطان رجع ، فكان هذا تمام نصرة أهل البلد، حتى إن العساكر دخلت تحت بيرق الرعية. ومن هذا الوقت نصب حكم وقتي وديوان موقت لنظم البلاد حتى ينحط الرأي على تولية حاكم دائم. وكان رئيس هذا الحكم الموقت صاري العسكر المسمى لفييته وهو الذي قاتل في الفتنة الأولى للحرية أيضا. وهذا الرجل شهير بأنه يحب الحرية ويحابي عنها، ويعظم مثل الملوك بسبب اتصافه بهذا الوصف وكونه على حالة واحدة ومذهب واحد في البوليتيكية، وليس صاحب قريحة مستخرجا للعلوم من حيز العدم كغالب رجال الفرنساوية ومشاهيرهم خصوصا في العلوم العسكرية، ولكن أعظم الناس مقاما لا قريحة وفهما، وليس المراد القدح في معرفته، بل في انتهاء الرياسة إليه. ومما يشاهد في سائر بلاد الدنيا أن التصدر ليس دائما على قدر المعرفة وإن كانت المعرفة موجبة له بالشرع والطبع، ومن الغريب أن مثل هذا الأمر يقع أيضا في البلاد الحسنة التمدن. وأظن أن هذا كله مصداق الحديث الشريف الذي هو: ذكاء المرء محسوب عليه من رزقه. وكما قال الشاعر:
إذا أبصرت ذا فضل فقيرا
فلا تعجب لفقر في يديه
فقد قال النبي مقال صدق
ذكاء المرء محسوب عليه
وأما أحسن قول الشاعر:
ولو أن السحاب همى بعقل
لما أروى مع النخل القتادا
ولو أعطى على قدر المعالي
سقى الهضبات واجتنب الوهادا (من كتاب «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»)
نوفل نعمة الله الطرابلسي (1812-1887)
من أعلام فرنسا في القرن الثامن عشر
خمسة أشخاص حازتهم فرنسا من مشاهير الكتبة بذلوا جهدهم في إيضاح طرق الفلسفة وتشييد مبانيها، وهم: فونتيل الذي انسجمت مكاتيبه فيها، وبوفون الذي كان مشتغلا بتأليف تواريخه الطبيعية في عصر الملك لويس الخامس عشر الذي مر ذكره ويوصف بأنه كان مشفع أفلاطون، وبلين الذي كسا علم الفلسفة رقة التعبير في كتابه الذي خلد ذكره وأعرب عن رقة طبعه ودماثة أخلاقه. ومونتسكيو الذي صرف همته في كتب السياسة وأبانت تصانيفه عن غاية براعته فيها، قال بعضهم: وكفى شاهدا على ذلك ما كتبه في سبب ارتفاع وانحطاط الدولة الرومانية ، وهو كتاب عجيب يحتوي على تعليقات صادقة وعبارات راشقة، وكتابه الآخر المسمى «روح الشرائع» الذي بين فيه الحقوق الإنسانية وقسمها إلى ثلاثة أقسام:
أولها:
الحقوق المعتبرة بين الأمم في خلطتها السياسية والمتجرية.
وثانيها:
حقوق الدولة على رعاياها وبالعكس.
وثالثها:
حقوق الأهالي فيما بينهم.
ثم قسم حال الدولة إلى ثلاثة أقسام أيضا:
الأول:
الدول الوراثية خلفا عن سلف، المطلقة التصرف بلا قيد.
الثاني:
الدول الوراثية المقيدة بالقوانين.
الثالث:
الدول الجمهورية المقيدة بالقوانين أيضا (والجمهورية هي كناية عن انتخاب الأمة رئيسا للدولة يتصرف في إدارتها بمقتضى القوانين مدة حياته أو لمدة معلومة، ثم ينتخب غيره). وبين ما ينشأ عن هذه الأحوال الثلاثة من الخير والشر، وهو معدود عند أهل أوروبا قانونا صحيحا في الأحكام. ومن تمثيلاته البديعة تشبيه المستبد في أحكامه بمن يتوصل إلى اجتناء الثمرة بقطع الشجرة من أصلها. وله غير ذلك عدة تآليف تلقاها الناس بالقبول، من جملتها «المراسلات الفارسية» وهي أشبه بميزان يشنع فيه على عوائد الشرقيين والغربيين ليظهر مذام كل منهم ومحامده. وكان ساح في بلاد أوروبا ليلاحظ في سياحته ما يلايم كل مملكة من الممالك، فقال: إن بلاد ألمانيا تليق للسياحة، وبلاد إيطاليا للإقامة، وبلاد فرانسا للمسرة وطيب العيش. ثم إن رابع هؤلاء الخمسة أشخاص الذين نحن بصدد الكلام عليهم هو دلمبير صاحب «التأليف المحلي بقلائد القواعد»، الحاوي بأوضح بيان ما كاد يأتي على سائر الفوائد. وخامسهم كندليك الذي بسط أشعة التحقيق على تأليف لوك الإنكليزي في علم الفلسفة. ويلي هؤلاء الخمسة جان باتيست روسو صاحب الأشعار ذات المعاني الرائقة، والمعلم ساج صاحب التأليف البارع المعروف ب «جيل بلاس» المحتوي على «المقالة الفلسفية» وهو أحسن مما ألف في بابه.
ومن مشاهير هذا القرن أيضا وولتير. قال بعض المؤلفين: إن هذا الرجل هو ممن أخذ راية الكتابة باليمين وبالشمال واشتهر في فنونها شهرة بالغة، ولو لم يحمله انحلال العقيدة على عدم احترام الشرائع والديانات لكانت شهرته أتم والنفع به أعم. وقال آخرون: إن الشيء إذا تجاوز الحد رجع إلى الضد، وكما أن الجهل مضر فكذلك مقابله إذا صاحبته إساءة الغير؛ وذلك أن هذا العالم أفضت به غزارة علمه إلى القدح في الأديان وفي كثير من ملوك عصره، فعوقب بالطرد عن وطنه وعن كل موضع أراد النزول به. مات في سنة 1778، وله مؤلفات عديدة ترجم منها مؤلفان إلى العربية وطبعا في مصر: الأول يسمى «مطالع شموس السير في وقائع كرلوس الثاني عشر»، وهذا الملك هو ملك أسوج المشهور بالمحاربات الشديدة بينه وبين بطرس الأكبر إمبراطور روسيا. والثاني يسمى «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»، وهو الإمبراطور المشار إليه، ولكن قل من يثق بتآليف هذا الرجل، غير أن لسوء الحظ نجد كثيرين من الذين تعلموا اللغات الأجنبية في بلادنا يرون بأن ما من فائدة مما تعلموه إلا أن يطالعوا كتبه وأمثالها بلذة ويقتفوا خطواته برغبة لينالوا حق التصدر بين صفوف المتمدنين.
ومنهم جان جاك روسو، وهو نظير وولتير المذكور في الشهرة، وله من حسن التعبير ما لا تستقر معه الأوهام. وهذا الرجل مع وولتير المذكور قبله هما اللذان أنشآ الثورة التي أتت بالمصائب الآتي ذكرها إلى فرانسا وهيآ أسبابها واستعجلا وقوعها. («زبدة الصحائف في سياحة المعارف»، بيروت، 1879)
فرنسيس فتح الله المراش (1836-1873)
(1) بحث في الحرية
بينما كان الفيلسوف مواصلا خطابه، كان الملك والملكة شاخصين فيه بأعين يخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبين معانيه بكل اتضاع ودعة. وغب نهاية مقالته جعلت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكان وجود حرية للإنسان بل ولا لسائر الأنواع، وأن جميع الأشياء لكونها مرتبطة بخدمة بعضها البعض فهي مقيدة أيضا بعبودية بعضها البعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبة عن الفائدة أو مضرة لصالح الأمور فالاجتهاد بإبطالها ضرب من اللزوم وقانون صوابي؛ وبناء على ذلك عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طرق مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالا ضدها وسطونا عليها سطوة إسكندر على داريوس وسجناهم كما علمت.
أما حصول الشخص على لذة الحياة معتوقة من كل حاكم وصافية من كل مكدر، فهو أمر لا يمكنه البتة ولو تطبع على تتبع تلك النواميس التي ذكرتها والتي تصعب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصور حسب كل الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبع لا ينقلب طبعا، وما كان هكذا فهو غير لذيذ عند الطبيعة وبعيد عن السهولة. وإذا أمكن الإنسان السلوك كما أشرت فلا يكون ذلك إلا لمن وسمته العناية بسمة الانفراد، وهذا شاذ وليس حكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كل حال إن الإنسان إذا كان متعبدا لأحكام دولة التمدن والصلاح، يكون داخلا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية. على أنه إذا كان ذلك التعبد لازما، فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقا من رق تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلا في عبودية ضدها تبعا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يفسد أحوال البشر وينثر عظام جمعيتهم نازعا عنهم كل الصفات الحميدة والسلوك السليم، وذلك هو الأمر الذي لا يوجد أضر منه لمملكة التمدن والصلاح، وجب علينا دفعا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمح آثارها لم تقم حرية الإنسان المطلوبة أصلا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما رددت الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية. ولا شك أنا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصرنا بشرائع الحكمة نعاين أقواما أحرارا وآخرين عبيدا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كل حال إن الاجتهاد في عتق العبيد وهدم مباني العبودية هو أمر ضروري وواجب.
فطرح الملك أنظاره على الفيلسوف وقال: إذن مشروعنا في محاربة مملكة العبودية واستنقاذ شعوبنا من قيودها لا يستحق الملام. - كلا، بل هو حسن وواجب يا أيها الملك المعظم؛ لأن الاستعباد مكروه عقلا وطبعا، وقد نهض العالم بأسره ضد هذه العادة المستهجنة وما سواها فحاربوا من ظلم واعتدى وأعدوا له سلاسل وأغلالا. (2) حالة الصلح العام
إن أهم دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتواصل السهر عليه؛ بحيث مهما أتقنت السياسة نظامها وأحكمته ولم تلتفت إلى هذا الصلح أو تغافلت عنه فلا تعتبر إلا كمساعد على نثر عقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامه منظوما ما لم تكن الملاحظة السياسية عاصمة له؛ إذ إن إهمال ما يسبب العمار هو تسبيب لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيع ما يئول نفعه إلى العامة إجمالا وأفرادا ودفع ما يفضي إلى الضرر.
وذلك يستريح على خمسة أركان، وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.
أما الركن الأول:
الذي يناط بتمهيد سبل العلوم فهو يتضمن المساعدة على تشييد المدارس وتسهيل الدخول فيها لأجل كل من يرغب، وترقية الناجحين بالدراسة على قدر الاستحقاق.
وأما الركن الثاني:
الذي يلاحظ تسهيل طرائق التجارة فهو يتوقف أولا: على تقريب أبعاد الأسفار بواسطة إصلاح الطرقات. ثانيا: على إزالة مخاوف ومعاثر الطريق وإيقاع الأمان والسهولة. ثالثا: على وضع حدود ونظامات تجري على كل أرباب هذه الحرفة بحيث لا يمكن أحدا تجاوزها. رابعا، وهو الأخير: على منع كل الصعوبات التي يمكنها صدم تقدم التجارة وإبطال كل عائق لسيرها.
والركن الثالث:
الذي يخص تقوية وسائط الصنائع والأشغال فهو يتأسس أولا: على إثارة همم ذوي الاختراعات بتعظيم جوائزهم ورفع شأنهم وتثبيت ما به يمكنهم اقتطاف ثمرات أتعابهم. ثانيا: على توسيع دوائر الأدوات الصناعية وتضييق مساحة التلف والمصاريف. ثالثا: على رفع كل ما يوقف الخطوات عن الهجوم إلى معاناة الأشغال. أخيرا: على المساعدة في تكثير المعامل وتسهيل مجراها.
وأما الركن الرابع:
الذي يتعلق بمساعدة الزراعة والفلاحة فهو يقوم برفع الجور عن الفلاحة وفتح الطريق للزارع، وتعجيل خطوات الحصاد ومنع حشر العشار واحتشاد الخزان، وبملاشاة كل موانع البذار وتسديد جميع مطاليب الأرض.
وأما الركن الخامس:
الذي يشمل رفع أسباب التعدي، فهو يستوي على ثلاث قضايا فقط وهي: حماية المتاع، وصيانة الإعمار، ووقاية الأرواح. (3) حالة الاستواء
إن أعظم المقومات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل أبنائها بدون أدنى امتياز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال؛ فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الالتفات إلى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف، بل يجب معاملة الجميع على حد سواء كيلا يقع خلل في نظام الحق؛ لأن كل فئة من الناس لها منزلة في طريق السياسة تستدعي النظر إليها؛ فكما أن العظماء والأغنياء هم القوة الواصلة، كذلك الصغار والفقراء هم الآلة الموصلة؛ فلولا يد الصغير لم يطل ساعد الكبير، ولولا تعب ذوي الفاقة لم تسهل متاجر أرباب الغنى ولم تحرس أموالهم ولم تقم قصورهم العالية وسرادقهم المشيدة. لعل ذلك الغني عندما يأتي من محل ملاهيه ومراسحه إلى مسكنه الوسيع، ويضجع على فراشه المصنوع من ريش النعام، وينظر إلى رقوش حجرته ونقوشها، لا يفكر في ذاك المسكين، الذي بعد أن يكد ويكدح طول النهار مقاسيا حر صيفه ومتكبدا برد شتائه لأجل تشييد ذاك المسكن وتنميق تلك الحجرة، يذهب إلى كوخه الحقير ويأكل خبزته اليابسة مع أولاده العراة الجائعين ثم يضجع على طراحته المتخرقة تحت لحاف الإعياء والوصب؛ فهل كل هذا التباين لا يكفيه حتى يرغب إيقاعه أيضا في موقف الحق الذي يستوي عنده الجميع؟ وهل يسوغ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التباين ويجحفوا بذلك المسكين الذي بدونه لا تصل قوتهم إلى مواقعها فلا يخافوا من وثوب التسعة والتسعين وفرط عقد الجمعية؟ ولماذا يوجد حق لأصوات الأغنياء فترن في قاعات السياسة، ولا يوجد هذا الحق لأصوات بقية الشعب الذين هم الجانب الأكبر والأهم والذين بواسطتهم تقوم سطوة الممالك وقوات الملوك وعليهم يتوقف مدار السياسات؟ فلا شك أن لسان السياسة نفسه ينادي بوجوب حالة الاستواء ويصرخ ضد الضد. (4) تثقيف العقل
إنه إذا فحص الجوهر الإنساني من حيث فطرته الأولى وأصله الطبيعي إنما يشاهد لامعا بكل الصفات الساذجة والخصال البسيطة حسبما يتبين ذلك من كل إنسان يتربى منفردا عن ازدحامات عالم المخالطة. ولما كان عظم لطافة هذا الجوهر وشدة احتياجه إلى وقاية نفسه سببا فعالا لقبوله التأثر بكل صورة تلوح له، والتخلق بكل سمة يحافظ بها على ذاته، كان انضمامه في سلك الجمعية إذ ذاك موجبا لانطباع صور الحوادث الاجتماعية والوقائع الأدبية على ستائر قلبه وتطبعه بأخلاق وطباع بها يمكنه أن يعارك ويزاحم أمواج العالم البشري ويعيش تحت لواء حوادثه.
غير أن كثرة تقلبات الأحوال والأجيال تأدت به إلى أن يفقد كل أطوار تلك الفطرة الأولى ويصير من أشر المخلوقات وأوحشها؛ ومن ثم لم يعد الإنسان قادرا على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب سذاجة الصفات وسلامة الطباع إلا إذا كان متزينا بتثقيف العقل الذي يعتبر كآلة عظيمة بها يمكن لكل من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش.
ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية. ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبا نقيا وروحا مستقيمة ويجعله ظافرا بكل الصفات الصافية ونافرا عن كل ما يشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلا إلى التفكر في الأمور الدنية والأميال المنحرفة، وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر وعليه تبنى كل دعائم التوحش؛ فكيف يفكر الإنسان مثلا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرا به إلى أعالي الأجرام السماوية حيثما يرى ألوف ألوف وربوات ربوات من النجوم التي هي شموس هائلة الحجم وكل منها جالس على عرش الفضاء ثابت في مركزه وتدور حوله كواكب سيارة مختلفة الأبعاد والأشكال، وجميع ذلك له من السمو والعظمة ما يخبر بعظم أعمال الله؟ وكيف يأخذ بذهنه الهتك بالقريب بينما تكون الطبيعة هاتكة له أسرارها ومبدية لديه غوامضها، فإذا نظر إلى الأرض يراها تدعوه إلى تمييز تراكيب طبقاتها وتعديد مفردات عناصرها ومعرفة نسبة كل من موادها إلى غيره، وإذا تأمل في الحيوان يراه باسطا أنواعه لدى حكمه وطالبا منه فصل كل عن الآخر، وإذا لحظ النباتات يراها كأنها تدعوه إلى معاينة عجائب نموها وماهية جوهرها وكيفية تغذيتها وعملية إنتاجها وتأثير خاصياتها وكأنها تكلفه إحصاء كل من أنواعها وتحديده تكليفا فوق وسعه؟
وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مقدمة له مشكلاتها وطارحة عليه مسائل غوامضها؛ فما ينتهي من معرفة صفات عنصر منها وإدراك نسبة اتحاده بغيره وكيفية قوامه إلا ويبرز لديه عنصر آخر ويدعوه إلى تفنيده، فيذهب خابطا في عباب المشكلات حيثما يقابله مولد الحوامض بإيقاده وإنارته، ويطارحه مولد الماء برشاقته ولهيبه، ويناقشه حامل الأنوار بلمعانه وإضاءته، ويدهشه الذهب بثباته وثقله، وتذهله الفضة بوضاءتها ونقاوتها، ويلطمه الحديد بكثافته وصدئه، ويحيره الزئبق بفراره ونفاره؟
وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حينما تكون الجغرافية سارحة به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة وغرائب الحوادث؛ فتارة تطير به إلى قمم الجبال العالية فيرى ما بها من الأودية العميقة والسلاسل المستطيلة والينابيع الجارية فيفكر فيما سبب المرتفعات وما أحدث المنخفضات وما جمع المياه، وأحيانا تمر به على السهول الواسعة والبحر الشاسعة والأنهار المتدفقة فيقف متفكرا فيما جمد اليابسة وجمع السوائل إلى مكان واحد، وأوقاتا تسبح به في الأقاليم والأقطار فيستوقفه اختلاف العرض والطول في ميدان التأمل لتباين المناخات والأهوية، وطورا تترحل به إلى بلاد لا عدد لها وأماكن لا تحصى وجميعها تختلف باختلاف المواقع والوقائع، فيقف متحيرا بما تحويه الأرض من الأمم والقبائل المختلفة بالمذاهب والمشارب والهيئات، ومندهشا لما يراه من أحوال البلدان والسياسات والشرائع، وممعنا فيما يعانيه من الصنائع المتنوعة والأشكال والتجارات المتشكلة الأحوال؟ وهكذا يطوف به هذا العلم إلى أقاصي العالم بدون أن يترك له سبيلا للجولان في عالم المآثم وهو جالس على وسادته غير مبارح صديقا ولا مفارق حبيبا.
وكيف لا يبدل الأعمال الرديئة بالصالحة عندما يكشف له التاريخ حجب الأجيال الغابرة ويطلعه على كثيرين من البشر الذين كانت أعمالهم سببا لأحوالهم إن رديئة فرديئة أو صالحة فصالحة؟ ويظهر له كثير من الناس الذين بواسطة سمو أفعالهم قد بلغوا أسمى المراتب وأعلى المنازل، وكم وكم من الناس الذين بواسطة دناءة أفعالهم قد هبطوا إلى الحضيض، لا بل يظهر له أن كثيرا من الممالك العظيمة القوة والراسخة الأركان قد أفضت بها قبائح السلوك إلى الاضمحلال والملاشاة، وكثيرا من الولايات الصغيرة قد آلت بها قوة الأطوار الحميدة إلى الاتساع والامتداد ورفعتها إلى سماء المجد والكرامة. وخاصة يظهر له أن أفعال الخشونة والتوحش ليس كانت تبدد الممالك وتستأصل الملوك فقط، بل كانت أيضا تشتت العباد وتهدم البلاد مهما كانت حصينة وغنية. أفلا يشعر بحركة غامضة في أعماق قلبه تدعوه إلى احتقار العظمات الإنسانية والفخفخات الكاذبة الخالية وتجذبه إلى الاتصاف بالصفات السليمة والتخلق بالأخلاق الحميدة وذلك حينما تمتطي تأملاته السرية خيول التاريخ وتجري في برية سوريا مثلا حيثما يشاهد أن عظمة ذلك الإقليم القديم العهد والكريم التربة والأصل قد استحالت بفعل الأجيال الخشنة إلى دمار مهول حيث لا يرى سوى خرابات تلقي الكآبة على الأبصار وعدد قليل من الشعوب المفتقرة، بدل تلك العظمات السابقة والمجد الزاهر والغنى الوافر. أفلا يطرق تأسفا إذ يرى صور مدينة الفينيقيين التي كانت مركز تجارة العالم ومحط رحال الآمال وقد صارت نسيا منسيا ولم يبق فيها سوى شباك الصيادين؟ أفلا يرتعد لدى سطوة الحدثان حينما يرى أورشليم، مدينة داود ومحل عظمة سليمان، قد أصبحت قرية لا يذكر منها سوى المحلات التي لم تحفظها سوى يد القداسة؟ أفلا يضطرب مخافة من بوائق الزمان عندما يرى أنطاكية مدينة الله العظمى ذات الأسوار العالية والحصون المنيعة قد أضحت رمة مضجعة في قبر الوبال؟ أفلا يرتجف لدى هيبة الأيام إذ يرى مدينة تدمر التي هي مبنية بالصفاح والعمد قد صارت أطلالا دارسة ورسوما بالية حتى لا يشاهد فيها سوى عواميد هابطة وعضايد ساقطة وهياكل مهدومة؟ أفلا يهجس كربا إذ يعاين أن منبج ذات الصيت الرنان قد غدت كالسمك الذي لا صوت له؟ أفلا يقف متحيرا عندما يصعد على رأس سمعان ويرى أن جميع ما كان يحويه من المدن العظيمة والقرى الخصبة والمزارع الناضرة والأديرة العامرة والكنائس الرحبة قد صارت خرابا تاما ودمارا لا مزيد عليه بحيث لم يبق سوى بعض رسوم وأشكال؟ وبعد هذا أفلا تسحقه صواعق الاشمئزاز عندما يتأكد أن جميع هذا الخراب هو نتيجة الجهل والتوحش؟ فبالإجمال نقول: إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار؛ إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود هاذيا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه توقدات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات، ويطرد من صدره ضواغط الطمع بإدراكه حقيقة المطموعات، وتتلاشى من روحه بقية الأطوار المنتنة الرجسة الخراب كالقساوة التي غرقت مراكب مصر، والالتطاخ الذي هدم قصور آثور، والتغفل الذي كسف شمس فارس، والطمع الذي كسر صولجان مكدونية، والضغينة التي مزقت أحشاء فلسطين، والكبرياء التي ثلت عرش الروم، والخيانة التي قلبت ممالك الرومانيين، والبغض الذي شتت شمل لبنان وزعزع أركان دمشق، ثم تنمو به الصفات الداعية إلى جلالة العمار كالشجاعة والنباهة والمحبة والاتضاع والدعة والإحسان والوفاء والأمنية؛ إذ يعود خبيرا بغوائل تلك الأطوار الصالحة، وعليما بنتائج هذه الصفات الصالحة.
فبدون تثقيف العقل إذن لا يعد الإنسان إلا مع البهائم التي لا عقل لها، ولا يمكن أن يدعى متمدنا قط. (5) أطلقوا الأموال من عقالها
لا يوجد ما يستحق نهوض العالم ضد نظيره البخل؛ لأنه يجتهد على الدوام أن يحتشد أرزاق البشر ويحشر قوت العباد احتشادا وحشرا يوجبان خلل النظام العام واستعباد الأنام.
وهاك قائد البخل منتصبا لدينا تجاه الكرم وهو قابض بيديه على ساعد دولاب المعاملات ومساعد قيام الحياة، فلنوجه خطابنا إليه قائلين:
ها قد نهضت المسكونة عليك يا أيها الروح الخبيث قائد البخل والشح، وها جميع الناس يقذفونك باللعنات والمسبات؛ فأنت مستوجب أن يحكم عليك بالخذل والرذل بدون تردد لأنك تود أن ينغلق كل باب لتقدم الخلائق وتنفتح كل سبل التقهقر، فتخزن الأموال ولا تدع لها منفذا. أما تعلم أن العطاء ينهج طرق الخير ويسند أخاك الجائع؟ وتكنز الدنانير والدراهم في أعماق الصناديق حذرا من أن يلامسها الهواء ويمسها الضياء، أما تدري أن الدراهم قد صارت الآن محورا لمدار عالم المعاطاة، وأن حجزها يضيق دائرة العلاقات البشرية ويعيق تبادل المعاملات؟ وتطرد كل سائل ومحتاج ولو على فلس، وتميل عن كل عمل كريم أو سمة تقتضي بذل الورق، أما تعرف أن العضد الأعظم لترتيب حياتك يؤخذ من مثل السائلين والمحتاجين؟ فهم يبنون دارك وحانوتك، وهم ينسجون ثوبك ورداءك، وهم يجهزون كل أدوات طعامك وشرابك، وهم يتسارعون إليك من كل الجهات ليحرسوك من وثبات المختلس وهجمات العدو، وهم يمدون أيديهم ليرفعوك لئلا تعثر رجلك بحجر، وإذا انتشبت حريقة في منزلك ألقوا أرواحهم لينقذوك وأولادك ويحموا أمتعتك، فلماذا تدوس في أعناقهم إذا انطرحوا تحت قدميك يطلبون إسعافا؟ ولماذا تعرض عنهم وتشتمهم إذا مدوا أيديهم إليك ليطلبوا سداد رمقهم، حتى إذا أمكن للإلحاح أن يقتلع من فولاذ يدك بارة واحدة استشعرت بألم اقتلاع الضرس، ولماذا تعصي الأمر بإشباع الجائع وستر العريان؟ أما تخشى وقوعك في ثورتي الدنيا والآخرة؟ وكم تهجس على مضجعك في أمر التوفير وتتصل به إلى حسابات وكميات تفوق طور الإدراك مرتقيا في سلسلة التضعيف والضرب حيث تقول في ضميرك: إنني من الغد سأشرع في تنقيص كمية اللحم والبقول والزيوت وفي إجهاد الأولاد في تتميم الأعمال الخدمية استغناء بهم عن الخدم، ولم أزل أنقص مقدار الطعام وأعود الأولاد على الخدمة حتى نصير أخيرا قابلين أن نعيش على النزر من الخبز والقليل من الجبن والزعتر وقادرين على قضاء كل الأعمال الشاقة، وبهذا العمل يمكنني أن أجمع كل مال العالم لأن درهما ودرهما درهمان، ودرهمان ودرهمان أربعة دراهم، وأربعة دراهم في أربعة دراهم ستة عشر درهما، و16 × 16 = 256، و256 × 256 = 65536. وهكذا ترتقي من المضروب إلى المضروب فيه إلى أن تبلغ الحاصل الأعلى حيثما لا يوجد رقم ولا يجري قلم؛ وحينئذ تأخذ نفسا وتقول: ها أنا مزمع أن أملك العالم بأسره وأوقف كل دواليب الأشغال وأجعل الناس عبيدا لي. ثم ستفعل هكذا يا هذا البخيل ولكن بعد ألوف من السنين إذا لم تمت بداء التكميل، فليعش رأسك الكريم ولينجح مقصدك العظيم. ولا عتب عليك إذا فكرت في نفسك هكذا لأنك ترافق القمر في مشروعه؛ فكما أن هذا الجرم يخال أنه سيوقف دوران الأرض بعد عدد من ألوف من السنين لا يحصى، وذلك بتأخير جاذبيته لحركتها ست ثوان في كل جيل، هكذا تخال أنت أيضا أنك ستوقف حركة الأشغال بجذبك كل الأموال من أيدي الناس وتعود منفردا بالسطوة والغنى بعد العمر الطويل.
فلا عتب على العالم إذ أثار عليك الفتن يا قائد البخل، وارتفعت أصواته ضدك، وتبادرت قواته إلى الفتك بك؛ لأنك أنت العدو المبين له ولكل صوالحه، وأنت المصر على هتك ستار هيئته واستعباد قلوب أبنائه بحشرك أهم أدوات مداره. ومع كل هذا فلا بأس من ترك ظفر لك في جسد التمدن لتكون مانعا لهجوم التبذير الكثير النصر، ولكن يجب أن تكون ملحوقا بأوامر الكرم لكي تحصل الرتبة المطلوبة ما بين التبذير والبخل. (عن كتاب «غاية الحق»)
جمال الدين الأفغاني (1839-1897)
(1) جمال الدين الأفغاني وتوفيق باشا خديوي مصر
قال الخديوي توفيق باشا لجمال الدين ما معناه: إنني أحب كل خير للمصريين، ويسرني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقي والفلاح، ولكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل جاهل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة فيلقون أنفسهم والبلاد في تهلكة.
قال جمال الدين مجاوبا: ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحرية وإخلاص إن الشعب المصري كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل؛ فبالنظر الذين تنظرون به إلى الشعب المصري وأفراده، ينظرون به لسموكم. وإن قبلتم نصح هذا المخلص وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد على طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة تسن القوانين وتنفذ باسمكم وبإرادتكم، يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم.
هذا أهم ما جرى في هذه المقابلة التي كان فيها سمو الخديوي غير راض وأسر في نفسه البطش بجمال الدين ولكن لم يظهر له شيئا من ذلك. (2) جمال الدين وفكرة مجلس نيابي تشكله الحكومة
إن القوة النيابية لأي أمة كانت لا يمكن أن تحوز المعنى الحقيقي إلا إذا كانت من نفس الأمة، وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو أمير أو قوة أجنبية محركة لهما فاعلموا أن حياة تلك القوة النيابية الموهومة موقوفة على إرادة من أحدثها.
فعزة الملك تنغصها نهضة الشعب المملوك، خصوصا إذا هو صادم إرادة مالكه أو أميره. والتاريخ لم ينقل لنا أن ملكا أو أميرا أو دخيلا بقوته على شعب يرضى عن طيب خاطر أن يبقى مالكا اسما وأمته هي المالكة فعلا لإدارة شئونها وزمام أمورها على مطلق المعنى. وأعظم أماني الشعوب المملوكة التخلص من ربقة الأجنبي وتحكمه.
سترون عما قريب إذا تشكل المجلس النيابي المصري (أنه) سيكون ولا شك بهيكله الظاهري مشابها للمجالس النيابية الأوروبية، بمعنى أن أقل ما سيوجد فيه من الأحزاب حزب للشمال وحزب لليمين. ولسوف ترون إذا تشكل مجلسكم أن حزب الشمال لا أثر له في ذلك المجلس لأن أقل مبادئه أن يكون معارضا للحكومة وحزب اليمين أن يكون من أعوانها.
تستغربون قولي هذا اليوم لأن ما نبحث فيه هو أمر تصوري لم يخرج لحيز العمل بعد. ولكن متى رأيتم المجلس النيابي الموهوم تشكل، ورأيتم كل عضو يفر من أن يكون في حزب الشمال (الناهض والمعارض للحكومة) فراره من الأسد إلى حزب اليمين؛ إذ ذاك تقولون صدق جمال الدين.
نعم، أكون صدقت، ولكن ليس لي في هذه الفراسة وفي صدق التصور التصديقي أدنى فضيلة إذا رجعتم وعلمتم أن المقدمات الصحيحة هي التي تنتج النتائج الصادقة.
فمقدمات مجلس نيابي قوته المحدثة له خارجة عن محيط الأمة، والمحدث له قوة خارجة عن الأمة ومجلسها، يعارضها منافع متضادة وهدفان مختلفان؛ فمثل هذا المجلس لا قيمة له، وكما أنه لا يعيش طويلا كذلك لا يغني عن الأمة فتيلا.
سترون أن الذي سيكون نائبا عن شعب لا أعدد مصائبه ولا أنواع رزاياه، لفقدان حريته بكل معناها، هو الذي كان آلة صماء بيد تلك القوة التي عملت على وصول وطنه ومواطنيه إلى ما وصلوا إليه.
تعرفونه إذا شئتم أن تتفكروا قليلا، وإن شئتم وصفه فأنا أقول لكم: نائبكم سيكون على مقتضى ما مر من مهيئات مصركم في زمانكم هو ذلك الوجيه الذي امتص مال الفلاح بكل مساعيه، ذلك الجبان البعيد عن مناهضة الحكام الذين هم أسقط منه همة؛ ذلك الرجل الذي لا يعرف لإيراد الحجة تجاه الحاكم الظالم معنى ولو كانت من الحجج الساطعة؛ ذاك الرجل الذي يرى في إرادة القوة الجائرة كل «خير وحكمة»، ويرى في كل دفاع عن وطنه ومناقشة للحساب «قلة أدب» و«سوء تدبير»! و«عدم حنكة»! و«تهور»! وبالتالي يرى أن كل صفات العزة النفسية والمقومات الأهلية القومية مآلها الويل والثبور.
وكل ما يدعو إلى الذل، واحتقار القومية، وسحق ما تنمو به حرية الأمة، هو من مجالي حكمته العصرية!
هذا مع الأسف الذي أراه سيتكون منه مجلسكم النيابي الموهوم - إذا صحت الأحلام - والذي سيخالف قاعدة كلية لقواعد فلسفية أقرت أن الوجود خير من العدم؛ فعدم مثل هذا المجلس خير من وجوده. (3) جمال الدين وقيصر روسيا
سأل القيصر جمال الدين عن سبب اختلافه مع الشاه، فذكر له رأيه في الحكومة الشورية وضرورة اتباعها، وأن الشاه ينفر من ذلك ولا يحب أن يقر به.
قال قيصر: إني أرى الحق في جانب الشاه؛ إذ كيف يرضى ملك من الملوك أن يحكم به فلاحو مملكته؟
فأجاب جمال الدين بجرأة وفصاحة: «أعتقد يا جلالة القيصر أن عرش الملك إذا كانت الملايين من الرعية أصدقاء له، خير من أن تكون أعداء يترقبون الفرص ويكمنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام.» فعلت عند ذلك وجه القيصر علامة الغضب، فقطب حاجبيه ولم يطل الحديث بعد ذلك مع جمال الدين، بل قام من مجلسه وودع جمال الدين بغير الشكل الذي استقبله به إذ كان وداعا باردا، ثم أوعز القيصر إلى أكبر رجال بلاطه أن يسرعوا متلطفين بإخراجه من روسيا. (4) جمال الدين وشاه إيران
صادف وجود جمال الدين متجولا في أوروبا فتح معرض باريز سنة 1889م فشخص إليها، والتقى الشاه في «منيخ» عاصمة «باواريا» عائدا من باريز، فاستزاره، واعتذر له عما فرط، وعتب عليه بعدم عودته إلى طهران. وأخيرا دعاه إلى مرافقته، فأجاب جمال الدين الدعوة وسار مع الشاه إلى بلاد فارس، فلم يصل إلى طهران حتى عاد الناس - وفي مقدمتهم الأمراء والعلماء - إلى الاجتماع به والانتفاع بعلمه، والشاه لا يرتاب من أمره. وأول ما كلفه به أن يسن ما يراه موافقا لروح العصر من القوانين (ربما كان ذلك من الشاه بتأثير سياحته في أوروبا). فعمل جمال الدين بهمته المعهودة فسن القانون الأساسي لمملكة فارس لتكون حكومة ملكية شورية، فما أتم قواعد الدستور الكلية ومواده وأطلع عليه الشاه ناصر الدين إلا وأعظم الأمر؛ إذ رأى أن حكمه سيكون مقيدا وأن أهل فارس سيكونون أوسع سلطة من الشاه بمجلسهم النيابي.
فقال لجمال الدين: أيصح أن أكون يا حضرة السيد، وأنا ملك ملوك الفرس «شهنشاه»، كأحد أفراد الفلاحين؟ - اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك سيكونون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هم الآن. «والفلاح، والعامل، والصانع في المملكة يا حضرة الشاه أنفع من عظمتك ومن أمرائك، واسمح لإخلاصي أن أؤديه صريحا قبل فوات وقته.
لا شك يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكا عاش بدون أمة ورعية؟»
هذا الحديث الصريح من جمال الدين للشاه ناصر الدين جاء مصدقا لما وشى به الصدر الأعظم وخوف الشاه منه بقوله: «إن ما يسنه جمال الدين من القوانين لا يفيد البلاد شيئا، ولكنه ينزع سلطان الشاه منه ويعطيه إلى السوقة.» ونفر نفورا بينا من جمال الدين وأعرض عنه، فأحس بهذا التغيير والنفور فاستأذن بالذهاب إلى بلدة شاه عبد العظيم على بعد عشرين كيلومترا من طهران، فأذن له، فسار إليها وتبعه جمع غفير من العظماء والعلماء والوجهاء الذين كان يخطب فيهم ويستحثهم على إصلاح حكومتهم، وما منهم إلا وقد انفعل بخطب جمال الدين الحماسية، وقبلت نفوسهم نزعة الاستقلال، وسرت تلك الروح في البلاد طولا وعرضا وذاع فيها عزم جمال الدين على إصلاح إيران، فخاف ناصر الدين الشاه عاقبة ذلك، فأنفذ إلى بلدة شاه عبد العظيم خمسماية فارس قبضوا على جمال الدين، وكان مريضا فحملوه من فراشه على برذون بصورة فظيعة وعليه دور من الحمى درجة حرارتها أربعون، ولم يسمحوا له باستراحة دقائق حتى أوصلوه إلى حدود المملكة العثمانية في ولاية البصرة. (5) جمال الدين والسلطان عبد الحميد
خرج جمال الدين، على عادته، من حضرة السلطان إلى حجرة رئيس القرناء، فقال له بلطف: يا حضرة السيد، إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل، واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة، وأنت تلعب بالسبحة في حضرته.
فقال جمال الدين: «سبحان الله، إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة على هواه وليس من يعترضه منهم، أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب في سبحته كيف يشاء؟!» أما رئيس القرناء فترك حجرته مهرولا خائفا يترقب من هذا الكلام بهذه اللهجة أن يوشى به إلى السلطان.
رأس بلا تاج أو تاج بلا رأس
لا يسلم - على الغالب - الشكل الدستوري الصحيح مع ملك ذاق لذة التفرد بالسلطان، ويعظم عليه الأمر كلما صادمه مجلس الأمة بإرادته أو غلبه على هواه.
لذلك قلت: إذا أتاح الله رجلا قويا عادلا لمصر وللشرق يحكمه بأهله، ذلك الرجل إما أن يكون موجودا أو تأتي به الأمة فتملكه على شرط الأمانة والخضوع لقانونها الأساسي وتتوجه على هذا القسم، وتعلنه أنه يبقى التاج على رأسه ما بقي هو محافظا أمينا على صون الدستور، وأنه إذا حنث بقسمه وخان دستور الأمة إما أن يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس.
هذا ما يحسن بالأمة فعله إذا هي خشيت من أمرائها وملوكها عدم الإخلاص لقانونها، أو عدم قابليتهم لقبول الشكل الدستوري قلبا وقالبا.
الإيمان بقدرة الإنسان
نعم، إن الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون، ولسوف يستجلي بعقله ما غمض وخفي من أسرار الطبيعة، وسوف يصل بالعلم وبإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوراته، فيرى ما كان من التصورات مستحيلا قد صار ممكنا، وما صوره جموده وتوقف عقله عنده بأنه خيال قد أصبح حقيقة.
شكل الحكم مسألة أساسية
وانظروا إذ ذاك إلى نهضة الشرق، خصوصا متى تغير شكل الحكم في أهله، فتروا الشرق قد عاد مشرقا بالعلماء، زاهرا بحقائق العلوم، مثبتا مقررا لكل ما هو نافع ويصلح أن يبقي أثرا.
الاستعمار ككل شيء له عمر ينتهي عنده
ولما كان لحياة الأمم والدول أدوار وآجال، ولحدوثها وتكونها، وتعاليها، ثم توقفها، وانحطاطها، أسباب وعوامل، هكذا وجب أن يكون الاستعمار خاضعا لتلك النواميس الكونية، بمعنى أنه يصل إلى حد محدود وأجل معلوم. وانقضاء أجل الاستعمار إنما يتم بزوال الأسباب التي مكنت أهله من التسلط وأكرهت الشعوب على الخضوع لهم. (عن كتاب «خاطرات جمال الدين الأفغاني»، للمخزومي)
الدكتور شاكر الخوري (1847-1911)
الانقلابات بقدر استعداد الجمهور
الحرية السياسية التي نلناها هي: خلاصنا من الجاسوسية والمراقبة؛ فالأولى تخربنا وتجعلنا محتالين غشاشين قاتلين، وتجعل حياتنا بيد مفسد دنيء يبيعنا حسب شهواته. والثانية تجعلنا في جهل وتأخر بحيث نرى أنفسنا أدنى من الحيوانات؛ فالمراقبة هي التي جعلت صاحب مطبعة كتابي أن يقول: طبع في مصر، مع أنه طبعه في بيروت. والذي علمه الكذب هو المراقبة؛ فلا ظلم أمر من الجاسوسية، ولا ضعف أذل من المراقبة التي تفتكر أن مجرد كتاب، أو حرف أو كلمة، أو كلمة في جملة تخرب المملكة وتغير أفكار الرعايا، فأي كتاب لحد الآن عمل هذا العمل؟
والسبب لانتشار مبدأ هو جعل الناس مستعدة لقبوله؛ فالظلم السابق يجعل الإنسان يتغير بسهولة وينتقل إلى مبدأ ضده؛ فهذه هي الأسباب التي تغير الأفكار؛ فالدستور الذي هو الكتاب السياسي المقدس للمملكة العثمانية لا يمكن حفظه ما لم تحفظه الجندية وتحام عنه؛ فيلزم عند دخول الجندي في العسكرية أن يحلف يمينا بالمحافظة عليه، وكذلك كل مستخدم. والأمل من «المبعوثان» تعديله، ولا يكون اجتماعهم كبرج بابل تتبلبل فيه اللغات لكثرتها، ويقلدون الخطباء الأقدمين بخطاباتهم ويخرجون عن موضوع الإصلاح الحالي، وأن يسن لكل ولاية بعض قوانين مخصوصة حسب عوائدها ومناخها وعلمها وجهلها، ليكون الاتحاد أعظم ... لأن مملكتنا مكونة من ولايات فيها أعظم تمدن، ومن أخرى متوحشة جدا، فلا يمكن تكلم الاثنين بلغة واحدة، فحكمة «المبعوثان» ترتب ذلك.
عبد الله النديم (1261-1314ه)
فضل الشورى
نحن معاشر الشرقيين في حاجة إلى نقد الأفكار وتفتيش الآراء حتى فيما يصدر منا في الشئون الأهلية لنبذ الضار والأخذ بالنافع؛ فقد يصدر الرأي من إنسان عن الإخلاص ويكون قد تلوت عليه المطالب، فيخرج الرأي فطيرا يضرنا الأخذ به، وإن كان صاحبه لم يقدر الضرر. ولا ينبغي الاعتماد على ذوي المظاهر العلمية والإدارية قبل أن نعرض أفكارهم على المبادئ والخواتيم؛ فإن الحائز لثقة الناس به كثيرا ما تدعوه العجلة للسقوط في وهدة الارتباط فيقول من غير ترو ويعمل بغير تدبير لعلمه بأنه لا يعارض قوله ولا يقبح عمله. وقد درست الأمم الغربية هذه المقدمات وعلمت ما وراء الاقتداء بالنزلاء وأهل الشهرة من الانحطاط، فاعتمدت على مجالس شوراها لتستخلص من تضارب الأفكار واختلاف الأحزاب قواعد لا تنقضها الحوادث وقوانين تلائم التابع والمتبوع وتبقى بها دعائم الدولة قائمة على أساس متين. ولم تتوصل لهذا المقصد الحسن إلا باعتمادها على من يخوض لجج المنايا في حفظ وطنه من طامع في امتلاكه أو عاد على أهله. وبهذا التمحيص نجحت أعمالهم وقويت شوكتهم ونفذت سلطتهم وتخطت سطوتهم أوطانهم إلى غيرها فتحا واستعمارا.
وقد توالت الأعوام والجرائد تنقل لنا، معاشر الشرقيين، أخبار أولئك الفائزين وتشرح لنا من أعمالهم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول ما ساعدهم عليه تمحيص الرأس وتوحيد الكلمة وتمحيص المتشاورين، ونحن قعود على قارعة الكسل والتهاون نكتفي بالتفرج على الأمم العاملة ونفرح بما نراه من فوزها ونغضب إذا تأخر فريق منها. وقد انصرفنا عن مصالح أوطاننا وعمينا عن طريق تقدمنا وحيل بيننا وبين مجاراة هؤلاء العقلاء بسور الأنفة من استشارة الفقراء ومفاوضة الضعفاء وإن كانوا قد امتلئوا علما وكسبوا نباهة، فإذا عولنا على التشاور يوما جمعنا أرباب الأموال وأهل الوجاهة من غير تخير العقلاء منهم ولا تمييز الأغبياء من الأذكياء، وحشرنا هذا الشتيت في قاعة حبس لا يراهم فاضل ولا يسمعهم خبير، فيحيصون حيصة تنجلي عن نكبات تجلب في صور مضار تدفع أو منافع تصنع، وليس وراء هذا التقصير غير التدمير. ولئن قيل إن التجارب دلتنا على أن الشورى لا تنجح في الشرق، أو أن الشرقيين غير عقلاء كما يزعم محبو الأثرة والانفراد بالتسلط، قلنا: إن اتحاد الشرقي مع الغربي في الخلق يرد هذه الدعوى الباطلة، وإنما ثابر الغربيون على العمل بالشورى وأخذوا يصححون الأغاليط ويراجعون الخطأ ويتبادلون الجدل عن عزائم صادقة حتى تربت الملكات وتصورت المطالب أمامهم بصور الواقعيات، وما أوصلهم لهذه الغاية إلا اعتمادهم على الفضلاء والأذكياء منهم، حتى اضطر الأغنياء والوجهاء لدراسة العلوم والفنون السياسية التي بها ترشحوا للدخول في أندية الشورى. وما زالوا يزاولون ويبحثون في الأمم والدول حتى قبضوا على أزمة الملك بعصبية قوية ووقفوا أمام ملوكهم حصونا تقيهم الفتن الداخلية والغوائل الخارجية، فماذا على الشرقيين لو جاروهم في هذه الطريق وهي سهلة لا حزن فيها ولا وعورة، ولا يلزم للدخول فيها أكثر من انتخاب العقلاء والفضلاء وانسلاخ أهل الذاتيات لنخرج من مضيق هذه المصيبة التي أصيب بها بعض نبهاء الشرق من خدمة الأجنبي ناقص حملة كاملة من جهة وتغافل الملوك عنهم من جهة أخرى.
وهم (الملوك) قادرون على تربية أبناء بلادهم على حب الوطن والملة والدولة وتدريبهم على الأعمال الإدارية والحربية والصناعية وترقيتهم بقدر استحقاقهم، وسد باب الأجنبي أمامهم بإعطائهم الحقوق الوطنية والملكية وتسليمهم الأعمال العالية التي ترشحوا لها واستعدوا للقيام بأعبائها؛ فإنهم إن فعلوا ذلك ملئوا صدور الأمم محبة لهم واستمالوهم إليهم فكانوا أسهل انقيادا إليهم من رجال انقيادا إليهم من رجال الاستعباد؛ فإن المستعبد يقاد اضطرارا، وهذا يخدم اختيارا، وشتان بين الحالتين. وسنعود لهذا الموضوع إن شاء الله تعالى معتمدين على الشواهد القرآنية والأعمال النبوية مؤيدين ذلك بما كان أيام الخلفاء الراشدين، ليتحقق الشرقي أن السلامة والنجاح في الشورى وأخذ آراء المحنكين العارفين بالأمم وأحوالها. (من مقال له)
عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902)
(1) تعريف الاستبداد
الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه، وبعبارة أخرى الاستبداد أن يحكم الحاكم بأمره حسب هواه وأمياله.
يراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها هي أقوى العوامل التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة ولو أنصفت لجعلته أسعد الخلائق. وأما تحكم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات وبعض الأصناف فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الإضافة لأن ضرره يقتصر على البعض دون الكل.
والاستبداد في اصطلاح السياسيين هو تصرف أفراد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة أو احترام شريعة إلهية أو قانون بشري.
وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى فيستعملون في مقام كلمة «استبداد» كلمات: استعباد واعتساف وتسلط وتحكم. في مقابلتها كلمات: شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك، وحياة طيبة.
ويستعملون في مقام صفة «مستبد» كلمات: حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبار. يقابلها: حاكم بالشورى، وحاكم مقيد بقوانين، وعادل، ووديع. وفي مقابلة حكومات مستبدة كلمات: عادلة، ومسئولة، ومقيدة، ودستورية.
ويستعملون في مقام صفة «مستبد عليهم» كلمات: أسرى، وأذلاء، ومستصغرين، ومستنبتين. وفي مقابلتها: محتسبون، وأباة، وأحرار، وأحياء.
هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات. وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين.
ومنشأ الاستبداد إما هو من كون الحكومة غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة أو على أمثلة أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المطلقة التي تخلصت من قيود القوانين بجهل رعاياها، وإما من كونها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تسمي نفسها بالمقيدة. والصحيح أن الإنسان لم يتوفق حتى الآن لإيجاد حكومة دستورية تحكم بمشورة الأمة بمعنى الشورى الحقيقي.
وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها. ويكفي هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب، وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد. ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ لأن ذلك أيضا لا يرفع الاستبداد ولا يخففه ما لم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التي تعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب، وهذه أفضل الحكومات لو وجدت.
1
وخلاصة ما تقدم أن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم خص بحكمه ذوي قرباه دون المسلمين، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس.
ومن الأمور المقررة أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها، إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيء من القوتين الهائلتين المهولتين: جهالة الأمة والجنود المنظمة. (2) الاستبداد والعلم
ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي على أيتام أغنياء يتصرف في أموالهم وأنفسهم كما يهوى ما داموا قاصرين؛ فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
لا يخفى على المستبد أن لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلام جهل وتيه عماء؛ فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل.
العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فضاحا للشر يولد في النفوس حرارة وفي الرءوس شهامة.
المستبد لا يخشى علوم اللغة المقومة للسان إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماسة تعقد الألوية أو سحر بيان يحل الجيوش؛ لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان أو مونتسكيو وشيلار.
وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم، فإذا نبغ فيهم البعض ونالوا شهرة بين العوام لا يعدم وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره بنحو سد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.
ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفضل والخطابة الأدبية وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المنبثقة الشموس المحرقة الرءوس.
ويقال بالإجمال: إن المستبد لا يخاف من العلوم كلها، بل من التي توسع العقول وتعرف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه وهل هو مغبون، وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ. المستبد عاشق للخيانة، والعلماء عواذله. المستبد سارق ومخادع، والعلماء منبهون محذرون. وللمستبد أعمال وصوالح لا يفسدها عليه إلا العلماء.
المستبد كما يبغض العلم لنتائجه يبغضه لذاته؛ لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يحتقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما؛ ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم ذكي، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: «فاز المتملقون»، بل هذه طبيعة في كل المتكبرين وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكينا خاملا لا يرجى لخير ولا لشر.
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا؛ يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في إطفاء نوره. والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.
العوام هم قوت المستبد وقوته، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول ، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه إنه كريم، وإذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذذ بالتحابب.
وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية؛ حياة رخاء ونماء؛ حياة عز وسعادة. ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد لأنه كان على الدوام محاطا بالأعداد ملحوظا بالبغضاء غير أمين على حياته طرفة عين.
ولا شك أن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علم وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه من انتقام بحق وخوفهم عن توهم التخاذل، وخوفه على فقد حياته وسلطانه وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن لا يألفون غيره في أيام.
وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته وحتى من هواجسه وخيالاته. وكثيرا ما تختم حياة المستبدين الضعيفي القلوب منهم بالجنون.
ومن قواعد المؤرخين المدققين أن أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدين كنيرون وتيمور مثلا يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ، وإذا أراد المفاضلة بين عادلين كأنوشروان وصلاح الدين يوازن مرتبتي أمنهما في قومهما.
لما كانت أكثر الديانات القديمة مؤسسة على مبدأي الخير والشر، كالنور والظلام، والشمس وزحل، والعقل والشيطان، رأت بعض الأمم الغابرة أن أضر شيء على الإنسان هو الجهل وأضر آثار الجهل هو الخوف، فعملت هيكلا مخصصا للخوف يعبد اتقاء لشره.
قال أحد المحررين السياسيين: إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه؛ فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدس، والأقلام هي السكاكين ، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يقدمون القرابين.
ويقول أهل النظر في أحوال البشر: إن خير ما يستدل به على صفة السياسة في الأمم شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسم التشريف.
يقولون إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هي كثيرة ألفاظ التعظيم غنية في عبارات الخضوع كالفارسية مثلا، أم فقيرة في هذا الباب كالعربية.
والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل، وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره. وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام، عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء.
قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها والشرف وعظمته والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والإنسانية وما هي وظائفها والرحمة وما هي لذاتها.
أما المستبدون الشرقيون وخوفهم من العلم فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم وكأن أجسامهم من بارود والعلم نار؛ نعم، يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة «لا إله إلا الله» ولماذا كانت أفضل الذكر، ولماذا بني عليها الإسلام؟ بني الإسلام بل وكافة الأديان على: لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سواه؛ أي سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة التذلل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله، فهل والحالة هذه يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك ويعملوا بمقتضاه؟ كلا، ثم كلا.
حتى إن هذا العلم لا يناسب صغار المستبدين كخدمة الأديان الأقوياء أو الأغبياء والآباء الجهلاء والأزواج الحمقى ورؤساء كل الجمعيات الضعيفة؛ ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، ولكن قتل الإنسان ما أكفره بنعم مولاه وما أظلمه لنفسه وجنسه! (3) الاستبداد والأخلاق
تفعل العدالة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر؛ فالأقوام كالآجام إن تركت مهملة تزاحمت أشجارها وسقم أكثرها وتغلب قويها على ضعيفها فأهلكه، وهذا مثل القبائل المتوحشة. وإن صادفت بستانيا يهمه بقاؤها وزهوها فدبرها حسبما تطلبه طباعها قويت وأينعت وحسنت ثمارها، وهذا مثل الحكومة العادلة. وإذا بليت بحطاب لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدها وخربها، وهذا مثل الحكومة المستبدة. ومتى كان البستاني أو الحطاب غريبا لم يخلق من تراب تلك الديار وليس له فيها فخار ولا يلحقه منها عار، إنما همه الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلاع الأصول، فهناك الطامة وهناك البوار؛ فبناء على هذا المثال يكون مقام الاستبداد بإزاء الأخلاق مقام ذلك الحطاب الذي لا يرجى منه غير الإفساد.
لا تكون الأخلاق أخلاقا ما لم تكن مطردة على قانون، وهذا ما يسمى عند الناس بالناموس. ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان يقاد حيث يراد ويعيش كالريش يهب حيث تهب الريح، لا نظام ولا إرادة. وما هي الإرادة؟ هي أم ناموس الأخلاق؛ هي ما قيل فيها تعظيما لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة؛ هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة؛ فأسير الاستبداد الفاقد الإرادة هو مسلوب حق الحيوانية فضلا عن الإنسانية لأنه يعمل بأمر غيره لا بإرادته؛ ولهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله إنما هو تابع لنية مولاه.
أسير الاستبداد لا نظام في حياته؛ قد يصبح غنيا فيضحي شجاعا كريما، ويمسي فقيرا فيبيت جبانا خسيسا، وهكذا كل شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها فهو يتبعها بلا وجهة؛ فالأسير لا يبغي على الأسير فيزجر أو لا يزجر، ويبغى عليه فينصر أو لا ينصر، ويجوع يوما فيضوى، ويخصب يوما فيتخم، يريد أشياء فيمنع، ويأبى شيئا فيرغم. ومن كانت هذه حاله كيف يكون له خلاق، وإن وجد ابتداء فكيف لا يفسد؟
أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، وبئس السيئتان، ويعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة وعقبى ذكر الفاجر بما فيه.
أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ، وهو في عهد الاستبداد غير مقدور عليه لغير ذوي المنعة مع الغيرة، وقليل ما هم، وقليلا ما يفيد نهيهم لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين لا يملكون ضرا ولا نفعا، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئا، وينحصر موضوع نهيهم وانتقادهم في الرذائل النفسية الشخصية فقط مما لا يخفى على أحد. أما المتصدرون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد فيكونون مطلقا، ولا أقول غالبا، من المتملقين المرائين. وما أبعد هؤلاء عن التأثير؛ لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر ميت. أما النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة فيمكن كل غيور أن يقوم به بأمان وإخلاص ويوجهه إلى الضعفاء والأقوياء سواء، ويفوق سهام قوارصه على ذوي الشوكة والزعماء، ويخوض في مواضيع تخفيف الظلم وتسديد النظام، وهذا هو النصح الذي يغذي ويجدي.
ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية؛ أي الحرية. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بوضعه قاعدة:
ولا يضار كاتب ولا شهيد .
وهذه الأمم الموفقة خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية. وذلك منطبق تماما على ما أمر به القرآن الكريم في آية:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وفي كمالة هذه الآية وهي :
وأولئك هم المفلحون
من التبجيل ما يحمل نفوس الأبرار على تحمل مضض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها، الممقوتة طبعا عند المستبد وأعوانه. (نقلا عن كتاب «طبائع الاستبداد»)
شبلي الشميل (1853-1917)
(1) دفاع عن حرية القلم
إن الآلات التي يخترعها الإنسان (ومنها القلم) ليست سوى أعضاء إضافية متممة لأعضائه الطبيعية، فلا يجوز أن تعامل معاملة استثنائية تخالف معاملة الأعضاء الطبيعية نفسها؛ فكما أنه لا يشترط على الإنسان لاستعمال رجليه خوفا من أن يسعى بهما إلى الشر، أو يديه خوفا من أن يجني بهما، لا يجوز أن يشترط عليه كذلك لاستعمال أعضائه الإضافية، فإذا جنى بها فالقانون الذي يتكفل بمعاقبة جنايات الأعضاء الطبيعية، وهو القانون العام، يجب أن يتكفل بمعاقبة جنايات الأعضاء الإضافية أيضا. (2) المستقبل لسيادة الأمم
ومن يوم خطت أوروبا خطاها في سبيل العلم الحقيقي، وأخذ ظل الأوهام يتقلص من العقول، صار الأمل كبيرا بسرعة هذا الارتقاء (ارتقاء نواميس الاجتماع). ولا نريد بهذا القول إنها (أي أوروبا) على وشك بلوغ الغاية القصوى فيه، وإنما هي اليوم على فجر النهضة الحقيقية. ولا ريب في أنها ستكون الأولى في الاستفادة، سيكون شأنها شأن المنارة التي يستضيء العمران بها في العالم أجمع، لسهولة ارتباط بعضه ببعض وسيطرة بعضه على بعض اليوم بفضل مكتشفات العلم ومخترعات الصناعة. وأول خطاها في هذا السبيل ستكون تأييد سيادة الأمم سيادة حقيقية وسقوط سيادة الملوك. (3) نظام الحكم وعامله الأساسي في رقي الأمم وانحطاطها
إن حكومات الشرق هي التي ساعدت على فساد الأخلاق إلى هذا الحد؛ فقد تقدم أن الفرق من عهد أبقراط إلى اليوم بين حكومات المغرب وحكومات المشرق أن تلك تحكمها شرائعها وهذه تحكمها ملوك، وإن تعدلت الأحكام في بعض ممالك الشرق اليوم فما تعديلها إلا صورة لا معنى؛ فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم، فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما ثقلت على كواهلهم من الإذلال وسائر ما يجر إليه الاستبداد، وقوت فيه كل الصفات الدنيئة الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم. (4) الحكومة والأمة
الحكومات مظهر من مظاهر الأمة، وهي تختلف باختلاف الأمم؛ فكلما ارتقت أمة في العمارة ارتقت حكومتها كذلك، وهو معنى قوله: «وكما تكونون يولى عليكم.» فلا ينتظر أن تكون الحكومة أصلح من الأمة التي نشأت فيها، بل لا تلزم الحكومة إذا داست بأخمصها رقاب الرعية، وهل تداس رقاب تأبى أن تداس؟ وإن من ينتظر الإصلاح عفوا من أية حكومة كانت يجهل ولا شك تاريخ نشوء الأمم والعمران. وها إن التاريخ أمامنا يعلمنا أن الحكومات في كل زمان ومكان هي آخر من يذعن للإصلاح إذا لم تقم العقبات في سبيله. وهل بلغت أمم أوروبا مبلغها من التمدن اليوم بفضل حكوماتها؟ لا لعمري. إنما بلغته ولا تزال مجدة فيه بفضل تألبها واتحاد كلمتها ورفع الرءوس المطأطأة وتقويم الظهور المقوسة، والمشي على الأقدام، والزحف على الركب، وربط حكوماتها كما تربط القرناء وإتلالها كما تتل السائمة وجرها وراءها قوة واقتدارا. والأمم التي لم تستطع ذلك لعدم توفر أسباب القوة فيها عفاها الدهر واستغرقها التنازع ولم يبق لها إلا آثارا، أو لم يبق لها أثرا وتركها خبرا مسطورا. (سنة 1898)
أديب إسحاق (1856-1885)
(1) أديب إسحاق يربط الانتفاضات الشرقية بثورة فرنسا
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
بل هي شعلة إصلاح كانت في كمون الدهر في عالم الضياء والنور، فساقتها يد الحكمة بمعدات الحركة إلى عالم الظهور، وسرت في أوروبا من جانب الغرب الأقصى، وكمنت فيما وراء المانش أياما وأعواما متنقلة من صورة إلى صورة، ومن كيفية إلى كيفية، حتى أعدت لها طريق البروز، فظهر ضرامها بعد الخفاء، وانبعثت منها جراثيم الضياء، فغيرت هيئة الأرض وحالة الناس، وطهرت ذلك الجانب من الأرجاس؛ تلك ثورة الفرنسيس! برزت إلى عالم الفعل عام 1789، وصدمت قوة الاستبداد فزلزلتها، ودفعت سطوة التقليد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها وعن النفوس حجابها، فآنست من جانبها الحرية وخلعت جلابيب الرق والعبودية، واجتمعت على ولائها وتألبت تحت لوائها لتدفع عنها من رام إطفاء نورها وإفساد أمورها، فتصدى لها أعوان الرق وأنصار العبودية، وما آلوا في قتالها جهدا، فلقيتهم وهي ترى الموت في الحرية حياة والحياة في الرق موتا، فلم يبلغوا منها قصدا، ورسخت في عالم الوجود قدمها، وكثر الملأ من حولها، وأدهشت الدنيا بشدة حولها. ثم مرت عليها الشهور والأحوال، وتقلبت الأمور والأحوال، ورأى العدو منها غفلة فدهم، واغتنم من الزمان فرصة فهجم، وغلب أمره وتأيد، واستقام ملكه وتوطد، إلى أن ساقته يد القدرة إلى التهور فيما جر إليه وإليها البلاء الأليم،
1
فتسنى لها أن تدفع عنها شره، ورب شر يجيء بالخير العظيم. ثم عادت إلى سابق عزها، والعود أحمد، فانفتحت في بلادها، نعني فرنسا، كنوز الثروة، وتوفرت أسباب القوة والسطوة، وصفت موارد السعادة والهناء، وانتفت أسباب المتاعب والشقاء، وهي الآن على ما نرى من العز والمناعة والتقدم في الزراعة والتجارة والصناعة.
ثم ذكرت تلك الشعلة وطنها القديم فحنت إليه، ولا غرو أن يحن الغريب إلى وطنه، نعني الشرق، مقر جراثيم الحركات الدينية والسياسية التي غيرت هيئة الأرض وأحوال الإنسان، فسرت إليه تنبه غافله وتفقه جاهله، وظهرت في بلاد «أخورا مازدا» بين أبناء «زرادشت»، تحت سماء التقاليد، نريد بلاد الفرس؛ فإن مذهب البابيين، نسبة إلى السيد علي محمد الملقب «باب المهدي»، قد ظهر في تلك البلاد منذ نحو من ثلاثين سنة، وعلق بقلوب الناس فتمذهب به جمع كثير منهم وأثاروا الفتنة على الحكومة وأبرزوا من الجسارة والإقدام ما لم يسمع بمثله، وبعد مقتل إمامهم رمى بعضهم الشاه بالرصاص ولم يصب. وقد كان من أعمالهم الأخيرة أن جماعة منهم تشبهوا بالجند وقصدوا الشاه وهو سائر إلى مدفن شاه زاده عبد العظيم للزيارة، ثالث أفريل (نيسان) سنة 78، وقالوا له: إنا من جندك وقد طال علينا زمن الخدمة ونروم الانصراف إلى منازلنا. فوعدهم أن ينظر في أمرهم بعد الرجوع إلى القصر. ثم إنهم هجموا على عربته ورموه بالحجارة الكبيرة وجرحوا جماعة من رجال حرسه. وكان على مقربة من مكان الحادثة طائفة من الجند فطير الشاه إليهم الخبر فجاءوا مسرعين وقبضوا على جماعة من أهل الفتنة وعلم الشاه أنهم من البابيين.
وما أفضنا في الكلام على آثار تلك الحركات الفكرية التي سرت في أوروبا من جانب غربها الأقصى إلا لأننا نحسب الحركة التي ظهرت أخيرا في الآستانة حلقة من سلسلتها، وهي الحركة التي ظهر أثرها الأول في عزل محمود نديم باشا أثر فتنة البلغار، وخلع السلطان عبد العزيز وتنصيب السلطان مراد،
2
وقد كثر عدد الداعين إليها في الآستانة واجتهدت الدولة في خفض منارها وإهماد نارها بإبعاد زعمائها ونفي رؤسائها مع كثرة الشواغل وتواتر النوازل. وقد جاءنا بالتلغراف واردا من الآستانة بتاريخ 21 مايو سنة 1978 أن جماعة من العامة قد هجموا على سراي جراغان
3
مقر حضرة السلطان السابق، فحاول رجال الحرس صدهم وأعياهم ذلك، فأطلقوا عليهم الرصاص وقتلوا منهم نفرا وجرحوا طائفة، فأوجسنا من ذلك الخبر شرا وخفنا أن يكون نتيجة ما سبق من المقدمات في عهد ساكن الجنة عبد العزيز. ثم جاءنا في غد ذلك اليوم بيان أزال ذلك الخوف وأبعد الإيجاس، وهو أن الذين هجموا على السراي كانوا من المهاجرين، فترددنا بين تصديق الأول والثاني، ورجحنا جانب الثاني بدليل ما جاء بعده من أن جماعة من أولئك المهاجرين قد ساروا إلى الباب العالي يطلبون الإعانة، وحملنا فتنتهم على الحاجة والفاقة. ثم ما لبثنا أن جاءنا بالتلغراف ما أفسد الظن وأعاد الإيجاس من أن علي سعاوي أفندي أحد زعماء تركيا الجديدة كان في مقدمة الهاجمين على السراي، وأن رجال الحرس قد قتلوه، فأيقنا أن هذه الفتنة هي من آثار تلك الحركة المتعلقة بسلسلة الحركات الفكرية التي ستغير لا محال عاجلا أو آجلا هيئة الكرة الأرضية ونظام الجمعية الإنسانية. (2) الأمة
الأمة والجيل من كل حي ومن الرجل قومه، وفي عرف أهل السياسة الجماعة المتجنسة جنسا واحدا الخاضعة لقانون واحد. وليس المراد بوحدة الجنس التوفيق بين الأنساب لتعذر ذلك فيها، ولما طرأ على أنساب الناس ولا سيما الحضر من المفاسد الكثيرة الناشئة عن تخالط أقوام مختلفة أنسابهم، وتوالي الحروب والغارات، وتوطن بعض الفاتحين فتوحهم وتزوجهم في أهلها، إلى غير ذلك مما جهلت به الأنساب وخفيت به الأحساب إلا ما حفظ بمناسبة أهله عن أن يدانيهم فاتح غريب ، وهو قليل لا يقاس عليه. وإنما المراد بوحدة الجنس اتفاق الجماعة على الاعتزاء إلى جنس واحد يتوالدون فيه ويتسمون به، كالجنس الأميركاني لسكان الولايات المتحدة الأميركية سواء كانوا إنكليزا أو فرنسويين أو إسبانيين أو أميركانيين أصلا، والعثماني لسكان البلاد العثمانية في أوروبا وآسيا سواء كانوا تركا أو عربا أو تترا أصلا، والأوستري لسكان سلطنة أوستريا سواء كانوا ألمانا أو صقالبة أو إيطاليين أصلا، وهلم جرا.
وقد زعم بعض الناس أن من لوازم وحدة الأمة وحدة لغتها، وهو وهم؛ لأنه إما أن يراد بذلك الاستدلال باللغة على الجنس أو لا، فإن كان الأول فهو فاسد لأنه قد يولد الإنسان بين قوم وينبت فيهم فيتكلم بلغتهم وهو بعيد عنهم نسبا، ولأن ما ذكرنا من تخالط الأقوام واغتراب الفاتحين قد أحدث في لغات كثيرة من جماعات الناس فسادا بحيث صارت مزيجا يعجز أبرع الكيماويين عن تحليله كما في لغة أهل مالطة مثلا، فامتنع بذلك الاستدلال باللغة على الجنس. وإن كان الثاني فهو من قبيل إيجاب ما ليس بواجب، ولو اقتصر أهل هذا الرأي على استحسان وحدة اللغة في الأمة لأحسنوا.
4
فقد ثبت بما ذكر أن الأمة هي الجماعة من الناس تتجنس جنسا واحدا؛ أي تتسم بسمة واحدة على اختلاف أصولها ولغاتها، وتتعارف باسم تنتسب إليه وتدافع عنه. (3) حد الوطن
أما الوطن فهو المسكن يقيم به الإنسان، وفي عرفهم البلاد يتوطنها سواد الأمة الأعظم ويتوالدون فيها، ولا يشترط فيه مساحة بدرجات معينة وإقليم واحد بتخوم معروفة، وإنما تعريفه ما ذكر من توطد معظم الأمة به. وقد يضاف إلى الوطن بلاد لم تكن منه، وهي إما أن تكون فتوحا ضمت إليه عنوة، وإما أن تنضم إليه برضى أهلها. فإن كان الأول فإما أن يكون ضمها قديم العهد، وتكون معاملة حكومة الوطن لها معاملتها لسائر أهله فتثبت الملكية، وإما ألا تكون هذا ولا ذاك فلا تثبت، وإن كان فلا مشاحة في صحة الانضمام. ... لا بد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرا صلدا، وإن الوطن إنما هو خير وجوه الوحدة لامتناع الخلاف والنزاع فيه ...
الوطن في اللغة محل الإنسان مطلقا؛ فهو السكن بمعنى أن تقول: استوطن القوم هذه الأرض وتوطنوها؛ أي: اتخذوها سكنا. وهو عند أهل السياسة: مكانك الذي تنسب إليه ويحفظ حقك فيه ويعلم حقه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطن إلا مع الحرية. وقال لابرويير الحكيم الفرنسوي: «لا وطن في حالة الاستبداد.» وكان حد الوطن عند قدماء الرومانيين: المكان الذي فيه للمرء حقوق وواجبات سياسية.
وهذا الحد الروماني الأخير لا ينقض قولهم: لا وطن إلا مع الحرية، بل هما سيان؛ فإن الحرية إنما هي حق القيام بالواجب المعلوم، فإن لم توجد فلا وطن لعدم الحقوق والواجبات السياسية، وإن وجدت فلا بد معها من الواجب والحق، وهما شعار الأوطان التي تفتدى بالأموال والأبدان، وتقدم على الأهل والخلان، ويبلغ حبها في النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان.
أما السكن الذي لا حق فيه للساكن ولا هو آمن على المال والروح فغاية القول في تعريفه أنه مأوى العاجز ومستقر من لا يجد إلى غيره سبيلا. (4) الوطنية
وقد اختلف في سبب حب الوطن، فقيل: إن السبب فيه الألفة؛ فإن الإنسان إذا ألف شيئا أحبه. وأجيب بأنه يخرج الإنسان من وطنه صغيرا فينبت في آخر ولا ينسى مع ذلك حب وطنه. وقيل: إن حب السكان يورث حب المكان، كما قيل:
وما حب الديار يهيج وجدي
ولكن حب من سكن الديارا
وأجيب بأنه قد ينتقل الإنسان عن وطنه بمعظم أهله وأصدقائه ولا ينفك مؤثرا وطنه بالحب. وعندنا أن «ياء» الإضافة في قولي «وطني» هي السبب في حبي لوطني، كما أن «ياء» النسبة في قولنا «فرنسوي» هي السبب في حب الفرنسوي لأمته، فتأمله؛ فلله من ياءين: «ياء» نسبة و«ياء» إضافة، تدعوان إلى فضيلتين: حب الأمة وحب الوطن.
ولقائل: إنك قد جعلت مصدر حب الوطن والأمة الأنانية (حب الذات) وهي نقيصة، فكيف صح في قياسك صدور الفضيلة عن نقيضها؟ وجوابه أن الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، والفضل ضد النقص. أما الأنانية فهي نسبة لضمير المتكلم على غير قياس، وهي في عرفهم إيثار الإنسان نفسه بما يراه خيرا سواء جنى بذلك على غيره خيرا أم شرا، وليس في حب الوطن أو الأمة شيء من ذلك كما ترى.
أما وجه كونهما فضيلة؛ أي درجة رفيعة في الفضل، فهو لأنهما يقضيان على صاحبهما بخدمة الأرض التي يغتذي بخيراتها، والإنسانية التي جعلته في جماعة من نوعه يعينونه على استحصال حاجاته ويدفعون عنه أذى سائر الأنواع. ولعلك لا ترضى بهذا تعليلا فتقول: إن خدمة الإنسانية والأرض لا ينبغي أن تنحصر في جماعة من الإنسان أو في جهة من الأرض، وإنما يجب أن تكون عامة فيهما. والجواب أنه لما رأى الإنسان من نفسه عجزا عن القيام بجميع حاجاته الطبيعية ودفع أذى سائر الحيوان، تألف جماعة تفرقت فيها تلك الحاجات، فصار هذا زارعا، وهذا حاصدا، وذاك طاحنا، وذاك عاجنا، والآخر خابزا، وكل منهم في شأنه ساع، فلما كبرت هذه الجماعة عن أن يسعها قسم واحد من الأرض تفرقت فيها فصارت جماعات منفصل بعضها عن بعض حسبا، مع تواصلها بالنوعية. وأقبلت كل جماعة منها على العمل في الأرض التي اختارتها مقاما استحصالا لحاجاتها، وأخذ كل من أهلها يعمل فيما ارتضاه لنفسه من الصناعات ليعين بمصنوعه رفيقه مستعينا بما يصنعه ذلك الرفيق. ولو حاول الإنسان الاهتمام في جميع الأرضين بجميع المهن والمشاغل لفني عمره ولم يأت بفائدة تامة، بخلاف ما إذا اقتصر على العمل بمهنته في جماعته إذ تتيسر له أسباب الإعانة والاستعانة فتحصل الفائدة التامة في الجماعة وينتهي ذلك إلى حصولها في النوع لما بين الجماعات من علاقات الإنسانية. وهذا وجه الفضيلة في حب الأمة وحب الوطن، فليرسمن اسمهما على صفحات كل قلب، وليلهجن بذكرهما لسان كل إنسان، فإنما المرء بأصغريه: القلب واللسان. ... إن النسبة للوطن تصل بينه وبين الساكن صلة منوطة بأهداب الشرف الذاتي؛ فهو يغار عليه ويذود عنه كما يذود عن والده الذي ينتمي إليه ، وإن كان سيئ الخلق شديدا عليه؛ ولذلك قيل في هذا المقام: إن «ياء» النسبة في قولنا «مصري» و«إنكليزي» و«فرنسوي» هي من موجبات غيرة المصري على مصر والفرنسوي على فرنسا والإنكليزي على إنكلترا، فأنكر ذلك بعض الناس، وكان الأمر لا شك سوء فهم أو سوء إفهام.
وجملة القول أن في الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة ثلاثة تشبه أن تكون حدودا: الأول أنه السكن الذي فيه الغذاء والوقاء والأهل والولد. والثاني أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية، وهما حسيان ظاهريان. والثالث أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعز أو يسفل ويذل، وهو معنوي محضا. (عن كتاب «الدرر») (5) الثورة
قد رأيتم شهداء طاعة عمياء ينحرهم خبثاء النفوس على مذابح الجور، تزلفا لطواغيت الفجور، فوقفت بربع العدل مناديا بأهل الإنسانية: يا لثارات الضعفاء!
فأجابني هاتف العصور من أغوار القبور: لقد انتجعت بورا، واتبعت غرورا؛ فإنا ملأنا من قبلك الأرض نداء وزفيرا، فلم نجد من الناس نصيرا، فعلمنا أنهم لا يسخون بالنجدة لمن ضن بنفسه وتوكل على بني جنسه، فاقتحمنا الأوجال في طلب الآمال، فلم تكن إلا جولة ولت الحرب أولادها، وصولة سلبت السيوف أغمادها، حتى سقينا غروس الأماني بالدم المهراق، فنمت باسقة الفروع، مخضرة العود، يانعة الثمار، فقلنا في ظلالها آمنين تحسبنا أمواتا وتخالنا رفاتا، ونحن في نعيم جنتها خالدون، فاقتدوا بنا إن رمتم النجاح، وانشطوا للسعي بالغدو والرواح.
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل؟
فعدت إلى بقايا الضحايا أحرك في عروقهم دم الغيرة، وأبث في صدورهم روح العزم، وأنشر من همتهم ما طوت الأيام في قبور الوهام، بما أذكر من أخبار الأمم وما أظهر من آثار ذوي الهمم، لعلهم يستنجزون موعد الحق بمراغمة أعدائه الذين تمردوا وسعوا في الأرض مفسدين، ولعلهم يفلحون.
ولقد جعلت خبر الثورة؛ ثورة الفرنسيس، تمهيدا للخطاب وتعيينا للقدوة ، فأظهرت كيف تسنى لهؤلاء القوم أن يخرجوا من مضائق الظلم ومآزق العبودية؛ إذ انفصل نوابهم عن المعتسفين من النبلاء وأهل الكهنوت، وجهروا بما كان يخفيه السكوت، حتى انقطع الجور بحبله المبتوت، وكيف توافقوا على الاتحاد في خدمة الحق ليفوزوا فيشكروا أو يبيدوا فيذكروا، وأقسموا: إنا لا نفترق وفينا رمق حتى نؤيد في بلادنا أمر الحرية. فأغلق الملك باب مجلسهم، فاجتمعوا في ملعب القرية متوازرين، متألفة قلوبهم، يرومون القسم بالسوية والعدل في الرعية، ويدعون إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
5
فكبر ذلك على عبيد الطمع وحلفاء الجزع،
6
فأغروا الأمير بفض مجلس النواب، فأصدر الأمر بذلك في الثالث والعشرين من شهر حزيران سنة تسع وثمانين، فتلقاه النبلاء ورؤساء الكهنوت بالطاعة والقبول. أما وكلاء الأمة فقالوا: لا نطيع الأمراء بما نعصي به الحق والعدل، وإنما:
نطيعهم ما أصبح العدل فيهم
ولا طاعة للمرء والمرء ظالم
فأتاهم وزير الملك يذكرهم أمره ويدعوهم لطاعته ويحذرهم عاقبة الفتنة، فأجابه خطيبهم ميرابو: عد إلى مولاك وقل إنا مجتمعون في هذا المقام بأمر الأمة، فلا نتفرق إلا بقوة النصال!
فعاد الوزير بالخيبة والفشل يغالب عامل الغيظ ويقاوم فاعل الوجل، فعظم هذا الأمر على رجال القصر وصنائع النبلاء وأنصار الامتياز، فحملوا الأمير على مقاومة النواب وأخذهم بالعنف، فعزل من كان مستوزرا من وسط الناس؛ أي من غير الشرفاء، وبث الجند في أرجاء العاصمة فاهتز لذلك أهلها اضطرابا، وخرجوا على الدولة ثائرين يرومون وقاية النواب، ويلتمسون الحرية والمساواة، واندفعوا كالسيل على قلعة المدينة فاقتلعوها من أيدي الجند منشدين:
ألا هيا بني الأوطان هيا
فوقت فخاركم لكم تهيا
أقيموا الراية العليا سويا
وشنوا غارة الهيجا مليا
عليكم بالصوارم يا أهالي
ونظم صفوفكم مثل اللآلي
فإما مات كهل في النزال
فإن الأرض تنبته صبيا
منيتم بالمقيم من العناء
فكان وجودكم عين الفناء
فموتوا إن طمعتم في البقاء
فمن أودى شهيدا عاد حيا
7
فانخلع بذلك قلب الأمير جزعا ورام الفرار والتماس النجاة فقبض عليه في فارين وأعيد إلى العاصمة أسيرا، ثم كان من أمر محاكمته وإهدار دمه ما يخرج بيانه عن حد مطلبنا؛ فإنا لم نجعله تاريخا لثورة الفرنسيس وإنما أتينا بذكرها مثلا وعبرة لقوم يذكرون. وليعلم الصابرون على العنف، الطامعون في النجاة من الخسف، كيف أدرك الناس من قبلهم هذه الغاية فانتقلوا من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العز، ومن الرق إلى الحرية، فارتفعت رءوسهم، وانبسطت نفوسهم، وصارت أوطانهم بغية المرتجي وعقوة الملتجي، لا يخاف نزيلها ضيما ولا يخشى دركا؛ إذ الشرقيون عموما والمصريون خصوصا بين أنياب الطامعين ومخالب الظالمين.
وإني لا أطمع الآن للمصريين في مثل هذه الحال، وإن خاضوا لها غمار الأخطار واقتحموا إليها الأهوال، فإن الطفرة محال، ولا أحثهم على الفتنة وإن كانوا كما تصور المتنبي حيث قال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وإنما أبين لهم أن النعمة لا تملك من غير تعب، وأن الغاية لا تدرك من غير طلب، وأن النجاة وقف على سبيل الهمة، وأن النجاح بإرادة الأمة لتظهر عليهم علائم القصد فتكون طليعة لجيوش العزم، فيعلم المستخفون بهم أنهم لا يزالون أحياء، وإن كانوا من ظلمهم في ظلمات القبور، فيقبضون عنهم أيدي الظلم، ولا يطمعون في بيع أولادهم من الأجنبي عبيدا يحفرون المعدن ويفلحون الأرض ويطوون الشراع، ولا يطعمون كراعا ولا يطمعون في باع.
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يرفع من شأن أوطاننا ما وضع السفهاء، وأن يحفظ من حقوق أهلها ما ضيع الخائنون. (عن كتاب «الدرر»، وهي خاتمة رسائله الأربع التي وجهها من باريس إلى الشرق بعنوان «نفثة مصدور»)
حسين باشا
مسألة الرقيق وإلغائه
1
إلى مسيو آموس بيري قنصل جنرال العصبة الأميركانية بحاضرة تونس:
أما بعد، فإنه شرفني مكتوبكم الذي مضمونه أنكم حيث كنتم بأرض كانت الحرية والعبودية بها متجاورتين وناميتين منذ مدة مديدة وصارتا الآن مشتبكتين في حرب شديدة لغاية قهر إحداهما الأخرى، ووجدتم في تاريخ تونس حوادث مهمة متعلقة بهذين المبدأين المتضادين، أردتم أن تعرفوا تأثير العبودية في بلادنا وهل أعقبت تأسفا من الأهلين على فقدها أو انشراحا بذلك، فطلبتم منا شرح ذلك وبيان ما أثبتت التجربة أصلحيته هل هو الخدمة الجبرية؛ أي خدمة العبيد بدون أجر، أم الخدمة الاختيارية بأجر معلوم، وأيهما أوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية؟ أما الجواب عما وجدتم في تاريخ بلادنا من تحرير العبيد ومنعنا لملك الآدمي في المستقبل بعد أن كان مباحا فسبب ذلك هو أن دولتنا، كسائر الدول الإسلامية كما تسمونها، دولة تيوكراتيك في المعنى؛ أي أحكامها جامعة بين الديانة والسياسة. والشريعة الإسلامية وإن أقرت الملكية (وقلنا أقرت لأن ملك الآدمي متقدم على الشرائع الثلاث؛ فقد كان حكم السارق في شرع يعقوب إسرائيل الله أن يسترق سنة بدل القطع في الشريعة المحمدية) إنما أباحتها بعد حصول سبب الملك بشروط وواجبات يعسر القيام بها؛ فإن منها عدم الإضرار بالمملوك حتى جعل الشارع الإضرار موجبا للعتق كما قال: أي مملوك مثل به فهو حر. ومع ذلك فلم تزل الشريعة تؤكد الوصايا بالعبيد حتى كان آخر كلام نبينا (
صلى الله عليه وسلم ): «الصلاة وما ملكت أيمانكم.» وكان يقول: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه فوق طاقته.» وكان عمر بن الخطاب الخليفة الثاني يذهب كل يوم إلى الموالي فكل عبد وجده في عمل لا يطيقه وضع عنه منه، وكذلك كان يخرج كل يوم سبت يفتقد الدواب فإذا وجد دابة في عمل شاق خفف عنها. ثم إن من القواعد الشرعية تشوف الشارع إلى الحرية حتى إن من أعتق جزء عبد لزمه عتق باقيه. وكان من مصارف الزكاة المحصورة في الأصناف الثمانية بنص القرآن فك الرقاب؛ قالوا بأن يشترى من مال الزكاة عبيد فيعتقون، كما أن من لزمه كفارة يمين أو قتل أو فطر أو إظهار فله التكفير بعتق رقبة؛ فلولا أن تحرير العبيد من المصالح المهمة لما ضيقت الشريعة به على الفقراء والمساكين. ومن آثار التشوف المذكورة كثرة ترغيب الشارع في العتق كقوله: «أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه في النار.» وتلك الشروط والواجبات حيث كان القيام بها عسيرا في زمن عنفوان شباب الدين فما ظنك به في زمن هرمه، لا سيما مع صنف السودان المباينين للبيض في الطبيعة الغريزية؛ فكثيرا ما يقع بين العبيد ومواليهم المشاجرة التي لا منشأ لها إلا التنافر الطبيعي، وذلك مما يفضي إلى مزيد من الإضرار بالعبيد وتجاوز الحدود الشرعية في حقهم. ولم يزل ذلك الأمر يتزايد حتى اقتضى نظر الدولة تحجير الاسترقاق من أصله لأنه لما تعذر الرفق بهم والإحسان إليهم على الوجه المطلوب شرعا لم يبق إلا الأمر ببيعها أو بعتقها، والأول لا يحصل به الغرض المقصود لما فيه من التسلسل وعود الضرر مع المشتري، فتعين الوجه الثاني. ومن ذلك الوقت بطلت ملكية العبيد عندنا دفعة وذلك في شهر المحرم سنة 1262 في مدة المرحوم المشير أحمد باشا باي. وأول ما خاطب به المجلس الشرعي في هذا الشأن قوله: أما بعد، فقد ثبت عندنا ثبوتا لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء المماليك السودان؛ ولذلك اقتضى نظرنا والحالة هذه، رفقا بأولئك المساكين، أن نمنع الناس من هذا المباح، وعندنا في ذلك مصالح سياسية، إلخ ... والمصالح المشار لها هنا يمكن شرحها بأمور كثيرة منها ما يقوله أهل الاقتصاد السياسي في أيامنا أن البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها بالاستقراء. وقد رأيت خطبة لبعض الأفاضل من أهل القلم بمملكتنا كتبها في ذلك الوقت يحث بها أهل المملكة على إجابة رئيس الدولة بالقلب والقالب يقول فيها: «فيا للنفوس الزكية، والقلوب التي بالشفقة حرية، شرعكم متشوف للحرية، ورق الآدمي بلية، والرب يقدر على عكس القضية.»
وأما الجواب عن تأثير العبودية وما أعقب فقدها في الأهلين فهو أن ملك الآدمي لما لم يكن من الأمور الضرورية ولا الحاجية في المعيشة لم يصعب العدول عنه ولم تجزع لفقده نفوس أهل مملكتنا. وكيف يتأسف المعتني بشئون الترف والكمال في الأحوال والعوائد على تحرير عبده وهو قادر على استرقاق الأحرار بالدرهم والدينار مع اعتقادهم الديني أنهم ينالون بعتق عبيدهم ثوابا من الله في الدار الآخرة؟ على أن ذلك وإن صعب في أول الأمر على بعض من الناس لرؤيتهم استخدام العبيد بدون أجر أيسر لهم وأربح من استخدام غيرهم بأجر أو لشح نفوسهم بالعتق إيثارا للعاجل على الآجل، إلا أن هؤلاء تسلوا من قريب لما أثبتت لهم التجربة أصلحية الخدمة الاختيارية دون الجبرية، كما أثبتها العقل أيضا، ورأى من عجز عن استخدام الحر بالأجر ممن كانوا يستخدمون العبيد رجوعه إلى الأمر الطبيعي والسيرة المستحسنة وهو أن يباشر الإنسان قضاء أوطاره اللازمة بنفسه ويقلل احتياجه إلى أبناء جنسه؛ فإن النفس إذا تعودت استخدام الغير قد يفضي بها ذلك إلى العجز عن أدنى الضروريات. والإنسان ابن عوائده ومألوفاته لا ابن طبيعته ومزاجه، وبذلك التعود تكثر شروط استمرار حياته، وما كثرت شروطه عز وجوده. وبالجملة فالناس في باب الخدمة على أربعة أصناف: إنسان يخدم نفسه بنفسه، ولا شك أن هذا يعمل ما يستطيعه في يومه ويجهد نفسه. والثاني يؤاجر نفسه لغيره طوعا، وهذا دون الأول في نتيجة العمل حيث لا يجهد نفسه. والثالث يعمل لغيره بلا أجر وهو مجبور، فذلك هو العبد المملوك، ولا غرو أن تكون نتيجة عمله دون الثاني بمراحل. والرابع الذي لا يعمل لنفسه ولا لغيره، وهو العبد البطال الذي يبغضه الله تعالى، ومن هذا الصنف الأخير الناس الذين يترفعون عن خدمة أنفسهم وقضاء أوطارهم استنكافا عن مزاحمة العبيد في أشغالهم. وقد ينفع في هذا القسم العلاج إذا رأوا من كان أرفع منهم يتعاطى تلك الأشغال التي أنكروا مباشرتها، وأيضا ربما نفع هذا التعاضد الكسالى إذا رأوا مع ذلك التفاتا وترغيبا وترهيبا من رعاتهم إذ لا يجدون محيصا عن المسير اقتداء بمن سار. والإنسان أقرب إلى خلال الخير منه إلى خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة؛ لأن الشر إنما جاءه من قبل القوة الحيوانية المركبة فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، فإذا وجد طبيبا ماهرا وداوى ما طرأ عليه من المرض فإنه يرجعه إلى أحسن تقويم وتجتمع الأيدي ويكثر التعاون وتتوفر بذلك أسباب العمران. ومن هذا يتبين لكم السر في كون البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها كما أشرنا إلى ذلك آنفا؛ ولا سبب لذلك إلا كون نتيجة فعل الإنسان المختار أربح وأبرك من نتيجة فعل العبد المجبور. وعندي أن عموم الحرية وانتفاء الملكية كما يؤثر في نمو العدوان يؤثر أيضا في تهذيب خلق الإنسان. أما تأثيره في نمو العمران فظاهر؛ إذ لا عمران إلا بعدل، والحرية نتيجة العدل، فإذا انعدمت جاء الظلم المؤذن بخراب العمران ونقصه بنقصها. وأما تأثيره في تهذيب الإنسان فإن تعميم الحرية يبعده عن الأخلاق الردية من الشراسة والتكبر والتجبر ونحوها التي لا تنفك في الغالب عمن يملك العبيد لما تعودوا به من الإمرة والترفع، وربما رأيتهم ينظرون الناس بالعين التي ينظرون بها عبيدهم لا سيما إذا رأوا إنسانا أسود فلا يرونه إلا كسائر الحيوانات العجم. وكنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبره الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود فما راعني إلا أن رأيت رجلا أميركانيا وثب وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخذ بثيابه قائلا ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا العبد السوداني بصالون؟ أي بيت نحن فيه، ومتى مكن العبيد من مجالسة السادات؟ فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول ولا علم لماذا يجول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك؛ فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند. وبينا هما كذلك إذ وافاهما أحد حفظة المحل وعرفه بأن لا فرق في حكمهم بين الجلود إلا بالجودة وإتقان الدبغ؛ فالحاصل أن ذلك الأسود المسكين لم تخلصه من أظفار ذلك الرجل محرمته البيضاء ولا فوانتواته الصفراء (أشار بالمحرمة والفوانتوات إلى ما اعتادته الإفرنج من التزين بذلك عند الذهاب إلى المحافل)، وإنما خلصه بياض الحق وعدل الحرية. وبالجملة فالأوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية هو عدم الملكية، ولا التفات لما عسى أن يستند إليه المخالف من أن بعض العبيد ندموا على خروجهم من بيوت سادتهم وطلبوا الرجوع إليها على شروط العبودية، إذ:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
على أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين خرجوا جافلين كما تخرج الدواب إذا انفلتت من مرابطها قبل الاستعداد إلى لوازم المعيشة والحرية. أما الآن بعد الاستعداد فهل ترى لهم أدنى ميل إلى العبودية؟ ندع هذا الاعتراض الساقط ونرجع إلى ما هو أهم منه فنقول: أنتم أيتها الأمة الأمريكانية إخوان الأمة التي قال فيها عمرو بن العاص صاحب نبينا (
صلى الله عليه وسلم ): إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. ولعمري لأنتم كما قال أمنع الناس من ظلم الملوك؛ حيث أنعم الله عليكم بتمام الحرية في أنفسكم وجعل سائر أموركم السياسية والمدنية بأيديكم، والبعض من غيركم يقنع بالحقوق المدنية لحماية النفس والعرض والمال فلا يجدها، فما ضركم لو تفضلتم على عبيدكم بما لا يؤثر وهنا في شوكتكم شكرا لربكم على ما خولكم من تلك النعم الجليلة؟ ثم أنتم من التمدن والحضارة بمراحل عن أن تقتدوا بمن يدورون وعيونهم مكنبلة على دائرة
إنا وجدنا آباءنا على أمة . واعلموا أن الشفقة والحنانة البشرية تدعوكم لأن تنبذوا من حريتكم الزيادات التي تسوءها وتكدرها وتلقوا بها البشر على شفاه أولئك العبيد المساكين. والله يحب من عباده الرحماء، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. هذا، وأرجوكم أيها القنصل الجنرال أن تعتقدوا غاية تكدرنا من حروبكم هذه الواقعة بينكم توجعا على النوع الإنساني، وغاية شفقتنا على أولئك العبيد المساكين، كما أرجوكم أن تعتقدوا خلوص مودتي لكم.
كتبه بيده الفانية الفقير إلى ربه تعالى حسين رئيس المجلس البلدي، تحريرا في أواخر جمادى الأولى سنة 1281 هجرية، الموافق لأواخر أكتوبر سنة 1863 مسيحية ... (عن «كنز الرغائب في منتخبات الجوائب »، الجزء السادس)
روحي الخالدي (1864-؟)1
فيكتور هوغو
نبغ فيكتور هوغو في عصر الانقلاب والتجدد وطال عمره وكثر عمله. وكان لقومه الحظ الأوفر من التقلبات السياسية والتبدلات الاجتماعية، واستوقفوا نحوهم أنظار العالم المتمدن بأسره، فكان هذا الشاعر لسان حال الأمة وترجمانها في كل انقلاب حدث فيها وتبدل طرأ عليها وغير حكومتها من ملكية مطلقة إلى جمهورية مفرطة، إلى إمبراطورية ديمقراطية، إلى ملكية مقيدة بقليل أو بكثير من القيود، إلى جمهورية ثانية، إلى إمبراطورية ثانية، ثم إلى جمهورية ثالثة؛ فهذه التقلبات هيجت الأفكار العمومية وكثرت الأحزاب السياسية ودعت إلى استماع قول الشاعر الحكيم والتمثل بأشعاره في نوادي السمر الأدبية والسياسية على اختلاف الآراء وتبدل المشارب. ومتى تحدث أهل العاصمة بأمر سارت الركبان بحديثهم إلى الولايات وأطراف المملكة، ثم فشا في الممالك المجاورة، وجسمه البعد في المخيلات فأصبح صداه في الخارج أشد من صوته في الداخل. وبعد أن استبد نابليون الثالث بالحكم مال لأبهة الملك وعظمة السلطنة وتفاخر بالصيت والشهرة، واشتد حرصه على السمعة في البلاد الأجنبية. وانتشرت اللغة الفرنساوية على عهده في أكثر الممالك المتمدنة وصارت اللسان الرسمي المتداول بين الدول في المناسبات الدبلوماتية وفي الاجتماعات السياسية والأدبية وفي قصور الملوك والأمراء وفي حفلاتهم وسهراتهم ومراقصهم وعلى موائد ضيافتهم وفي تحرير المراسلات والمعاهدات، كما أصبحت اللسان الرسمي في نظارة الخارجية العثمانية وفي كثير من دوائر الدولة العلية ومعاملاتها ولم تزل إلى يومنا هذا.
فلما اقترن اسم فيكتور هوغو باسم نابليون بسبب مدحه نابليون الأول وهجره نابليون الثالث، زاد شوق الناس للاطلاع على أشعاره وقصصه في داخل فرنسا وخارجها، وراجت بضاعته في الأدب فلم يدع بابا من أبواب الشعر إلا طرقه ولا مسألة إلا بحث فيها. ثم ساعدته الظروف بالانتصار على نابليون الثالث بعد حرب السبعين الألمانية وتشكل الجمهورية الثالثة فزاد ذلك في أهمية الشاعر وفي انتشار شعره، وبالغ رجال الجمهورية في الاحتفاء به والاحتفال له كاحتفال الإمبراطورية بشخص الإمبراطور.
أما السبب الثاني لشهرته فهو سهولة أشعاره ووضوحها وتصويرها المسائل العظيمة والأفكار الدقيقة؛ فأظهر بشعره فرحه وسروره بنعمة الحياة وابتهاجه بالمخلوقات، ورأى في أمنا الدنيا بقرة حلوبا تدر على أبنائها بلبن سائغ للشاربين ، وتكلم على أفراح العائلة وزينة البيوت بالأولاد ولذة اجتماع الأهل على المائدة ومحبة الوالدين وحنوهما، وحض على الإحسان للفقراء والمساكين والشفقة عليهم. وبين اعتقاده بالله الغفور الرحيم، ورجاءه بتقدم نوع الإنسان في الحضارة وبتحسن الحياة البشرية والمعيشة الإنسانية بسبب انتشار الأفكار الجديدة وتغلب الحق رويدا رويدا على القوة والنور على الظلمة حتى تتساوى الناس في الحقوق ويرتفع عنهم الضغط والاستبداد ويزول من بينهم الظلم والاستعباد وينتشر العدل ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ... فجميع ذلك مما يرغب الجمهور في تلاوة أشعاره وتعليمها للأولاد ونشرها في البيوت بين النساء والبنات. بخلاف أشعار المعري التي لا يذكر فيها إلا بخل أم دفر على بنيها بالحقوق ومبادرتهم لها بالعقوق، ولا يرى بقرة فيكتور هوغو تجود إلا بسم قطيب؛ أي ممزوج بحلاوة. ومع غنى المعري وثروته لم يلتذ بالمال والبنين ولا بشيء من زينة الحياة الدنيا، وزهد في أكل اللحوم وشرب المكيفات، وعمي بصره عن مشاهدة المناظر الطبيعية والرياض النضرة. وحيث كان لفيكتور هوغو اعتقاد ثابت في الله ورجاء كبير في حسن المستقبل وارتقاء الإنسان إلى دار السعادة، عرف وظيفة الشاعر وبين ما يترتب عليه وعلى كل عاقل مفكر في الأمر من نشر الحقائق بين قومه وأبناء لسانه، وزعم أن الشاعر ينبغي أن يكون رسولا للأمة ونورا يسعى بين يديها ليهديها الصراط المستقيم.
وفيكتور هوغو موحد اعترف في كثير من أشعاره باعتقاده بالله وحسن رجائه باليوم الآخر. واهتدى للتوحيد بنظره في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار كما اهتدى إبراهيم جد الأنبياء عليه وعليهم السلام:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .
وهكذا قال فيكتور هوغو لقومه: «إني بريء مما تعبدون.» فلم يكن مشركا بالله ولا كان منكرا جاحدا إنكار الشاعر فولتير وجحوده،
2
بل ربما كان حنيفا. والحنيف هو الذي يؤمن بالله ولا يتخذ شكلا مخصوصا للعبادة، وكان منهم أناس في جزيرة العرب قبل الإسلام مثل ورقة بن نوفل وغيره؛ فإذا أمعنا النظر في كلام فيكتور هوغو نراه من الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ونراه أيضا كثير البغض في الجبابرة المستبدين ويدعو الناس إلى عدم اتخاذ أرباب من دون الله.
قال الحكيم الفيلسوف إرنيست رينان عن فيكتور هوغو وعن فولتير: إنهما سارا من قطبين متخالفين ولم يتلاقيا إلا على محبة العدل والإنسانية.
والباعث الثالث على شهرة فيكتور هوغو هو كثرة عمله وغزارة معارفه، عدا معرفته بدقائق اللغة الفرنساوية، وبعلم القوافي والعروض والموسيقى، وما يلزم للشعر. وكان حكيما فيلسوفا يضع كل شيء في موضعه وكل معنى في قالبه. ولم يغب عن علمه شيء من التاريخ والجغرافيا وأسماء البلدان. وله اطلاع على العلوم الرياضية وجميع المسائل الاجتماعية وكليات القوانين البشرية والسياسية. وله اقتدار عجيب في التخيلات والتصورات والاختلافات. وإذا نظر في شيء تمكن من رؤيته بعين لم يتيسر لغيره من الشعراء الرؤية بها؛ فوقف على كنه الأشياء وحقيقتها وعلى جميع ما يعرض لها من الصور والأشكال والألوان وبقية الخواص الظاهرة والباطنة. وإذا ذكر إسبانيا مثلا لم يترك فيها مدينة إلا وصفها بالوصف اللائق بها سواء كان وصفا جغرافيا أو طبيعيا أو تاريخيا بالنظر لمن اشتهر فيها أو لما ينبت في أرضها أو لمرآها الطبيعي ومنظرها الخارجي، وذكر كذلك كثيرا من مدن فرنسا وإيطاليا. ... وكان له ولع بالأمور العظيمة والمقامات العالية والمناظر الواسعة والمعاني الدقيقة، فعرف لج البحر الذي لا يرى ساحله وبعد الفضاء الذي لا تدرك نهايته. وقلد أصوات الأشياء ووصف الجمادات وصفا يخال منه للقارئ أنها حية تنطق؛ ولذا قالوا: إن فيكتور هوغو أنطق الجماد ونفخ فيه بأساليبه الشعرية روح الحياة. وله ابتكارات بديعة وتشابيه ظريفة وتعبيرات لطيفة. ونجد لما ورد في كلامه من التشبيه والتخيل والبديع أمثالا كثيرة في الشعر العربي والأندلسي تكلم عليها الباقلاني في «إعجاز القرآن»، والجرجاني في «أسرار البلاغة» المطبوع في جريدة «المنار»، ومن سلك مسلكهما من علماء اللغة والبلاغة، ولكن فيكتور هوغو يفوق بسعة الاطلاع والإحاطة بالمسائل. وأكثر شعراء العرب انحصرت أقوالهم في الدائرة التي هم فيها فلم يخرجوا منها ولا تعدوا الأساليب التي وضعها شعراء الجاهلية. والذين خرجوا عن تلك الأساليب واتسعت مداركهم قليلون مثل المتنبي، والمعري الذي تكلم على كثير من المسائل الاجتماعية والسياسية، ونادى بالحرية والمساواة بين أفراد البشر، وبين ماهية الحق والعدل، وشرح كثيرا من المسائل الفلسفية، وأظهر شعوره وإحساسه بالوسط الذي ألقينا فيه فكان سجنا لنا لا خلاص منه إلا بالموت؛ فهو متحير في هذه العقدة التي أضلت الأدباء في حلها.
ثم إن أهل النقد الأدبي من بلغاء الإفرنج يقولون: نعم إن فيكتور هوغو أنطق الجماد وتوصل بأساليبه الشعرية إلى وصف المناظر الطبيعية وتصوير العصور الخالية والهيئة الاجتماعية بأحسن تصوير وأبدع وصف؛ فهذا لا ينكر، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة باطن القلب الإنساني ولا لإيجاد أوصاف تامة ولا حياة طبيعية للأشخاص الذين اختلقهم على مرسح التمثيل؛ ولذا لم يكن أوحد الأدباء في تأليف روايات الدرام؛ فهو وإن أنطق الجماد لكنه أخرس البليغ.
نعم، إن شارلكين في رواية إرناني
Hernani
هو بيت القصيد وهو من ملوك الكلام ولا ننكر فصاحته وبلاغته، وإنما عيبه عندنا هو عدم وجود الروح فيه؛ فهذه النفس الناطقة التي أرانا إياها الشاعر على مرسح اللعب والتشخيص هي نفس المؤلف أي نفس فيكتور هوغو وليست نفس المشبه به وهو شارلكين؛ فالحماسة التي أظهرها المؤلف في شعره ليست بطبيعية ولا هي حقيقية، بل هي عندية؛ أي من عند الشاعر، ولم تبن على الحجج والبراهين الأدبية التي اشترطها أصحاب الطريقة الحقيقية وسماها إميل زولا «دوكيمان»،
3
فأصحاب هذه الطريقة الجديدة يلومون فيكتور هوغو على تعظيمه الأمور ويشبهون قريحته بمرآة مكبرة تكبر الشيء المعكوس فيها وتجسمه تجسيما خارجا عن الحقيقة وعن العرف والعادة. ومن عادة فيكتور هوغو إرخاؤه العنان للقوة الواهمة والخيالية؛ ولذا نجد في مؤلفاته مثل «كازيمودو» ومثل «الرجل الضاحك» من الأشخاص الموهومة التي لا توجد إلا في كتاب «ألف ليلة وليلة» وما كان على نسقه.
ومما انتقد فيه على فيكتور هوغو من جهة الأخلاق تبدل رأيه السياسي وتقلبه فيه ذات اليمين إلى ذات الشمال ومن حزب الملكية إلى حزب الجمهورية. ورأينا جوابه على هذا الاعتراض بقوله: إن مدحنا الرجل بالثبات على رأي واحد في السياسة مدة طويلة ليس بمدح مستحسن، وإنما هو كمدحنا الماء الراكد وتفضيلنا إياه على الماء الجاري. والجواب الصحيح على هذا الاعتراض أن فيكتور هوغو مع ظهور معجزاته في المعاني ما هو إلا بشر غير معصوم تميل نفسه إلى شهواتها التي منها التقرب من الملوك وأولي الأمر، ولكنا نجده محافظا على الاعتدال في أمر الشهوات النفسية صبورا متجلدا عند الحاجة. وبينما نرى أمثاله وأقرانه من أدباء باريس لا يقنع أحدهم بعشر نسوة نجده اقتصر هو على اثنتين: أم أولاده، والممثلة البارعة جوليت. ومن غريب أمر هذا الشاعر أنه خالف القاعدة المطردة في عظماء الرجال، فكان في شبابه من حزب الملكيين المحافظين على بقاء الحال على ما كانت عليه، فانقلب من ذلك رويدا رويدا حتى صار في شيخوخته من حزب المفرطين في محبة الحرية المائلين للانقلاب والارتقاء الشديد العداوة للاستبداد والمستبدين. وهذا خلاف المطرد في أخلاق الرجال فإنهم كلما تقدموا في السن عدلوا عن حب التجدد والانقلاب والحرية ومالوا للبقاء على حالتهم الراهنة. (عن كتاب «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب»)
المطران يوسف الدبس (1833-1907)
(1) من حوادث سوريا أيام السلطان عبد الحميد الأول
إن السلطان مصطفى الثالث توفي سنة 1774 وخلفه أخوه السلطان عبد الحميد الأول. ومما كان في أيامه بسوريا أنه لما كان الجزار قد نصب واليا على صيدا سنة 1776، خاف الأمير يوسف حاكم لبنان لما كان بينهما من العداوة، وأسر بالأمر لحسن باشا المكلف بإصلاح شئون سوريا فأجابه: «كن آمنا فإذا رجعت إلى الآستانة عزلته.» وطلب منه أن يدفع له ماية ألف قرش كانت باقية عليه من المال الأميري، فوضع الأمير يوسف يده على ريع عقارات تخص الحكومة كانت بيد أقربائه، فثار الأمراء عليه ونهضوا إلى البقاع، فحشد الأمير رجالا سار بهم ففروا من وجهه، واسترضاه الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا عنهم، وبقي أخواه الأميران: سيد أحمد وأفندي،
1
يحزبان عليه، فاضطر الأمير أن يرد عليهما إقطاعهما.
وسافر حسن باشا إلى الآستانة، ونهض الجزار بعسكر من صيدا إلى بيروت فاستحوذ عليها وضبط أملاك الشهابيين بها، وشدد على الأمير يوسف بطلب الأموال عن ثلاث سنين ماضية، فكتب الأمير إلى حسن باشا وكان قد بلغ إلى قبرص فعاد وأخرج الجزار من بيروت وطيب قلب الأمير. وبينما كان فرسان الجزار راجعين إلى صيدا أكمن لهم المشايخ النكدية في السعديات بقرب الدامور، فاندفع الفرسان عليهم وقتلوا منهم كثيرين وأسروا شيخين منهم. وكتب الأمير يوسف إلى الجزار معتذرا بأن ذلك لم يكن بعلمه، والتمس إطلاق الشيخين، وجعل له فدية عن ذلك ماية ألف قرش، فأجابه الجزار إلى ذلك. ووزع الأمير المبلغ على البلاد فأبى الأمراء اللمعيون دفع ما نابهم منه، فالتمس الأمير من الجزار إرغامهم على الدفع فأرسل عسكرا على المتن فأحرق المكلس والدكواني والجديدة وقتل جماعة، ثم دهم الشويفات فصده رجالها، فقفل إلى بيروت، ثم سار إلى صيدا وخرج منها بعسكر إلى البقاع وضبط كل ما بها للبنانيين من الغلات، فاتفق حينئذ الأمير يوسف مع الأمراء اللمعيين وجمع منهم عسكرا زحف بهم إلى المغيثة وكان بين الفريقين وقعات كان النصر فيها لعساكر الجزار ...
وفي سنة 1782 أحدث الأمير يوسف
2
ضريبة على التوت سموها البزرية، فأثار أخواه
3
الجنبلاطية عليه وجمعوا حشدا وساروا به إلى قرب دير القمر قاصدين طرده وقتل مدبره سعد الخوري، فوعد الأمير بإبطال الضريبة ، فانفض الحشد، واستمر الأميران والجنبلاطية على عزمهم. وفي سنة 1783 اجتمعوا في دار الأمير أفندي ليلا ليمضوا إلى كنيسة التلة ليقسموا على اتفاقهم على طرد الأمير وقتل مدبره. وعرف الأمير ذلك فأكمن لهم المغاربة في طريقهم فقبضوا على الأمير أفندي وفر الأمير سيد أحمد. ولما رأى الأمير يوسف أخاه (أفندي) حملته سورة غضب فقتل أخاه بيده.
وأما الأمير سيد أحمد فاتفق مع الشيخ حسن جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد على خلع الأمير يوسف، فخاف الأمير يوسف وأسرع إلى الجزار ووعده بثلاثماية ألف قرش فولاه وأرسل معه عسكرا قام به إلى إقليم الخروب، وحشد الأمير سيد أحمد عسكرا وأرسله مع ابن أخيه الأمير قعدان. والتقى الجيشان بعانوت فانكسر عسكر الأمير قعدان وهو نجا منهزما. وارتاع الأمير سيد أحمد ففر ومعه الشيخ قاسم جنبلاط إلى صليما عند الأمير إسماعيل اللمعي، فضبط الأمير يوسف أملاكهم وهدم مساكنهم. والتجأ الأمير سيد أحمد إلى محمد باشا العظم والي دمشق فولاه على وادي التيم والبقاع وأصحبه بعسكر، وأتى معه الجنبلاطية إلى قب الياس. والتقاهم الأمير فكانت الحرب بينهم ثلاثة أيام، فانهزم الأمير سيد أحمد والجنبلاطية إلى الزبداني، وعاد الأمير يوسف إلى دير القمر وأخذ يصادر محاربي أخيه، ثم تدخل الأمير إسماعيل خال الأمير يوسف بالصلح بينهم وبين ابن أخيه، فرضي الأمير يوسف عنهم بشرط أن يدفعوا ماية وخمسين ألف قرش فدفعوها. وعادوا إلى وطنهم، وأمر الأمير يوسف الأمير سيد أحمد أن يسكن بالشويفات فأطاعه. (2) الثورة على الأمير بشير والجزار سنة 1790-1791
توفي السلطان عبد الحميد الأول سنة 1789 وخلفه السلطان سليم الثالث.
ومما كان في أيامه بسوريا أن الأمير يوسف كتب إلى الجزار يستأذنه بالحضور إلى عكا، فأذنه، فدخل عليه وفي عنقه منديل الخضوع فأمنه وأكرمه وأقام عنده خمسة أشهر. وفي سنة 1790 خلع عليه خلع الولاية على لبنان بعد أن تعهد له بدفع ستماية ألف قرش، ورهن عنده على ذلك ابنه الأمير حسينا ومدبره الشيخ غندور الخوري،
4
واتخذ فارس الشدياق مدبرا عوضا عن غندور، فقام الأمير بشير
5
إلى نيحا ثم إلى عكا وتعهد للجزار بدفع زيادة على ما دفع الأمير يوسف فأنعم عليه بخلعة الولاية على لبنان، وأمر أن يلقى الأمير يوسف بالسجن ومعه عشرة من خدمه من بيت الدحداح وسمعان والبيطار وفارس الشدياق. وأمر الأمير بشير أن يسرع إلى دير القمر ويأخذ معه الأمير حسينا ابن الأمير يوسف. ولما وصل إلى دير القمر قبض على كل من وجده من محازبي الأمير يوسف وأودعهم السجن، ووجه جباة يجمعون المال، فاجتمع الأمراء اللمعيون ووجوه المتن في مأتم الأمير محمد اللمعي وائتمروا على الأمير بشير واختاروا مكانه الأميرين حيدر ملحم وابن أخيه قعدان، وبثوا إلى وجوه البلاد ما عزموا عليه، وطردوا جباة المال، فجمع الأمير بشير رجاله وسار إلى عين داره. واجتمع المتنية في حمانا، وسار الأمير حيدر ملحم إلى عبيه واتفق مع ابن أخيه الأمير قعدان وضوى إليها بعض المشايخ النكدية والعمادية. وخاف الأمير بشير أن يسبقاه إلى دير القمر فأسرع إليها، وأرسل الجزار ألفا من الأرناءوط إلى حرش بيروت، فخاف الأمير حيدر ملحم وقام إلى العبادية واتفق المتنية. وأرسل الأمير بشير رجالا لمساعدة عسكر الجزار، فكانت بينهم وبين المتنيين وقعات انهزم بها المتنيون وقتل منهم خلق كثير، وكتب الأمير بشير إلى الجزار يخبره وينسب هذه الثورة إلى الأمير يوسف. وكان الجزار في طريق الحج فغضب وكتب إلى نائبه في عكا أن يشنق الأمير يوسف ومدبره غندور الخوري، ثم خمد غضبه وكتب إلى نائبه أن يتوقف عن شنقهما. وبلغ الأمر الثاني قبل الأول فأخفاه النائب بإشارة من ابن السكروج لأنه كان عدوا للشيخ غندور وأخذهما إلى المشنقة، فشنق الأمير يوسف، وأما الشيخ غندور فمات خوفا، وقيل شنقا.
إن قتل الأمير يوسف والشيخ غندور لم يخمد الثورة التي ابتدأت في المتن على الأمير بشير. وعند رجوع الجزار من الحج أسف على قتل الأمير يوسف وأمر بقتل ابن السكروج. والتمس الأمير بشير منه إطلاق المسجونين من أتباع الأمير يوسف وكفلهم، فأطلقوا. وكتب الجزار إلى والي دمشق أن يرسل عسكرا لمساعدة الأمير بشير ، وأرسل هو عسكرا إلى البقاع، وأمر الأرناءوط الذين كانوا في حرش بيروت أن يحضروا إلى صيدا. ولما شعر النكدية بمرورهم التقوهم بالسعديات وقتلوا منهم نحو مايتي رجل، فكتب الجزار إلى قائدي عسكريه في صيدا والبقاع أن ينهضا بالعساكر إلى المتن. وسار الأمير بشير بعسكر من صيدا، وأظهر حينئذ العصيان أهل الغرب والشحار والجرد وأهل دير القمر أيضا وتجمعوا وأكمنوا للأمير عند صحراء الشويفات، لكنهم اندحروا وقتل منهم نحو عشرون رجلا.
وكانت بعد ذلك؛ أي سنة 1790 وسنة 1791، سلسلة حروب متصلة في ساحل بيروت والبقاع وحاصبيا وإقليم الخروب والشوف، وكانت النهاية أن الجزار لما رأى أن عساكره لا تستطيع أن تكره اللبنانيين على طاعته كتب للأمير بشير أن يرجع بالعساكر إلى عكا فرجعوا، وأمر الأمير أن يقيم بصيدا وجعل له نفقة كافية. وكان الأميران حيدر ملحم وقعدان أقاما في دير القمر حاكمين فصرفا أهل البلاد كلا إلى محله لكنهم بطروا وتمردوا وسطا بعضهم على أهل الساحل وبيروت فأقفل المسلمون أبواب المدينة على من كان فيها من الجبل وقتلوا ستين رجلا، فرفع أعيان البلاد عريضة للجزار التمسوا فيها الصفح وأن يولي عليهم الأميرين حيدر وقعدان وتعهدوا بدفع الأموال مع زيادة أربعة آلاف كيس عليها، وبعد التوثق على ذلك أرسل إليهما الخلع وأمر بحجز الأمير بشير بصيدا وأخاه الأمير حسنا ببيروت. (3) الثورة على أولاد الأمير يوسف سنة 1800
كان ابنا الأمير يوسف قد عجزا عن جمع المال المطلوب للجزار فأنفذ ألف فارس لجباية المال من البقاع وألح بطلب المال كاملا مع مطالب أخرى، فأرسل الأميران محصلين لجمعها، فهاج أهل البلاد وطرد المتنيون المحصلين، وأرسل الجزار الأرناءوط إليهم، فاستعدوا لقتالهم وأجمعوا على إعادة الأمير بشير إلى الولاية، ووافقهم أكثر أعيان البلاد فأرسلوا ثلاثماية رجل إلى الحصن يستدعون الأمير بشير فعاد معهم إلى لبنان، فاضطرب الأميران وأسرع جرجس باز إلى الجزار فجهز ألفي مقاتل من الأرناءوط ووعده بإرسال عسكر من الفرسان. وقام الأمير بشير إلى حمانا فالتقاه الجميع بالسرور واتحد معه أكثر الأمراء اللمعيين، فنهض إلى الباروك ثم كفرنبرخ، ووصل جرجس باز بالأرناءوط إلى دير القمر، وقل أصحاب أولاد الأمير يوسف فأقنع بعضهم جرجس باز بعقد الصلح على أن يتولى الأميران بلاد جبيل ويتولى الأمير بشير باقي البلاد، فرضي بذلك وقام الأمير حسين بعسكر الجزار إلى ساحل بيروت ودخل الأمير بشير دير القمر.
على أن جرجس باز عدل عن الصلح وجرت وقعات كان النصر في آخرها للأمير، فأذعن جرجس باز وعقد الصلح بشروطه المار ذكرها. ولما علم الجزار بما كان تمزق غيظا، وكان ذلك سنة 1800. (4) عامية أنطلياس السنة 1820
وفي سنة 1820 طلب الوزير
6
مبلغا لم يتيسر للأمير دفعه للحال، ووجه المعلم بطرس كرامة يعتذر له. فحنق الوزير وأمر بتوجيه عسكر إلى حدود ولاية الأمير، وأمر متسلمي صيدا وبيروت أن يقبضا على من يجدانه من اللبنانيين، فقبض متسلم بيروت على مائة وثلاثين لبنانيا، ومتسلم صيدا على أربعين منهم، فأرسل الأمير يعتذر للباشا ويستعطفه، فأمر بأن يتعهد الأمير بألفي كيس يدفعها بعد مضي شهرين، فتعهد بذلك، وأمر الوزير بإطلاق اللبنانيين وأرسل إلى الأمير خلع الولاية.
وأرسل الأمير جباة لجمع المال فهاج أهل المتن وأبوا دفع المطلوب وكاتبوا أهل كسروان أن يحذوا حذوهم فأجابوهم إلى ذلك. واجتمع الفريقان بأنطلياس وأقسموا ألا يدفعوا إلا بحسب العادة، وأتاهم الشيخ فضل الخازن فجعلوه شيخا للعامية المعروفة بعامية أنطلياس. وكتبوا إلى عبد الله باشا أن ظلم الأمير بشير إنما هو الذي أوجد الهياج في البلاد، فأجابهم ألا يدفعوا إلا بحسب عادتهم. وأرسل الأمير يحذرهم وينذرهم فلم يرعووا، فكتب إلى الوزير: إني عجزت عن الولاية وتركت بلادي منتظرا أن يصفو خاطركم علي. فوجه الوزير بعض مشايخ الدروز وأصحبهم بسبعمائة مقاتل وأرسل معهم خلعة الولاية إلى الأمير حسن علي والأمير سلمان سيد أحمد الشهابيين.
فنهض الأمير بشير بأولاده وخدمه إلى حمانا فأقسم له الأمراء اللمعيون أنهم لا يقبلون واليا غيره، ثم نهض إلى قب الياس ثم إلى وادي التيم. وسار الأمير سلمان بالعسكر إلى وادي التيم مصحوبا بأمر من عبد الله باشا إلى أمراء حاصبيا وراشيا ألا يقبلوا الأمير بشير، فنهض الأمير إلى حوران. وضبط الأمير سليمان أملاك الأمير بشير وأصحابه، فكتب الأمير بشير إلى عبد الله يستعطفه فأجابه: لو لم تترك الولاية لما وليت غيرك، فأسرع الآن إلى عكا. فأجابه الأمير: أرجو أن تأذن لي بالإقامة ببلاد جبيل، وكنت أود أن أتشرف الآن برحابك ولكن لم أتمكن من ترك أتباعي ولا من إحضارهم معي. فأذن له بالإقامة ببلاد جبيل وطلبه أن يحضر إلى عكا بنفسه. وكان الأميران حسن وسلمان قد تعهدا لعبد الله باشا بدفع ألفين ومايتي كيس.
ولما وصل الأمير بشير إلى شفا عمرو استأذن الوزير أن يحضر لديه، فأجابه أن حضوره إلى عكا وقتئذ يؤخر دفع ما تعهد به الأميران وخيره بمكان إقامته، فاختار جزين وحضر إليها، فالتقاه الناس بالتجلة. وأرسل الأميران يجبيان المال الذي تعهدا به فطرد الجباة من المتن وكسروان وبلاد جبيل، وتقاطر مشايخ البلاد وأعيانها إلى الأمير بشير، فطلب الأميران من مشايخ العقل أن يتوسطوا للصلح بينهم وبين الأمير بشير، فتم الاتفاق أن الأميرين يتنازلان عن الولاية وأن الأمير بشير يأخذها، فعهد الوزير إليه بها مدة حياته فتليت الأوامر بها بكل احتفاء. (5) عامية لحفد السنة 1821
إن الأميرين حسن وسلمان رفعا عريضة إلى عبد الله باشا يبديان خوفهما من الأمير، فأمر بشنق رسولهما، ثم سار الأمير بشير إلى بلاد جبيل وطلب الأمير سلمان أن يكون بخدمته، فأبى.
فكتب الأمير حسن إلى الأمير سلمان واستغواه أن يمالئ الجبيليين الثائرين على الأمير بشير، فانقاد لرأيه، وقام الأمير إلى غرفين إحدى قرى جبيل، وكان أهل تلك الجهة مجتمعين بشامات، فبقي الأمير سائرا إلى لحفد.
فاجتمع في حاقل أهل بلاد جبيل والبترون وبعض من كسروان، وأتى رجال جبة بشري إلى إهمج وجمهور المتاولة في رام مشمش، وأرسلوا يقولون للأمير إنهم لا يدفعون إلا مالا واحدا وجزية واحدة. وكان الأميران حسن وسلمان يجسرانهم، فأرسل يقول لهم: أرتضي بمال واحد. وهم يجمعون المال ويوردونه له. وقبل عودة الرسول ظهر نحو ألفي رجل من جهة ميفوق وظهر أمامهم من الجنوب جماعة من المتاولة وأخذوا يطلقون الرصاص، والأمير لا يسمح بالقتال إلى أن أصيب أحد رجاله، فثار بعض العسكر واقتحموا أولئك الرجال وتبعهم الفرسان وأطبقوا عليهم وأعملوا فيهم السلاح وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلا فانهزموا ... وألقى بعضهم أنفسهم من شاهق إلى أسفل، وأسر منهم كثيرون، فعفا الأمير عنهم، وقتل من عسكر الأمير تسعة رجال.
وقام هو في اليوم التالي إلى عمشيت فتعرضوا له في غرفين فأرسل إليهم عشرين فارسا يناوشونهم القتال وانكسروا أمامهم ليلحقوهم، فلم يجسروا أن يلحقوهم، فسار الأمير إلى عمشيت ثم جبيل ... (عن كتاب «موجز تاريخ سوريا»، الجزء الثاني)
ولي الدين يكن (1873-1931)
البلبل «بطل الحرية»
وفيما دكران يفكر، إذا صوت تسامى إليه في سكون الليل متنقلا على أثناء الظلم، أحسن إيقاع بأشجى ترجيع، فكان البلبل.
البلبل والربيع كالمغني والمهرجان، وإنما يشتد تلازمهما في مآلف لا يتعديانها إلى غيرها، وأحب تلك المآلف إليهما هي فروق.
إذا تراءت الربى في مجاسد الخصب وبدت أنماطها وحواشيها مطرزة ومعلمة، منمقة بمحاسن الزهر في اختلاف أشكاله وألوانه، وارتفعت التلاع في منخفض الوهاد كالمضارب، وصفت قبالتها طوائف السرح والسرو كالحواشي والجنود أقبلت لتحتشد عند ملك عظيم، وانسلت الأنهار في الأودية كالزئبق، وسرت النسائم بين الصدور والأرجاء بزفير أو أريج، انطلق البلبل من عشه، وملأ الفضاء تطريبا.
بالعشيات أو بالبكور، في الروضة الغناء أو الوادي الممرع، على الأثلاث أو تحت الشبائك، عند اعتلاق الأنداء بالفضاء بين السماء والثرى.
جناحاه في خفوق وسكون، وريشه في تجعد واستواء. يتنقل بين الأوراق الخضر والأغصان الهيف راقصا معربدا. كلما طرب لنغمة جاوبها مجاراة، وكلما استنكر صوتا صمت عنه مداراة. وهو مع كل حالاته شاعر الطبيعة، بديهاته طوعه وخواطره معه، لا يتصنع ولا يتكلف، يقيم الأوزان ويسدد القوافي بغير كد وبغير تعنت. يترفع عن تمليق الملوك والزلفة عند الكرام. ينسب ويتشبب، ويبكي ويستبكي، غناؤه أنين، وشعره روح.
ربيب الجمال وتبيعه، يروى بماء المزن ويثمل بشذا ما تنشر الخمائل، شجي معنى، تهيجه الذكريات، وتميته الحسرات، حليف الوجد وهو أبعد المخلوقات عن حمله. يريك لسانا كريشة الكاتب، يقطر لوعة، ويتحرك حزنا، وعينين مروعتين بحوادث الليالي تلمعان على أحسن رأس ركب على أحسن عنق إلى جثمان كالقلب بل هو أصغر وأوهن.
ليت شعري ما تضمنت تلك الضلوع الضعاف، وما يهيج تلك الروح المروعة.
أكلف بالحرية؟ أجل، كلف بالحرية. هو مجنونها ومعذبها ومدللها، بل هو على ضعفه وصغره بطلها. ما أودع قفصا إلا ومات فيه غما أو انتحر يأسا. يرنو إلى ملك الله في سعته ويتملى من محاسنه، بعيدا عنها، محجوزا دون الجولان بينها، فيفنيه ذلك أسى ولا يستشفي عنه بصبر ولا جلد. آه من البلبل وآه على البلبل!
فرح أنطون (1874-1922)
من مذكرات مفكر حر أيام عبد الحميد
علمت في زمن الصبا وأنا في سوريا بأن إسكندر ديماس الأكبر كتب رواية في الثورة الفرنسوية، فاهتديت إليها. وما شرعت في مطالعتها حتى سباني موضوعها وأسلوبها لا لأمر ما سوى شيء من المشاركة بين بعض حوادثها وحوادث السياسة في البلاد العثمانية في ذلك الزمن. وكانت سكينة كسكينة المقابر تخيم يومئذ على البلاد والعباد، والجرائد السورية لا تنشر شيئا «يخدش الأذهان» لأن المراقبة كانت لها بالمرصاد، والصحافة المصرية على قلتها يومئذ قليلة الانتشار في سوريا، فقلما كان للمطلع مصادر يستقي منها غير المصادر التي يختارها ويسعى إليها؛ ففي وسط هدوء كذلك الهدوء، وخمول كذلك الخمول، أحسست بأن عبارات ديماس في روايته هذه كانت كبروق تسطع وتشق جو الفكر، أو أسواط تقرع الآذان وتنبه العزائم والأذهان. وقد يكون اليوم لعبارات كتلك العبارات تأثير كذلك التأثير في نفوس الرجال الذين اشتدت سواعدهم وقويت ألواحهم حتى بعد زوال الضغط القديم ومشاهدتهم حوادث يومية كحوادث تلك الرواية، فكيف بتأثيرها في فتى صغير السن قليل الخبرة والاطلاع.
ولذلك أولعت بهذه الرواية ولعا شديدا دون سائر روايات ديماس. ولا أتذكر أنني قرأت رواية له غيرها قراءة جدية. وكم من مرة قضيت في مطالعتها الليل حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا، ثم انحدرت بها من فراشي إلى حفرة في الحديقة كنت أدفن فيها صندوقا صغيرا يحتوي الكتب والأوراق التي أخشى عليها من عمال الحكومة خوفا من التفتيش الفجائي الذي كان شائعا؛ فكنت أضعها في الصندوق بين تلك الكتب والأوراق وأعيد التراب على الصندوق ثم أنام مطمئنا.
وقد تكون هذه التفاصيل تافهة في ذاتها، ولكني لم أذكرها إلا لسبب سترد الإشارة إليه. على أن ولوع المرء بكتاب أو رواية سبب كاف في حمله على اشتراك قرائه فيما أحبه منها، حينما يتخذ الكتابة صناعة له، وهذا ما جعلني أفكر في تعريب هذه الرواية وإلحاقها ب «الجامعة»
1
حين رأيت إلحاقها برواية. وهناك أيضا سببان آخران: الأول: تلذذي يومئذ ب «مضايقة» مراقبي الجرائد والمجلات في البلاد العثمانية جزاء لهم على ما عانيته بسببهم من الحذر والاتقاء والاحتراس في أثناء مطالعاتي الأولى. والثاني، وهو السبب الوجيه: رغبتي في إيقاد تصورات أبناء الشرق بهذه الرواية كما اتقدت تصوراتي بها في صباي. وقد خيل إلي أنني بتعريبها في أثناء ذلك السكون التام والخمول الشامل أفتح في ذلك البناء القديم نوافذ مطلة على سماء الحرية ليرد منها النور والهواء، وأنصب أمام قرائها مثالا يحتذونه، قمته تحيط بها زرقة السماء وقاعدته مغموسة في الدماء. وقد يكون هنالك سبب أوجه من جميع تلك الأسباب التي تقدمت، وهو الداء الذي يقع فيه كثيرون من الصحافيين والكتاب، وأعني به: الرغبة في اجتذاب القراء بالمواضيع الجذابة. ولكن ليس من مصلحة الكاتب أن يعترف مثل هذا الاعتراف ويسجل هذا الكلام على نفسه لأن صناعة الكاتب كصناعة الكهنوت فيها كثير من الأسرار.
وقد شرفت الحكومة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد هذه الرواية حين الشروع في نشرها في «الجامعة» ببضع تلغرافات كانت تبعث بها إلى الولايات السورية كلما صدر جزء من «الجامعة» وفيه جزء من الرواية. ولما كانت أجزاء «الجامعة» يبعث بها (مضمونة) في البريد الفرنسوي فقد كان البريد الفرنسوي يعيد إلى إدارة «الجامعة» الأجزاء المرسلة إلى داخلية البلاد العثمانية والتي تسبقها إلى الثغور السورية تلغرافات الآستانة، بينما كانت الأجزاء التي تسبق تلك التلغرافات إلى الثغور تمر وتصل إلى أصحابها في الداخلية دون ممانع. ولما تحققت أن كل الضرر وارد من اطلاع قلم المطبوعات بالآستانة على «الجامعة» قطعت «الجامعة» عن قلم المطبوعات في الآستانة والنظارات قطعا مطلقا، حتى عن مشتركيها في الآستانة، فبطل إرسال التلغرافات مدة من الزمن. وقد ظننت أنني بقطعي «الجامعة» عن الآستانة قد وجدت دواء الداء، وما كنت أدري أن داء الآستانة يومئذ داء لم يكن له دواء قبل قيام شوكت باشا وجيشه؛ فإن حكومة الآستانة لم تلبث أن أمرت بمنع دخول مجلة «الجامعة» إلى البلاد العثمانية بسبب نشرها هذه الرواية على الأخص.
وقد انقضى الآن عشر سنوات على نشري هذه الرواية قضيت منها 4 سنوات في جهات أوروبا والولايات المتحدة وكندا. وعند وصولي إلى باريز، لأول مرة في حياتي، كان أول ما عملته أنني زرت أشهر الأماكن التي وقعت فيها وقائع هذه الرواية كالتويلري والمجلس البلدي وفرسايل، وساحة الباستيل التي ليس فيها اليوم من آثار الباستيل شيء سوى تذكار نصب في وسط ذلك المكان يذكر الناس بهجوم الشعب على الباستيل وإظهاره لأول مرة قوته على قوة الملكية. والمكان اليوم ساحة متسعة تحيط بها القهاوي، وكأن أرضه في ظلام الليل ونور النهار لهدوئها وقلة الزحام فيها كائن تعب لحمله ثقلا هائلا عدة قرون جلس يستريح ويتنفس الصعداء لخلاصه من ذلك الثقل الهائل الذي كان فوقه كصخرة هائلة ملقاة على قلبه، أو «كوحش هائل رابض على قارعة الطريق يفترس الناس» كما قال ديماس. وقد وقفت غير مرة في ذلك المكان وأخذت أقول وأنا أجول في أنحاء تلك الساحة الهادئة: هنا كان سجن الفكر والقلم والعقل، هنا كان مدفن الكتاب والفلاسفة والساسة من معارضي الحكومة، دفنوا فيه أحياء ولكنهم ما لبثوا أن تمطوا وهم في مدفنهم فرفعوا عنهم بقوة الفكر الذي لا يسجن حجارة القبر ونبذوا الأكفان وفتحوا جميع قبور الاستعباد لجميع المدفونين وأخرجوهم إلى نور السماء! هنا كان أول ما سطع نور الله على الأرض وأنار طريق الشعوب وفتح السبل في وجهها بعد أن كانت مسدودة! هنا كانت أول واقعة فاصلة بين حق الشعب وحق الملك فصرع الأول الثاني! هنا كان مولد الديمقراطية مدفن الأوتوقراطية والأرستقراطية! هنا كان مهبط رسالة جديدة للبشر كرسالة أحمد يصونها سيف ماض كسيفه! هنا كان مزود بيت لحم الثاني الذي ولد فيه المسيح الثاني ولكنه «عمد» بالسيف والنار والدماء لا بماء الأردن! هنا ظهر الله يوما ظهورا أجلى من ظهوره على جبل سينا أو عليقة موسى! هذه هي الأفكار الشائعة بين الجمهور في شأن الثورة الفرنسوية ومبادئها. وقد تغذى في صباي لحمي ودمي من هذه المبادئ، وقرأت «تاريخ تييرس وميشله» وشيئا من «تاريخ كارليل» في شأنها حتى أصبحت أحرم على نفسي رشقي لها ولو بوردة حتى في المبادئ التي بطل اعتقادي بها ... (مقطع من مقدمة فرح أنطون لرواية «ديماس» التي عربها عن الثورة)
مصطفى كامل باشا (1874-1908)
(1) اشتراك الشعب في حكم نفسه سبب الرقي
من الشعوب من يسلم زمام أموره إلى حكومته ويجري طوع إرادتها، ومنها من يجعل للحكومة حدا في السلطة والنفوذ ويراقبها مراقبة شديدة إن أحسنت كافأها وإن أساءت قضى عليها؛ فشعوب الشرق من النوع الأول، وشعوب الغرب من النوع الثاني؛ ولذلك كان الشرق في تأخر وانحطاط، وكان الغرب في تقدم وارتقاء؛ لأن الشعب هو في الحقيقة صاحب البلاد وسيدها وحارس الوطن من كل الأخطار، وما الحكومة إلا وكيل عنه تختار من نخبة أبنائه ومن أشدهم حرصا على مصالحهم. (2) إن الشعب هو القوة الوحيدة الحقيقية
على أننا لو تأملنا قليلا إلى ما أقيم في هذه البلاد من عظائم الأعمال، لوجدنا أن الشعب هو المنشئ له والموجد لكيانه؛ فهؤلاء الأفراد الصغار الذي لا يعبأ بهم الكبراء والعظماء هم في الحقيقة قوام مصر ومصدر نعمتها ولولاهم ما عرفنا العيش أبدا. من المؤلف للجيش؟ أفراد الشعب. ومن المكون للشرطة وحفظ النظام؟ أفراد الشعب. ومن الموجد لمحصولات مصر وخيراتها؟ أفراد الشعب. ومن يعيش العظماء والكبراء والأمراء؟ أفراد الشعب؛ فهم دون غيرهم قوام الوطن ومصدر خيره ومجده وسعادته، فكيف يجحف بحقوقهم؟ وكيف يهانون؟ ألا ترى أن العظماء إنما هم كذلك لأن أفراد الشعب يحملونهم فوق رءوسهم ويطيعون أوامرهم؟ وإلا فلو تحول الشعب ضدهم فماذا يفعلون؟ وهل يستطيعون مقاومته أو يقدرون على الوقوف أمامه؟ كلا ثم كلا! إن الشعب هو القوة الوحيدة الحقيقية، وهو السلطان الذي يخضع لإرادته أكبر العظماء وأعظم الأقوياء ... (3) المساواة أمام الوطن
إن الناس سواء أمام الوطن في الحقوق والواجبات. (4) المواطنون متكافلون متضامنون
إذا ظلمت الحكومة أحدنا ولم نعمل لرد هذه المظلمة، كان ظلم الحكومة واقعا لا محالة على الجميع ... (مقاطع من خطاب الزعيم الوطني المصري ومقالاته نقلا عن كتاب «مصطفى كامل باشا في 34 ربيعا»)
أمين البستاني (1854-1937)
الديمقراطية
الديمقراطية لفظة يونانية تركبت من كلمتين: «داموس» ومعناها الأمة أو الشعب، و«كراتوس» ومعناها السلطة؛ أي «سلطة الشعب». ويقابلها الأوتوقراطية، واللفظة يونانية أيضا ومعناها سلطة الفرد أو الملك المطلق لا الدستوري المقيد. هذه إنكلترا «ديمقراطية» على رأسها ملك، إلا أنه دستوري مقيد يسوس الأمة ولكن على يد الأمة؛ فهو ملك جمهوري.
قلت: ولم تزل الحرب مستعرة بين الديمقراطية والأوتوقراطية منذ تبلج فجر المدنية، دلنا على هذا تاريخ أثينا ورومية في القدم وتاريخ فرنسا وإنكلترا وغيرهما في الطارئ الحديث؛ فمن أوتوقراطية إلى ديمقراطية ومن ديمقراطية إلى أوتوقراطية حتى ظفرت الديمقراطية، إلا الولايات المتحدة الأميركانية فإنها استمرت من الأصل على الديمقراطية لا تنصرف عنها أبد الأيام؛ وذلك لتمكن المذهب الديمقراطي منها وإشرابه نفوس قومها. ولا غرو أن تسود الديمقراطية آخر الأمر؛ لأنها حكومة الأمة، والحكومة للأمة لا للملك الذي هو رجل منها اختارته أن يكون رأس دولتها أو اغتصب هو هذا الملك اغتصابا وغلابا في حرب وقعت أو فتنة فرقت بين الأمة أدرك بها طالب العرش مناه.
لما قبض الملوك على صوالجة عروشهم انتحلوا حق السماء وقالوا إن ملكهم من الله لا من عباد الله. ومن هذا قيل لإمبراطور الصين «ابن السماء» ولسلطان العثمانيين «ظل الله على الأرض». ثم ظلت الأمم تلقي على ملوكها مثل هذه النعوت الضخمة حتى هووا من تلك العروش، إلا الملوك الذين دانوا لسنة الديمقراطية فاستقروا على عروشهم وهم أشباه رؤساء الجمهوريات لا أبناء السماء ولا ظلال الله على الأرض. على أن تبدل طريقة الحكم من سنن أوتوقراطي؛ أي من سنن التحكم والاستبداد، إلى سنن الحرية والدستورية فجأة وبمرة واحدة أفضى إلى فتن سالت فيها الدماء وتناولت رءوس الملوك أنفسهم فلم تسلم من سيوف الفتنة أن تجزها وتجزمها. والشواهد كثيرة في التاريخ القديم والجديد؛ إذ لا بد للملوك من أحزاب تنصرهم وتنفر معهم للذود عن عروشهم فتقتتل الرعية ولم تزل بالاقتتال حتى يظفر فريق بآخر. وغلب أن يظفر فريق الحرية إن لم يكن عاجلا فبعد حين؛ لأنه متى عصفت فتنة الحرية بأمة وأذاقتها شيئا من حلاوة الديمقراطية فلا تنكص عنها حتى تبلغ أمانيها. إلا أن حكماء الأمم أجمعوا على أن التدرج والتدرب على طريقة الديمقراطية هما أسلم عاقبة وأثبت أثرا من الطفور؛ فقد جاز أن تلتوي أماني الأحرار بمثل هذا التسرع وتقوم الفتنة ويفسد القصد على طالبيه.
لقد غلبت الديمقراطية وعمت بسيط هذه الأرض؛ فمن غالبها من ذوي التيجان فقد غلب على أمره وهوى من عل. وإن تسأل: من له اليد البيضاء في إعزاز هذه الديمقراطية المباركة؟ أجبتك: جمهورية قدماء اليونان وقنصلية الرومان اللتان وإن باتتا في ذمة التاريخ إلا أنهما لم تبرحا مثالين صادقين وأستاذين كريمين لأمم أوروبا؛ فهبت ثورة الإنكليز أولا في طلب الديمقراطية، وعقبتها ثورة الفرنسيس عام 1789 وكانت أم الثورات ومطلع فجر الحرية للعالم كله. ثم إن سنة الإنصاف لتدعونا أيضا أن نذكر للولايات المتحدة الأميركانية يدا جميلة على الديمقراطية في هذا العصر، وحق لفرنسا نصيب من هذا الشكر لأنها نصرت الأميركان في حرب الاستقلال وبعثت إليهم قوادها الذين قادوها مع واشنطن للنصر والاستقلال. (نقلا عن كتاب «مختارات أمين البستاني»، مصر)
أمين الريحاني (1876-1940)
الثورة الإفرنسية
لو قصد المؤرخ أن يطالع كل ما كتب عن الثورة الإفرنسية في اللغتين الإفرنسية والإنكليزية فقط لصرف زمانه كله في المطالعة، بل إنه يموت دون أن يتمم هذا العمل الخطير غير المفيد. وقد انقسم مؤرخو الثورة إلى قسمين: فمنهم من تحرى سرد الحوادث دون تحزب وتحيز، ومنهم من ألحق بكل حادثة نتفا من فلسفته السياسية الخصوصية فندد بحزب ونصر آخر وكان إما ملكيا أو جمهوريا.
أما كارليل الكاتب الإنكليزي الشهير فقد حاد عن الخطتين في كتابه المسمى تاريخ الثورة الإفرنسية؛ فهو لا يطري الجمهوريين كهوغو، ولا يندد بهم كتيارس، ولا يتحامل على الملكية بانتقاده أكثر مما لو كانت حكومة جمهورية، بل أراد في تاريخه هذا أن يكون خالي الغرض، غير متحيز لحزب من الأحزاب. ولكن نيته هذه الحميدة أوقعته في الفتور الذي لا يسلم فيه صاحبه من عدم الاكتراث والشك. ومن كلف نفسه قراءة شيء من تآليف كارليل العديدة يبين له بعد قليل من التفكر أن الرجل عصبي المزاج أسير السويداء والتخمة، وقد كان مصابا بداء آخر أهم من الاثنين لا فائدة من ذكره في هذا الصدد، وإن نتيجة هذه العوارض الخبيثة تتجلى دائما في كتاباته في شكل من التهكم فظيع، والكتاب الذي نحن بصدده الآن مفعم بمثل هذا الازدراء والسخرية. ومعلوم عند الناقدين أن هذا الأسلوب لا يليق في سرد التاريخ؛ فهو كثيرا ما يشوش المعنى الحقيقي ويجعل القصة البسيطة متشعبة متلوثة غامضة لا يستطيع القارئ فهمها دون أن يجردها من ثوبها المزخرف الكثير الألوان.
ليس من العدل إذن أن يدعى هذا التأليف تاريخا؛ فهو خال من الاعتقاد والرأي في الحوادث التي يسبرها، ومفعم بوساوس الفيلسوف العديدة التي تروقنا في بقية مؤلفاته وتزعجنا في كتاب دعاه تاريخا.
كتاب يفتقر إلى روح جدية لترفعه من طبقة الخلقيات إلى طبقة العقليات. ولا نقدر أن ندعو الكتاب رواية لأن فصوله غير متصلة بعضها ببعض؛ إذ نقرأ كل فصل بذاته، ولا تتولد فينا رغبة معرفة السابق واللاحق؛ فالكتاب إذن مجموع مقالات متفرقة في حوادث الثورة الإفرنسية ورجالها مسطرة على قرطاس الفتور والشك ببراعة التهكم والازدراء. ولا رأي خصوصي له في تلك الحوادث وأولئك الزعماء سوى أنه ينصر تارة الكل وطورا يقاوم الكل، وهذه هي المزية التي خدعت الناقدين في زمن كارليل فأنزلوا كتابه هذا منزلة التاريخ في الوقت الذي يجب أن يعد في كتب الخلقيات والوصف. كيف لا ومزاج المؤلف العصبي ظاهر في كل صفحة من الكتاب؛ فهو يقيس كل حادثة ويحكم على كل فرد له علاقة في هذه الفتنة الهائلة بمقتضى هذا المزاج المركب من السويداء والتخمة والتهكم.
ولسنا من الذين ينكرون على الكاتب حق التهكم في بعض الأحايين إذ إننا نعتقد بصلاحية هذا الأسلوب ونعده من الظرائف الجدلية الفعالة التي يقاوم بها الكاتب كل سخيف سقيم. أما تهكم كارليل فحاد إذا خف، وفظ إذا اشتد. وبينما نحن نطالع هذا الكتاب لم نتمالك أن أعدنا الفكرة إلى ما كنا نطالعه من نفثات فولتير؛ فإننا نرى بين مؤلفين نابغتين الواحد منهما لاتيني والآخر سكسوني شبها عظيما من حيث أسلوب الكتابة السخري الذي استخدماه في مقاتلة الفساد والظلم والخرافة، ولكن أين تهكم الإنكليزي الكالح الجاف من تهكم الإفرنسي الوضاح المنير؟ فهذا شبيه ببركان وذاك بمرض عضال مزمن، هذا يهلك ما يلقاه عاجلا وذاك يدخل جسم الفساد والخرافة فيضعفه ويلاشيه تدريجيا. فضلا عن أن تهكم كارليل خال من الذكاء الذي يزين تهكم فولتير. كان كارليل يرعد إذا غضب ويمطر، وأما فولتير فكان يبتسم ابتسامته المشهورة ويسير بهدوء إلى غايته المطلوبة.
لنعد الآن إلى الكتاب الذي نحن بصدده. أراد المؤلف ألا يتحيز في تاريخه وأن يكون مع الحق أينما وجد سواء كان في جانب زعماء الثورة أو حول عرش الحكومة القديمة، ولكن رغبته هذه أدت به إلى الفتور وعدم الاكتراث. والحق يقال إن من لا يكترث لحادثة ما لا يستطيع أن يكتب عنها بدقة وإصابة وإخلاص. وكارليل يبحث عن أكبر حادثة في العالم كما تبحث صحف الأخبار عن جريمة بيتية أو حادثة خصوصية يزول أثرها بعد أن يقرأ خبرها؛ فهو أبدا يفتش عن الحوادث الطفيفة التي كان الأحرى بها أن تدون في الروايات الغرامية ويستنتج منها نتائج عمومية فاسدة ويصور من هذا صورا خيالية فظيعة يسأم هو منها في النهاية ويرفع يديه إلى السماء صارخا: «أممكن أن تخلق ربي مثل هذا الشعب؟»
وهل دعوة الإفرنسيس يا ترى خالية من الحقيقة، وهل الثورة بذاتها نهضة فاسدة مضللة؟ وكيف يتملص الكاتب الفاتر المشكك من لوم الناس الذين حاربوا الثورة أو نصروها وبعض بنيهم وأحفادهم لم يزالوا حتى يومنا هذا يقاومون نتائجها وبعضهم ينصرونها؟ فلو كانت فاسدة على الإطلاق لامحت آثارها بعد مائة سنة من الزمان. نحن من الذين قالوا بعدم الاكتراث في بعض المسائل الدينية التي لا تولد إلا النزاع والشقاق، ولكن الوقت لم يحن لنبذ الحماسة السياسية والغيرة القومية؛ فالمرء الذي لا يكترث لأمور حكومته يعد خاملا، والكاتب الذي لا يجد خيرا في أي نوع من الحكومات يعد فوضويا.
إن الحقيقة التي نفصلها عن أخواتها - عن أسبابها ونتائجها - وندونها معتزلة مستقلة، كثيرا ما تغش المؤلف وتضر بالغاية الأصلية التي ينبغي أن تظل نصب عينيه. أما الثورة في رأي كارليل فلا سابق ولا لاحق لها. هي فلتة اجتماعية لا سبب لها ولا نتيجة؛ هي ضربة من ضربات الله؛ هي مصيبة من مصائب الزمان؛ هي بنت الاتفاق الذي نشأت عنه وماتت فيه؛ هي حادثة معتزلة عن حياة البشر السابقة وعن مستقبلهم. إن عددا من الناس ينتسبون إلى بلاد تدعى فرنسا قاموا في وقت من الزمن فهاجوا وماجوا وحدث بينهم شغب عظيم وقتال من أجل قوانين ونظامات سياسية جمعوها فلقبوها بالقانون الأساسي؛ ومن ثم أهلك بعضهم بعضا وختموا القانون بدمائهم وعادت الأشياء إلى عالم النسيان؛ إلى ظلمات الزوال؛ هذا كل ما يراه كارليل في الثورة الإفرنسية؛ فهو لا يكلف نفسه النظر في البواعث التي من أجلها سفكت دماء الألوف من الناس. ومع ذلك هو يحاول إظهار الفاسد من الصحيح فيها. وكيف يستطيع الكاتب أن يحكم على أحوال أمة في عصر لم يكن منه بعد أن أهمل التنقيب في تاريخ الأمة الماضي وفي أخلاق الشعب وأحواله السياسية والزراعية والتجارية؟
قد أوجب الأقدمون على المؤرخين إبداء الحكم في كل قضية يدونونها وأقاموهم مقام القضاة. وبعد أن يدون المؤرخ الحوادث بدقة وإخلاص يمحص الصحيح من الفاسد فيها ويستنتج من ذلك نتيجة تسوغ له وضع قاعدة أدبية فيها نور وهدى للأجيال المقبلة. وقد قام كارليل ببعض هذا الواجب في تدوين الحوادث، غير أنه أغفل أمرا جوهريا: هو ذكر السبب الرئيسي الذي نشأت عنه الثورة؛ فهو لا يرى فيها عملا واحدا يستحق الشكر إذا ذكر، ولكن حادثة واحدة فظيعة لا تقدح في نهضة عمومية خطيرة، وإن تعددت هذه الحوادث المرعبة فالنظر إليها وإلى أسبابها الأولية معا لأمر واجب على المؤرخ.
إن صلب المسيح بالنظر إلى مصلحة الشعب الإسرائيلي عادل في الظاهر، وبالنسبة إلى البشرية هو جائر فظيع، أما الحادث هذا وحده فلا معنى له ولا أهمية.
وإن من يقرأ سجلات الحكومة الإفرنسية ومعلومات السياسيين والكتاب الذين شاهدوا الحوادث وكانت لهم يد فيها يبالغ لا شك في التعنيف والتنديد بما يدعى «دور الهول» إذا أغفل الغاية الرئيسية التي بسببها ومن أجلها تأسس.
ومن كان نظير كارليل سريع التأثر، صعب المراس، حاد المزاج، يحكم على الحوادث هذه بالنسبة إلى انفعالات نفسه لا بالنسبة إلى الظروف التي نشأت عنها؛ ولذلك لا نرى في كتابه إلا مجموعة قصائد مدح وفخر وهجو ورثاء. قلت مجموعة قصائد لأن في أسلوب نثره جمال الشعر وزخرفه؛ فهو يسير منشدا وراء عربة المنتصرين وباكيا في موكب المنهزمين. يرفع اليوم قوس نصر للقوة المادية، ويبني في الغد مذبحا للشفقة والحنان. وبين هذه المتناقضات يصبح القارئ حائرا تائها. كيف لا وهو يتوقع من المؤرخ أكثر مما يتوقعه من الشاعر. نريد أن نعرف كيف نخفض آلام البشر وشقاءهم، لا كيف نندب هذا الشقاء ونرثيه.
إن في حياة الأجيال الماضية أمثولة للأجيال الحاضرة والمقبلة. والمؤرخ الذي لا يظهر هذه الأمثولة فيلهو عنها في وصف البؤس والشقاء لا يخفض شقاءنا ولا يعلمنا شيئا. إن في أعمالنا اليوم أمثولة ثمينة لأبناء الغد هي الكنز الوحيد الدائم الذي يرثه عنا الخلف بواسطة التاريخ، ومن واجبات المؤرخ المحافظة على هذا الكنز الثمين بعد الوقوف عليه، وإذا كان ضائعا بين أنقاض الثورات والحروب أو مختفيا في بحار الأهواء والتعصب فعليه أن يفتش عنه بصبر وعناء وينيره في الناس مصباح هدى وسلام.
إن الحلقة التي تصل الماضي بالمستقبل هي حلقة الترقي الدائم مما كان إلى ما سيكون، والحوادث التي تتخللها هي حلقات بعضها يشتبك ببعض وليست متفرقة متشتتة كما يزعم كارليل. والمؤرخ الذي يكمل سلسلة الترقي، أو بالحري يزيد في توثيقها، يخدم الناس خدمة حقيقية، ولكن كارليل لا يعتقد بحياة جامعة شاملة؛ حياة روحية دائمة يتصل آخرها بأولها،
1
بل هو شديد الاعتقاد بالتفرد والأفراد، وقد قال مرارا: إن تاريخ العالم هو تاريخ عظماء الناس. على أن الفرد إنما هو صوت واحد ينطق باسم ملايين من الناس الصامتين؛ فالرجل العظيم إنما هو عظيم بشعبه لا بنفسه؛ هو يستمد معظم قوته مما يحيط به من الأشياء والظروف والرجال؛ هو خاضع كأصغر الناس لناموس الترقي الدائم الأزلي، بل هو صنيعة هذا الناموس وخادمه المخلص، علم ذلك أو جهله. فلو ولد نابليون في بلاد الصين مثلا وعاش فيها لما كنا نعرفه الآن. ورب قائل: لو ولد نابليون هناك هل كانت حصلت فرنسا على المجد الذي أكسبها إياه؟ أجيب بالإيجاب؛ إذ لو لم يولد نابليون فيها لنشأ غيره، وهذا ما يجعلني شديد التمسك بما يدعى ناموس الترقي الدائم الذي يقضي بوجود رجل عظيم كل فترة من الزمن لتأييد هذا الناموس وتعزيزه.
إن القنوط والشك واليأس والفتور كلها طبائع تظهر في كل صفحة من هذا التاريخ وفي أسلوب إنشائه الجميل الفخيم. وقد قلت إن كارليل هو أشبه بالشاعر مما هو بالمؤرخ، والشاعر لا يكون أستاذا في الاقتصاد السياسي ولا فيلسوفا في العمران؛ فهو إذا قرأ سجلات الحكومة الإفرنسية ومعلومات من شاهدوا الثورة يثور ثائره الشعري فيحصل فيه انفجار أشبه بالبركان ويدهمنا بحمم تحرق ولا تنير، فتسود منها آفاق البصيرة وتظهر أشباح أبطال الثورة التي يصفها وهي تتهادى في الظلمة غير المتناهية. ولكن ما هي غاية هذه الأشباح وما هو غرضها ولماذا أشغلت فكر كارليل فألف فيها مجلدين ضخمين؟ ألأنها كانت تندب وتنوح عبثا وتقاتل وتحارب باطلا وتصيح وتنادي دون غاية ودون مرمى؟ ماذا فعلت هذه الأشباح ؟ أكلها الزمان فتلاشت من ذاكرة الإنسان؛ بلعتها الظلمات فامحت من لوح الحياة؛ هذا جواب كارليل وزبدة فلسفته المختبئة في أكمام الفصاحة وأشواك البيان. وبناء على ذلك لا يحق لتأليفه أن يدعى تاريخا، وإنما هو ملحق تصويري لتاريخ الثورة الإفرنسية، وإن فصوله لأشبه بصور رسمتها يد ماهرة؛ صور تساعدنا على الدخول إلى تاريخ الثورة الجدي ولكن لا تنبئنا به كثيرا؛ فهي من هذا القبيل أشبه بالصور التي تزين بها الروايات التاريخية تحملنا إلى بعض ما يقصده الكاتب ولا تكشف لنا الستار عن القصة بكاملها.
ومن جهة فلسفية يمكننا أن نقول إن المؤرخين اثنان: الأول يعتقد بالنشوء والارتقاء الاجتماعي، بالترقي الدائم، بالصعود المستمر. والثاني لا يعتقد بشيء من هذا. فلسفة ذاك في العمران شبيهة بخط مستقيم عمودي، وفلسفة هذا بالدائرة صعود. البشر في رأي الأول دائم مستمر، وفي رأي الثاني محدود تصل الشعوب فيه إلى نقطة لا يستطيعون أن يتجاوزوها يهبطون عائدين إلى الهوة التي خرجوا منها وهم في هذا يشبهون الحية التي تأكل ذنبها. ومثل هذا المؤرخ الذي لا يكترث بالأشياء، ولا يحترم روح التاريخ، ولا ينظر إلى ما وراء الحوادث، يجرد على الفساد والظلم سلاح التهكم والازدراء، ولا يفوز بغير الهدم والتدمير. ومثال ذلك أن كارليل يشغل فكرته وقريحته غالبا بطفيف الحوادث وتافهها شأن القصصي أو الكاتب الأخلاقي
2
فضلا عن أنه لا يعتقد في تاريخه هذا بغير الزوال الدائم:
كل بيت للهدم ما تبتني الور
قاء والسيد الرفيع العماد
واللبيب اللبيب من ليس يغت
ر بكون مصيره للفساد
والمؤرخ الدهري يختلف عن الفيلسوف الدهري في أن هذا يعتقد على الأقل بأزلية المادة وخلودها، وذاك لا يعتقد بخلود شيء. إنما حياة الأشياء والمخلوقات إلى أجل مسمى، بل هي خيال زائل يظن ذاته حقيقة ثابتة دائمة. في مثل هذه الأقاويل يبرهن كارليل على أن الثورة الإفرنسية لا تؤثر أبدا في تاريخ الشعوب والعمران ولن تؤثر حتى في أحوال أوروبا السياسية والاجتماعية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب الأول يرفع الستار حتى النهاية عن فلسفته الاجتماعية الدهرية. ومن يقرؤه مفكرا تنجلي له النتائج التي استخلصناها منه، وهي أن تعظيم الصغائر يلذ متى كان النافخ في فقاقيعها كاتب عظيم ككارليل، ولكن الحفول في الصغائر يبعدنا عن الجوهر الحقيقي، وأن الفكر الروحي الداخلي زائل؛ لا أزلي هو ولا خالد، بل هو يتغير ويتحول ويتلاشى كالمادة صحيحا كان أو فاسدا، وأن النهضات الاجتماعية السياسية تظهر فجأة واتفاقا لا بعد أن تنضج في خفايا الزمان، وأن الفلاسفة مخطئون على الإطلاق في مبادئهم الاقتصادية وفلسفتهم الاجتماعية. وفي بقية الفصول دليل واضح على كل هذا. وفيما كتبه عن ميرابو بالأخص وعن ليلة رابع آب دليل أنصع وأوضح. ومعلوم أن مجلس النواب ألغى في تلك الليلة الشهيرة في مدة ساعتين من الزمن نصف شرائع الحكومة القديمة وقوانينها. وإذا أراد القارئ أن يطلع على مثال جلي من تهكمه الفظ وانتقاده العنيف الشديد فليقرأ الفصول التي يصف فيها فرار الملك والمحالفة الوطنية في شأن ديمار
3
والمشاغب التي نجمت عن قلة الحنطة واحتكارها. وكم مرة ردد في كتابه عن مجلس الأمة الذي نشل فرنسا من الهوة التي كادت تبتلعها قوله أن «قد اجتمع أعضاء المجلس ليصلحوا قواعد الأفعال الشاذة.»
قد لا يحترم كارليل إلا القوة المادية وكثيرا ما يكبر نزوات الإنسان وأهواءه ويمجدها؛ فهو لا يرى في نهضة الإفرنسيس على أرباب الظلم والظلام سوى معدة فارغة وخمسة وعشرين مليونا من الألسنة الملتهبة حماسا الملتوية جنونا في عالم من الفساد مضطرب مدلهم؛ فالخبز في مذهب كارليل هو سبب الثورة ونتيجتها؛ هو الأول وهو الأخير. وأما المؤرخ الذي يعتقد بالصعود المتواصل وبالترقي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
إن بين الكمالات النظرية والاختلال الحقيقي في حياتنا الاجتماعية علاقة خفية تكاد لا تنظر بالعين المجردة ولا تتجلى دقائق الحكمة فيها إلا لمن خصتهم الطبيعة بشيء من البصيرة والذكاء وبنفس صافية شفافة صحيحة تنعكس فيها الأشياء انعكاسا تاما جليا صحيحا. ولا شك أن بين ما هو كائن في تصوراتنا وما هو حادث في حياتنا فرقا ظاهرا، ومع ذلك فما هذا إلا انعكاس ضعيف مختل لذاك. كأن العقل البشري اليوم أشبه بمرآة مكسرة لا تنعكس فيها الأشياء كما ينبغي. وإلا جاز لنا مع ذلك أن ننفخ في الحوادث روح الكمالات النفسية فتبقى مدفونة فيها إلى أن ينشرها الزمان فتظهر ولو بعد ألوف من السنين بمظهر من الحياة سام نقي جميل. «ألا نستطيع أن نمزج القليل مما هو كائن في تصوراتنا بما هو كائن حادث في حياتنا؟ ألا نستطيع بكلمة أوضح أن نزرع فيما نقص وفسد من الأعمال بذور ما تعالى من الآمال لتنبت وتنور ولو في جيل بعيد بل آت من الأجيال؟»
هذه سؤالات يضحك منها كارليل الساخر بآمال الناس المستخف بتشوقات الروح الكمالية؛ فهو لا يمنحنا شيئا ولا يدعونا إلى شيء ولا يؤملنا بشيء. القوة الحيوية المادية التي تظهر في عظام الرجال وأبطال التاريخ إنما هذه في مذهبه كل شيء.
أنا آكلك، وآخر يأكلني. برافو! والأخير من البشر فريسة من يكون؟
ولا نظن أن المؤلف حاول أن يضع تعليما جديدا في الثورة الإفرنسية؛ فالمؤرخون كما سبق القول ينصرون الثورة أو يقاومونها، أما كارليل فشاء أن ينصرها ويقاومها معا. ولكن هي التخمة وعرض بل مرض آخر ولدا فيه السويداء فأصيب بالفتور والشك وأصبح لا معها ولا عليها. ولا نظنه ولو شاء يستطيع أن يؤسس حزبا ثالثا غير متحيز؛ لأنه في كل ما كتبه عن الثورة لم يبد قط رأيا وضعيا ثابتا يتخذه الحزب دستورا لأعماله، بل كان كريشة في مهب الريح طوع تأثراته وأسير وساوسه.
هل الملكية لازمة نافعة للناس؟ كلا، إنها مبنية على أساس فاسد. هل الجمهورية أصلح منها؟ كلا؛ فهي قد نشأت من الظلمة وشيدت على جثث الملايين من العباد. علينا إذن بالفوضى؛ هذي هي نتيجة فلسفة غير المتحيزين من المؤرخين.
وقد علمنا التاريخ حقيقة نود لو لم تكن، وهي أن من أراد تأسيس حزب أو وضع تعليم أو إنشاء ديانة ينبغي له أن ينظر إلى وجه واحد من المسألة فقط إذا شاء أن يكون صريحا في رأيه حازما في قوله ثابتا في عقيدته، وبكلمة أخرى إذا شاء أن يكون مؤسسا لحزب أو تعليم أو دين ما فعليه أن يكون متحزبا متعصبا مأخوذا بدعوته مهما كانت. عليه أن يكون أعمى أصم فيما سوى ذلك؛ فالنفي والشك والتردد وعدم الاكتراث والفتور هذه لا تؤسس ممالك وأحزابا وديانات، وهذه كلها من مزايا كارليل المشهورة؛ فقد أحب ألا يكون متعصبا لا مع الثورة ولا لها فجاءنا بتعصب جديد خصوصي لا يضر بالحقيقة الجوهرية ولا ينفعها وقد يلذ لمن تتوق نفسه إلى الجديد من الأشياء والآراء. وبما أنه توسع في الصغائر والتوافه التي تتعلق في الثورة ولذ له سردها بل نظمها في نثره الفخيم، فهو أشبه بنور تضعضعت أشعته المرسلة في كل الجهات ولم تتعدها إلى ما وراءها من الجوهريات. وإنه لو صوب نور مصباحه إلى غرض واحد في جهة واحدة لأرانا في الزوايا شيئا من الحقيقة الثابتة الدائمة. لو فعل ذلك لفاز بوضع تعليم جديد أو تأسيس حزب ثالث ينظر في شئون الثورة نظر الغريب عن هذه الأرض ويقيس منافعها وأضرارها بغير مقاييس هذا العالم.
أما التنديد برجال الثورة والاستياء من النهضة بجملتها والنفور من هولها والفرار من نارها المحرقة المنيرة فهذه ذنوب لا تغتفر للمؤرخ إذا اقترفها؛ فالطفل يولد في الألم والعذاب، والجمهوريات تنشأ في الثورات والحروب. الأم تتألم ساعة الولادة، وكذلك الأمة. يموت الإنسان والعذاب ملازمه، ويولد الطفل والألم حليفه. وكذلك الحكومات بأنواعها والأمم؛ فلا تموت حكومة بسلام ولا تنشأ حكومة بسلام.
ولا بأس في الختام من قصة صغيرة أوردها فقد ذكرتني بها مطالعة هذا الكتاب الذي أود أن يطالعه كل من يحسن اللغة الإنكليزية من قرائي. ورب قائل: ولم تدعونا إلى مطالعته بعد أن تحققت فساده وبان ذلك الضرر الذي ينم عن اقتباس الأفكار التي جاءت فيه؟ أريد أن يقرأه كل من كلف نفسه قراءة هذا البحث ليستطيع أن يقابل بين الاثنين. لا أريد أن يرتئي أحد رأيي دون أن يشغل قليلا فكره. لنعد الآن إلى القصة.
أراد أحد الملوك الأقدمين المولعين بالعلم أن يطلع على تاريخ الأمم فطلب أحد وزرائه وأمره بتأليف أو جمع تاريخ عام، فذهب الوزير وغاب سنين ثم عاد إلى الملك ومعه عدد من الجمال محملة كتبا، فوقف أمام ملكه وقال: «ها هو التاريخ الذي تطلبه.» ولكن الملك وقد هالته أحمال الجمال أمر الوزير أن يختصر التاريخ، فغاب هذا ثانية وعاد بعد سنين ومعه جمل واحد فقط يحمل التاريخ المختصر. أما الملك فكان قد ضعف بصره ووهنت قواه فأمر الوزير أن يختصر أيضا، فغاب الوزير للمرة الثالثة وعاد فرأى مليكه يتقلب على فراش الموت، فلما رآه الملك قال: «آه ثم أواه! سأموت قبل أن أطلع على تاريخ الأمم.» فأجابه الوزير معزيا: «لا تقل ذلك يا مولاي، فقد أحضرت لك مجموعة صغيرة تنبئك عن كل أعمالهم باختصار غريب، وها هي.» ثم أخرج الوزير من جيبه ورقة صغيرة وقرأ بصوت مرتفع: «هاك يا ملك الزمان تاريخ شعوب الأرض مختصرا: فإنهم تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا.»
وتاريخ كارليل المقسوم إلى عشرين كتابا وكل كتاب مقسوم إلى فصول لم يفدنا عن الثورة الفرنسية أكثر مما أفاد مليكه عن تاريخ شعوب الأرض؛ فالكلمات الأربع التي تؤلف تاريخ الوزير تكفي لتأليف مثل هذا التاريخ دون أن يفوتنا منه شيء كثير. لو شاء كارليل أن يختصر لقال مع الوزير عن الإفرنسيس: قد تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا. ولكن في الأمة الإفرنسية ما لا يموت، في الأمة الإفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره بادية حية نامية في ترقي الأمم والناس. (مقالة في انتقاد «تاريخ الثورة الفرنسية»، تأليف توماس كارليل، «الريحانيات»، جزء 1)
الشيخ رشيد رضا (1865-1935)
جمع بين القديم والجديد في الفكر والعمل السياسي
إن التطورات الاجتماعية كانت تقضي بوقوع ما وقع من التصرف في شكل الحكومة الإسلامية، ولم يمكن في تلك الأزمنة أن يوضع لها نظام يكفل أن تجري على سنة الراشدين، ولا طريقة أوائل الأمويين والعباسيين، في الجميع بين عظمة الدنيا ومصالح الدين. ولما صار هذا ممكنا كان أمر الدين قد ضعف، وتلاه في جميع الشعوب الإسلامية ضعف حكوماتها، وضعف حضارتها؛ فلم تهتد إلى مثل ما اهتدى إليه الإفرنج من القضاء على استبداد ملوكهم شعبا بعد شعب؛ فمنهم من قضى على الحكومة الملكية قضاء مبرما، ومنهم من قيد سلطة الملوك فلم يدع لهم من الملك إلا بعض المظاهر الفخمة التي يستفاد منها في بعض الأحوال دون أن يكون لهم من الأمر والنهي في الحكومة أدنى استبداد.
ذلك أن كل من يعطى تصرفا في أمر يجب أن يكون مسئولا عن سيرته فيه، والتقاليد المتبعة في الملك أن الملك فوق الرعية فلا يتطاولون إلى مقامه الأعلى ليسألوه عما فعل، وهذا شيء أبطله الإسلام بجعله إمام المسلمين كواحد منهم في جميع أحكام الشريعة، ونص على أنه مسئول عما يفعل بقوله (
صلى الله عليه وسلم ): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها» إلخ ... (متفق عليه من حديث ابن عمر). وكان المسلمون يراجعون الخلفاء الراشدين ويردون عليهم أقوالهم وآراءهم فيرجعون إلى الصواب إذا ظهر لهم أنهم كانوا مخطئين، حتى إن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) خطأته امرأة في مسألة فقال على المنبر: «امرأة أصابت وأخطأ عمر»، أو: ورجل أخطأ.
غفل المسلمون عن هذا فتركوا الخلافة لأهل العصبية يتصرفون فيها تصرف الملوك الوارثين الذين كانوا يزعمون أن الله فضلهم على سائر البشر لذواتهم ولبيوتهم وأوجب طاعتهم والخضوع لهم في كل شيء؛ فلم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الذي يسمى في هذا العصر بالقانون الأساسي يقيدون به سلطة الخليفة بنصوص الشرع، ومشاورتهم في الأمر، كما وضعوا الكتب الطوال للأحكام التي يجب العمل بها في السياسة والإدارة والجباية والقضاء والحرب. ولو وضعوا كتابا في ذلك معززا بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الراشدين، ومنعوا فيه ولاية العهد للوارثين، وقيدوا اختيار الخليفة بالشورى، وبينوا أن السلطة للأمة يقوم بها أهل الحل والعقد منها، وجعلوا ذلك أصولا متبعة، لما وقعنا فيما وقعنا فيه.
فأما الراشدون رضي الله عنهم فقد كانوا واثقين بتحريهم للحق والعدل ويصرحون بسلطة الأمة عليهم وهم واقفون في موقف الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) من منبره كما قال أبو بكر: «وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني.» وكما قال عمر: «من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه.» وكما قال عثمان: «أمري لأمركم تبع.» وأقوال علي وأعماله بالشورى معروفة على اضطراب الأمر وظهور الفتن في زمنه، وموت كثير من كبراء أهل العلم وتفرق بعضهم، ثم إنهم لم يكونوا قد دخلوا في عهد التصنيف ووضع النظم والقوانين، ولا شعروا بشدة الحاجة إلى ذلك؛ لكثرة الصلاح وخضوع الأمة لوازع الدين.
وما جاء عصر التأليف والتدوين إلا وكانت الخلافة قد انقلبت إلى طبيعة الملك بالبدعتين الكبريين اللتين ابتدعهما معاوية، وهما: جعل الأمر تابعا لقوة العصبية، وجعل الخلافة تراثا ينتقل من المالك إلى ولده أو غيره من عصبته. وشغل الناس عن سوء هاتين البدعتين سكون الفتنة التي أثارها السبئيون والمجوس وافترصها الأمويون، وما تلاه من اجتماع الكلمة وحقن الدماء في الداخل، والعودة إلى الفتوح ونشر هداية الإسلام وسيادته في الخارج؛ وذلك أن تأثير الفساد الذي يطرأ على الصلاح العظيم لا يظهر إلا بتدرج بطيء.
هذا، وإن ما فات المسلمين في القرون الوسطى لا ينبغي أن يفوتهم في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ومن فوائد النظام وأحكامه ما لم يكونوا يعرفون.
وكان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا رجال الدولة العثمانية، ولا سيما الذين يقيمون في الآستانة والروملي من بلاد أوروبا، يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم في العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن دولة علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم لغة علمية مدونة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن الماضي . ولم يكن يتعلم علوم الإسلام منهم إلا قليل من المقلدين؛ ولهذا جعلوا سلطة سلاطينهم شخصية مطلقة حتى بعد تحليتهم بلقب الخلافة، فلما صاروا يدرسون تاريخ أوروبا وقوانينها، وثوراتها على حكوماتها لإزالة استبدادها، ظنوا أن لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظلمهم إلا بتقليد أوروبا في شكل حكوماتها: الملكية المقيدة، ثم رجحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأوا أن جعل السلطان مقدسا غير مسئول كما قرروه في قانونهم الأساسي لم يف بالغرض. ولو درسوا الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون القوانين لوجدوا فيها مخرجا أوسع وأفضل من القانون الأساسي السابق ومن الخلافة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة ... (من كتاب «الخلافة أو الإمامة العظمى»)
مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924)
أهناء أم عزاء؟
فارق مصر على أثر إعلان الدستور العثماني كثير من فضلاء السوريين بعدما عمروا هذه البلاد بفضائلهم وآثارهم وصيروها جنة زاخرة بالعلوم والآداب ولقنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعدما كانوا فينا سفراء خير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية يأخذون من كمال الأولى ليتمموا ما نقص من الأخرى، وبعدما علموا المصري كيف ينشط للعمل، وكيف يجد ويجتهد في سبيل العيش، وكيف يثبت ويتجلد في معركة الحياة.
قضوا بيننا تلك البرهة من الزمان يحسنون إلينا فنسيء إليهم، ويعطفون علينا فنسميهم تارة دخلاء وأخرى ثقلاء، كأنما كنا نحسب أنهم قوم من شذاذ الآفاق أو نفايات الأمم جاءوا إلينا يصادروننا في أرزاقنا ويتطفلون على موائدنا. ولو أنصفناهم لعرفناهم، وعرفنا أن أكثرهم من بيوتات المجد والشرف، وإنما ضاقت بهم حكومة الاستبداد ذرعا، وكذلك شأن كل حكومة مستبدة مع أحرار النفوس وأباة الضيم، فأحرجت صدرهم، وضيقت عليهم مذاهبهم، ففروا من الظلم تاركين وراءهم شرفا ينعاهم ومجدا يبكي عليهم، ونزلوا بيننا ضيوفا كراما وأساتذة كبارا، فما أحسنا ضيافتهم وشكرنا لهم نعمتهم.
وبعد، فقد مضى ذلك الزمن بخيره وشره، وأصبحنا اليوم كلما ذكرناهم خفقت أفئدتنا مخافة أن يلحق باقيهم بماضيهم، فلا نعلم أنشكر للدستور أن فرج عنهم كربتهم وأمنهم على نفسهم وردهم إلى أوطانهم، أم ننقم منه أنه كان سببا في حرماننا منهم بعد أنسنا بهم واغتباطنا بحسن عشرتهم وجميل مودتهم، ولا ندري هل نحن بين يدي هذا النظام العثماني الجديد في هناء أم في عزاء؟
فيا أيها القوم المودعون، والكرام الكاتبون:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
رب ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صبا إذا غنى بكم
شرب الدمع وعاف القدحا
جبران خليل جبران (1883-1931)
(1) طلائع البعث الجديد
كتبت الفيكونتس «سيسيليا أف لوتنبرغ» رسالة إلى جبران خليل جبران سنة 1910، وهي من النساء الشهيرات في عالم الأدب الأوروبي ومن المستشرقين الذين يحبون سوريا والسوريين، ولها كتابات جميلة عن الأراضي المقدسة وبلاد فارس ومصر وشبه جزيرة العرب، فأجابها جبران بالرسالة التالية:
سيدتي الفيكونتس
جاء في كتابك الذي تكرمت بإرساله إلي:
أنا أحب سوريا لأنها جميلة ولجمالها خاصة معنوية تنبه في نفسي عواطف غريبة سحرية وتذكارات بعيدة لطيفة. وأحب السوريين لأنهم أذكياء وتعساء. لكنني أكره هذه الطبقة لأنها تركت محاسن التمدن الشرقي القديم ومالت إلى المكروه من المدنية الغربية الحديثة، فهي الآن بغير لون تتميز به عن طبقات البشر.
هذه حقيقة جارحة يا سيدتي يسمعها المحافظون من الشرقيين فيحنون رقابهم متأسفين، ويعيها العصريون بينهم فيبتسمون. وبين أوجاع ذلك الأسف وسخرية هذا الابتسام تقف سوريا الآن موقف حائر ضائع في ملتقى السبل. أما أنا فلا أتأسف جزعا عندما أرى رقعة جديدة قذرة في ثوب سوريا القديم، ولا أبتسم فرحا عندما أجد جسدا جديدا لروح عتيقة. أنا أنظر إلى سوريا نظرة الابن الشفوق إلى أمه المريضة بعلتين هائلتين: علة التقليد وعلة التقاليد. التقاليد يا سيدتي تجعل المرء كالأعمى السائر في نور النهار، والتقليد يجعله كالبصير السائر في ظلمة الليل. وما الفرق بين الرجلين سوى أن نفس الأول «تحيط» بالظلام، ونفس الثاني «محاطة» بالظلام.
إن المحافظين في سوريا هم رؤساء الأديان ووجهاء القبائل وشيوخ الأسر القديمة؛ فرؤساء الأديان يحافظون على التقاليد لا حبا بجمالها وبساطتها بل لأنهم يجدون بالمحافظة عليها بقاء سلطتهم. أما وجهاء القبائل وشيوخ الأسر القديمة فهم كرصفائهم في كل بلاد يميلون بالطبع إلى تأييد نفوذهم بمصارعتهم كل روح جديدة تجيء سوريا من المغرب. ولا لوم عليهم؛ لأن الأرواح الجديدة التي يرونها مرفرفة في فضاء بلادهم تستبيح حرمة الآداب الشرقية بمغالبتها الخرافات وتمزق نقاب «المجد» عن وجه سوريا بتمزيقها أثواب الغباوة عن جسدها.
أما العصريون الذين تخرجوا في مدارس الإفرنج أو الذين هاجروا إلى العالم الجديد فأكثرهم كالثمار في حديقة العالم الأدنى ذات منظر بهيج لكنها ملوثة بالدخان. غير أنهم أقل ضررا من المحافظين؛ لأن تأثرهم أوهى، وظلهم أقصر، ومطامعهم أقل. لكن سيدتي تعلم أن في سوريا طبقة ثالثة أوسع فكرا من المحافظين وأكثر حكمة من العصريين المقلدين. وهؤلاء هم الذين نبذوا سلطة رؤساء الأديان حبا بجمال الدين نفسه، ونفروا من الانقياد إلى أبناء الشرف الموروث احتراما لشرف النفس، وابتعدوا عن تقليد عوائد الإفرنج القبيحة توصلا إلى معارفهم وآدابهم المستحبة. ولا أدعو هذه الطبقة بالمعتدلة؛ لأنها لا تريد أن توفق بين فضائل عبيد التقاليد ومحاسن أبناء التقليد لعلمها بأن الورد لا يجنى من القطرب والخمر لا يعصر من الأشواك. ولا أدعوها بالمتساهلة؛ لأنها لا ترفق بالمستسلمين إلى خرافات الشرق ولا تشفق على المنغمسين برذائل الغرب لإدراكها جهالة هؤلاء وانحطاط أولئك، بل هي طبقة مستقلة بأخلاقها ومداركها ومزاياها، شرقية بأميالها وأهوائها. تتكلم العربية في مجتمعاتها لأنها تحسن اللغة العربية، وتتعمق في درس اللغتين الإفرنسية والإنكليزية لا حبا بالروايات السافلة والقصص القذرة التي تقذفها جوانب باريس ولندن بل شغفا بآداب فرنسا العالية وعلوم إنكلترا النبيلة؛ فهي لا تعرف شيئا عن مؤلفي نوادر العشاق وحكايات المتهتكين في أوروبا، لكنها تعرف كل شيء عن شكسبير وغوت ودانتي وبلزاك، وهي لا تلتفت إلى ما تذيعه الصحف عن غرائب التمدن الحديث التي أوجدها داروين وكنت ونيتشه ورينان.
هذه هي الطبقة التي تمتاز بها سوريا عن البلاد الشرقية، وهؤلاء هم الرجال الذين أحدثوا النهضة الأدبية في مصر والشام. هؤلاء هم الذين أوجدوا في نفوس الشرقيين استعدادا لقبول الحكم النيابي.
إن الأمم كالشجر تنبت وتنمو وتتعالى ثم تبلغ مبلغها فتعطي ثمارا جيدة ورديئة ، ثم تمر عليها السنون فتشيخ وتجف جذوعها وفروعها، ثم تمر بها العواصف فتنيخها إلى الحضيض وتكفنها بأوراق الخريف وثلوج الشتاء. وسوريا كرمة، قد نمت قدما أمام وجه الشمس وأعطت عنبا لذيذا تمجدت بطعمه الآلهة، وخمرا سحريا شربت منه الإنسانية فسكرت ولم تصح بعد من نشوتها. واليوم بعد أن داست أقدام ابن السبيل جذوع تلك الكرمة وأتلف اللصوص سياجها، يمر عابر الطريق فيجدها قد أورقت ثانية واهتزت قضبانها مرتعشة بمرور نسيمات الفجر ... تلك معجزة لم يأت التاريخ بمثلها، ولا يستعظمها سوى من عرف مآتي الأجيال التي مرت بين أيام نبوخذنصر وعهد عبد الحميد! (2) وجوب الثورة
من يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف البطل على الحق وشريك السفاحين بقتل الأبرياء.
كتاب محاكمة مدحت باشا
الحرية مفتاح كل شيء
وقد يتعجب بعض الناس من احتياج رعايا الدولة العثمانية إلى جلب كل شيء من الخارج، مع وجود الأراضي المنبتة الواسعة في حوزة الدولة في قطعتي آسيا وأوروبا. وطالما تذاكر العقلاء أكثر من مرة في هذه المسألة وقرروا أن السبب في ذلك هو سوء إدارة الحكومة؛ فإن الأمن مسلوب في طول البلاد وعرضها، والأراضي خالية من السكان، وقد ألقى الظلم جرانه في كل بقعة من البلاد، وإذا أراد أحد الزراع استثمار قطعة من الأرض أثقلت الحكومة ظهره بالضرائب. وقد يقول بعض الناس: إن خراب المزارع ناتج عن جهل الأمة، فنجيبه بأن أبناء البلاد يهجرونها طلبا للحرية، ويقصدون الأقطار النائية ويعملون أعمالا تدل على اجتهادهم ونشاطهم. وسيقول بعضهم: إن السلطان قد أمر بإعمار البلاد فهو بريء من كل ما يعزوه إليه أعداؤه، وإن الذنب كل الذنب على الوزراء. وهناك قسم ثالث يقول: إن الحكومة يجب عليها نشر الصنائع وتأسيس المعامل لإفادة الشعب، فنجيب هذا القسم بأن الحكومات في أوروبا لا تنشئ المعامل ولكن الشعب يؤسس الشركات وينشئ المصانع إذا تمتع بأنواع الحرية ووضع مجلس نوابه قوانين تخوله استعمال حقوقه الطبيعية واستخراج ثروة بلاده، وهذا لا يتم إلا إذا تأسست في البلاد حكومة عادلة يكون معها الإنسان آمنا على ماله وتجارته وعمله.
ولم لا يشتغل سكان البلاد العثمانية بتأسيس المعامل وتأسيس الشركات مع وجود أرباب رءوس الأموال من رعايا الحكومة المحلية؟ ولأي سبب يتأخر رعايا الدولة العلية عن صناعة الأقمشة مع وجود القطن بكثرة في بلادنا وانخفاض أجرة العمال في البلاد عن أجرة مثلهم في أوروبا؟ ولم لا يشتغلون بأعمال المصنوعات الجلدية والكاغد
1
مع وجود ما يلزم لإحضارهما في بلادنا؟ إنهم لا يتأخرون عن صنع ذلك وحده فهم لا يعملون أيضا اللبن والآجر والكبريت في هذه البلاد، ولا يصنعون الطرابيش التي فوق رءوسنا، فلم نحتاج إلى أوروبا في جلب هذه البضائع؟ لا يشكن أحد أن كل هذه الأسباب ناتجة عن عدم وجود الحرية والقوانين في بلادنا.
إن عندنا قوانين ومحاكم ومجالس وليست عندنا قوة لإجبار المجالس والمحاكم على اتباع القوانين الموضوعة؛ فالمحاكم تظلم الناس نهارا جهارا. وقد ثبت أن الشركات التي تتشكل في بلادنا لا يحميها أحد فتذهب أرباحها ورءوس أموالها. والسبب الثاني هو أن البلاد محرومة من المعارف، وليس الأهالي بأحرار ليتعلموا ما تضطرهم إليه مرافق الحياة. والسبب الثالث هو أن الدراهم لا توجد في بلادنا إلا بفوائد فاحشة فليست عندنا بنوك تسهل للإنسان الإقدام على أعمال نافعة فيستفيد ويفيد، وليست في البلاد قوانين تجبر البنوك والصيارف على الاعتدال في معاملاتهم؛ فمع كل هذه الموانع لا يتسنى لأي فرد تشويق الأهالي وحثهم على الأعمال النافعة، ومن أقدم على ذلك كان كمن يحاول تسيير سفينة بلا ريح ولا بخار.
وقول بعضهم: إن الحكومة لا تعمل الأعمال التي تعود على الأهالي بالفوائد مردود؛ لأن الحكومات تنشئ الطرق الحديدية والمرافئ وتجمع الأموال من الأهالي وتنشئ المعامل وتديرها على حساب الشعب، وهي أعمال غير نافعة للأمم كما أثبتت ذلك التجارب؛ وعليه فتكليف الحكومة بإحداث المعامل وتسليمها للأهالي مردود من كل الوجوه ولا سبيل إلى عزو ذلك إلى تقصير الوزراء وإهمال الحكومة.
والذي يجب على الحكومات إزاء الشعوب هو منحها الحرية التامة. (عن كتاب «محاكمة مدحت باشا»، تعريب يوسف كمال حتاتة)
محمد كرد علي
تحية باريز
سلام عليك مرضعة الحكمة، وربيبة الرخاء والنعمة، وروح الانقلابات الاجتماعية والسياسية ، ومحيية المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية، ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين، والضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالكين. أنت هذبت طبائع البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل. أنت كنت في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه، فقضيت بالتقدم له على كل شيء في الوجود، وبالغت في إكرام رجال العقول من أبنائك ...
سلام عليك يا واضعة حقوق الإنسان، وملحقة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان، والداعية إلى ثل عروش الجبارين والمخربين. أنت لم ترهبك تقاليد أبطال القرون الوسطى، ولا بطش الباطشين من المحافظين عليها، ولم تعلقي مسائلك على القضاء والقدر، بل أخذت بالأسباب والمسببات، فقتلت من أراد قتلك، ووضعت من لم يهمه رفعك، وكنت للناهضين من الناس خير مثال ...
سلام عليك يا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة، ليتعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في الموالد والديانات، وقطعت التفاضل إلا بالأعمال الصالحة والأحلام الراجحة ...
السلام على هذه العاصمة التي أحسنت إلى الشرق فيما مضى فعلمته حتى استمد منها النور. فإن قلنا معاشر الشرقيين، ولا سيما سكان الشرق الأقرب: إننا نأخذ عن المدنية الغربية، فإنما نعني المدنية الفرنسوية، وبعبارة أصح المدنية التي تنبعث أشعتها من باريز ومن طريقها وبلغتها وأسلوبها تيسر لنا أن نستطلع سائر مدنيات الأرض ...
سلام عليك أنت العاصمة التي تركت القصور الفخيمة التي عمرت بدماء الأمة مباحة للناس يدخلونها وكانت بؤرة المظالم والمغارم، ومنبعث الشهوات والأهواء، ولطالما جأرت جوانبها بالدعاء إلى السماء من حيف الكبرياء، أيام كان يوقع أحد ملوكها وهو على سرير نومه توقيعا واحدا يترك من الغد مائة ألف أسرة في هذه البلاد تبيت جائعة عريانة ليعمر بما يجمع قصرا له أو يدفعه لمحبوبته صبرة واحدة. فلما أضناك الظلم والعنت قمت تجعلين من تلك القصور الناشئة متاحف عامة، ومن دور الظلم والظلمات مجالس عدل وعلم ونور ...
سلام عليك يا بلد كونت وروسو وفولتير وديدرو وسيمون ومونتسكيو وهوغو وباسكال ورينان ومئات أضرابهم ممن بذلوا حياتهم في حسن خدمتك، فلم تنس عوارفهم عليك بعد مماتهم ...
أنت إن خجلت من ذكرى الحروب الصليبية، وديوان التفتيش الديني، ومذبحة القديس برتلماوس ... وغير ذلك من الأعمال البربرية في عصور الظلمة، فإن سكانك يفاخرون وحق لهم الفخر بأنهم أحفاد ثورة سنة 1789 قاموا من الأعمال المشكورة في عصور النور بما ينسي الماضي إلا أقله،
إن الحسنات يذهبن السيئات ! (عن كتاب «غرائب الغرب»)
يوسف جرجس زخم
كل شيء يتوقف على الشعب
الإصلاح جاء ويجيء وسيجيء من طريقين: إما من طريق الحكومة، وإما من طريق الشعب. ومثال الأول حكومة اليابان، ومثال الثاني الجمهورية الإفرنسية والجمهورية الأميركية. والانقلاب العثماني لم يأت من طريق الحكومة ولا من طريق الشعب من حيث مجموعه، بل من طريق الجيش. أما والحكومة العثمانية منصرفة قواها جملة إلى حل مسائلها ومشاكلها وقد بدا حتى الآن أنها لا تكترث أو لا تريد أن تكترث بالعربية حييت أم ماتت، فقد تحتم على أبنائها أن يعلوا منارها ويحموا ذمارها ويحملوا لواءها، وهذا لا يكون فقط بالاحتفاظ ببقايا تلك الكتب العتيقة الباحثة في مذاهب سيبويه ونفطويه وأضرابهما مثلا، بل يكون في نشر الصحافة الحرة بكثرة في المدائن وفي القصبات وفي المديريات وفي الضواحي والنواحي؛ فالصحافة الحرة الصادقة بلا مدافع أكبر كلية للدولة وأكبر مدرسة للأمة وأكبر جامعة للثورات الأدبية المحطمة قيود الجهل والظلم وللنهضات الجالبة رفعة القدر ووفرة الفخر. ويقاس رقي الأمم برقي صحافتها؛ فكل أمة لها صحافة راقية لها منزلة راقية في السياسة والاجتماع والآداب والعمران والعرفان.
لم تكن الصحافة موجودة بعرفي في دور نيرون القرن العشرين؛ فتلك التي كان العبيد المستعبدون يدعونها صحافة لم يكن أكثرها إلا وريقات أو نشرات لنشر آيات التقديس والتدليس والتدنيس، بل لإذاعة المين كل المين والتمويه كل التمويه والتجهيل كل التجهيل والتضليل كل التضليل، وكان الاستذلال والاستعباد يقضيان بدفن الحقائق واستحياء المخارق. أما وقد عادت إلى الشعب بعض حقوقه المعطاة له من الله فمن الغضاضة على الصحافة أن تستر العيوب والعورات، وكل صحافة لا تدل الدولة والأمة على حسناتها وسيئاتها بكل ما في كلمة الحرية من معنى الحرية لا تدعى صحافة ولا يرجى لأمتها وحكومتها صلاح وإصلاح.
نعم إن مضمار الانتقاد أوسع في أميركا منه في الدولة العليا بداعي تقييد الصحافة العثمانية وإطلاق حرية أميركا، غير أن الذنب على الشعب؛ فشعب أميركا مطالب وناهض وقائم، والشعب العثماني قاعد وجامد ونائم. النواب هم الذين قيدوا حرية الصحافة وهم ضيقوا الخناق عليها، والشعب هو الذي انتخب أولئك النواب وأرسلهم إلى عاصمته وهو الذي يدفع مرتباتهم ونفقاتهم؛ فالشعب هو سيد النواب والنواب خدامه، ولم أسمع ولم يسمع غيري أن 250 خادما يستطيعون أن يستبدوا بثلاثين مليون «سيد»، فيا أيها الشعب، مر نوابك بتعديل قانون صحافتك واحملهم على تلبية أمرك، فإن لبوه كان ما تريد، وإلا فاقلب لهم ظهر المجن في الانتخاب المقبل وانتخب الأصلح فالأصلح حتى تبلغ ضالتك وتعمل عمل البلاد الشعبية، فهل من سامع أو مجيب لهذا الصوت الضعيف؟ (عن مجلة «المقتبس»، سنتها الخامسة)
الدكتور أيوب تابت
الثورة: أسبابها، استنارة الشعب شرط لنجاحها
إذا كان الملك مطلقا لا قيد يقيده ولا نظام فوق إرادته فالغالب أنه يستأثر في الرأي وهو أكثر ما يكون فاسدا، ويستبد بالقوة وهي قلما تصرف في سبيل الحق والعدل. ويحوم حواليه جماعة من المتملقين والمتزلفين فيزوقون له أنه ظل الله على الأرض، وأن الناس وأعراضهم وأموالهم ملك له يتصرف بهم كيف شاء، فيزداد بذلك عتوا واستبدادا. ولما كانت الرعية تخشى بطشه وتخاف بأسه لا تجرؤ على انتقاد أعماله وتقويم اعوجاجه، فقد ساءت أحكامه وزادت مظالمه. وإذا هي تململت من ثقل الوطأة، اتهمها بالتمرد وشق عصا الطاعة وأمسى قلق الأفكار مضطرب البال إذا هب نسيم السحر خاله عاصفة، أو مال خيال ظنه يدا قاتلة. ويقويه على هذه الهواجس والشكوك المقربون إليه لما يبيحه لهم استحكام التباغض والتنافر بينه وبين الرعية من استنزاف الأموال واستدرار المغانم فيشدد في الضغط على الأمة ويزيد في التنكيل بأحرارها؛ فطالما هي هائمة في ظلمات الجهل فهو في أمن من نهوضها وفكاك قيودها. إنما لا تعتم إلا ريثما تستنير ويشملها العلم فتشعر بثقل الوطأة وسوء الحالة فتهب مستهلكة إلى المطالبة بحقوقها المهضومة.
فإذا كان الملك حكيما يرى ضعف جانبه بإزاء الشعب الثائر فيسترسل إلى إرادته وينيله مبتغاه. غير أن ذلك نادر قليل الحدوث؛ فإن التنازل عن السلطة المطلقة بل عن أية سلطة مهما كان نوعها ليس هو بالأمر السهل. والغالب أن الملك يأبى الاستسلام لمطالب الأمة ويأنف من تقييد سلطته المطلقة، أو ربما أظهر الرضى وأكمن الغدر
1
حتى إذا ما أمكنته الفرص من دعاة الإصلاح أوقع بهم وبدد شملهم وأعاد ملكه إلى ما كان عليه من سوء الحال، بل ربما شدد في الضغط على الأمة وزادها عسفا وظلما بغية استبقائها في ظلمات الجهل وديجور الفقر وهما منه بأن ذلك يمنعها من النهوض والعودة إلى المطالبة بحقوقها. وإنما الويل لمثل هذا الملك؛ فأيامه مظلمة، وأحلامه مزعجة، وبلاده تنتابها القلاقل والفتن. وما كان ضغطه على الأمة إلا ليزيدها ميلا إلى فك القيود وشوقا إلى الانتقام. وهناك البكاء وهرق الدماء يوم يتفجر بركان الثورة الخامد ويندفع الشعب الناقم فلا وعود تحيله ولا وعيد يهوله. ولك في شارل الأول ملك إنكلترا ولويس السادس عشر ملك فرنسا عبرة وذكرى.
وما عليك إلا أن تعود إلى تواريخ الأمم فترى أن ما أشرنا إليه من دواعي الثورة هو ما أدى إليها في عهد هذين الملكين وغيرهما من الملوك السالفين، بل هذه ثورتنا وثورتا جارتينا إيران وروسيا فإذا بحثت في أسبابها تبينت أنها هي على ما قدمناه.
ومما يجمل ذكره وإن خرج عن مدار بحثنا هذا هو أن أكثر الثورات يتبع بعضها بعضا وتتفاوت أزمان وقوعها بتفاوت الأمم النازعة إليها في الاستنارة والعلم. ومثال ذلك حدوث الثورة الإفرنسية على أثر الثورة الأميركية والأمتان يومئذ في منزلة واحدة من الرقي، ثم حدوث ثورات سائر الشعوب الأوروبية المتقاربة في العرفان من مثل بروسيا والنمسا وبلجيكا على أثر الثورة الإفرنسية الثانية، ثم ثورات الروس والفرس والعثمانيين وهم على درجات متشابهة في العرفان وقد جاءت كل واحدة تلو الأخرى.
ولقد أدرك الملوك المطلقون ذلك فكانوا يتألبون على إخماد جذوة الثورة أين شبت خوف تطاير شرارها إلى ممالكهم من تألب إنكلترا والنمسا وروسيا وبروسيا على إخماد الثورة الإفرنسية الأولى أم الثورات ونور الحرية. ولا أخالنا نحن العثمانيين قد نسينا نظر الروسية إلينا شزرا يوم نلنا الدستور للمرة الأولى ولم يكن قد تشكل فيها بعد مجلس الدوما.
قد لا يدرك الشعب الذي طال عليه عهد الاستعباد أن الإنسان يولد حرا وأن استعباده إنما هو أمر اغتصابي حتى لقد يتوهم أن حالة العبودية هي حالة طبيعية له لا يستغربها ولا يستنكف منها، بل لو قام من طالب له بحقوقه المغتصبة رأيناه واقفا إلى جانب السلطة حائلا بينها وبين حقوقه. ولا يلبث من يشك بصحة هذا القول إلا ريثما يرجع إلى تاريخ ثورات الأمم فتبين له مكانة هذه الدعوى من الحقيقة. حتى إنه لا وجوب لمراجعة التاريخ؛ فهذه الثورة الروسية وعهدها غير بعيد بل لا يزال شرارها متطايرا هي شاهد ناطق بذلك. ولا عبرة بالقول إن الجيش وليس الشعب هو الحائل بين الأمة والحكم الدستوري، فإنما الجيش من الشعب فلو كان الشعب متنورا عالما بحقوقه لكان الجيش المستمد منه قد عرفها أيضا.
ومما يدلك على مكانة وقوف الشعب على حقوقه الطبيعية من الخطورة في الثورات السياسية أن فلاسفة الإفرنسيس وأكابر كتابهم من مثل فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو توخوا تعليم الأمة ذلك قبل إعلان الثورة الإفرنسية بمدة بعيدة فما ثارت إلا وهي عالمة بما تطالب به السلطة وملمة بالطرق الموصلة إليه. وكان من بادئ أعمال دعاة الثورة لأول التئام الجمعية الوطنية أنهم نشروا على رءوس الأشهاد منشورا عنوانه «إعلان حقوق الإنسان».
وإنك لترى في رجوعك إلى تاريخ الثورة الأميركية أنه قد كان إعلانها على أثر منشور هو بنفس العنوان المذكور وبما يقارب مضمونه معنى. بل لو بحث باحث بحثا دقيقا في نظامات الحكومات الشوروية وقوانينها الأساسية لاتضح له أنها مبنية على حقوق الإنسان الطبيعية.
ولم يتعمد رجال الثورة من كلتا الأمتين في إعلان حقوق الإنسان مجرد تحريض الشعب ودفعه إلى الهياج والفتنة، بل رموا إلى أمر مهم هو تعليم الفرد من الناس ما له من الحقوق على الأمة
2
وما للأمة من الحقوق على السلطة ومنزلة السلطة من الأمة، حتى إذا عرف ذلك نهض مع دعاة الثورة وكاتفهم في كبح جماح السلطة وإكراهها على ردها إليه حقوقه المغتصبة وحصرها ضمن دائرة لا تتعداها.
إذا ظل السواد الأعظم من الشعب جاهلا لحقوقه الطبيعية ولمنزلة السلطة من الأمة وانحصر العلم في ذلك بفئة معدودة فقامت تطالب الملك المطلق بحقوق الشعب، فالأرجح أنه لا يتيسر لها ذلك وكان مصيرها الويل والفشل. حتى إنها لو تمكنت من بغيتها وقيدت الملك بالشورى فليس ثمة ما يضمن للأمة بقاء الحالة الناشئة، بل الأقرب أن الملك سيعيد الحالة الماضية إما بإغراء زعماء الثورة وهم قليلون، وإما باستمالة الشعب الجاهل لحقوقه والذي يخيل له كما أسلفنا أن العبودية حالة طبيعية وأن السلطة هابطة على الملك من قوة وراء الطبيعة لا يسوغ للبشر مساسها.
ولك في تواريخ الأمم الحاضرة ما ينطبق على مثل ما نحن في صدده، بل لا أسألك العودة إلى التاريخ لترى ذلك؛ فإن لك في جارتنا الأمة الفارسية، بل الأمة العثمانية نفسها لأول عهد جلالة السلطان الحالي، مثالا قريبا؛ فكل من الملكين، قياما بطلب فئة معدودة من الشعب، أنال أمته الدستور، إنما ما عتم أن تمكن من ملكه فاسترد ما أناله وأعاد الحكم الاستبدادي المطلق، فكان من وراء ذلك أن الأمة العثمانية بقيت نحوا من ثلاث وثلاثين سنة في حالة من العبودية لم يسطر التاريخ الحديث لها مثيلا. (عن كراس «عبرة وذكرى»، وفيه مجموعة مقالات للدكتور تابت كتبها لمناسبة إعلان الدستور العثماني السنة 1909)
عبد الرحمن عزام1
النبي محمد أول وصوله إلى المدينة يضع أسس دولة ديمقراطية
شرع في الحال في بناء المسجد، وما هذا المسجد؟ وفيه كانت الآساس التي وضعها لصلاح الدين والدنيا، وأصبح معبدا و«برلمانا» ومقرا «للسلطة التنفيذية» ومركزا للقيادة العليا، منه تصدر الدعوة إلى الله، والشرائع لخلقه، وجميع الخطط والتدابير الإدارية والسياسية والعسكرية، وفيه تستقبل الوفود، ويلقن العلم.
كان المسجد، على سذاجة بنائه وأساسه، وعلى قلة الأوضاع فيه، يتناسب كل التناسب مع تياسر محمد وأصحابه وانصرافهم الجوهري من الأمر. ويذكر الناس في كل حين بهذه الحقيقة، وهي أن الانقلابات العظيمة، وأن النجاح فيها، أثر لهذه السهولة التي تعنى بالروح والخلق، لا بالافتنان في الأوضاع والإسراف في المظاهر.
ومن هذا المسجد نمت تدريجيا الإدارة الإسلامية إلى أن شملت الجزيرة كلها، ودانت الروم والفرس لها. وفي هذا المسجد اتخذت تدابير قد تكون مما استلزمته أسباب مؤقتة، وأحوال طارئة، ولكنها بما انطوت عليه من الحكمة السامية، وما صدرت عنه من الإدراك، كانت بذورا لأوسع الإدارات الإمبراطورية، وقواعد لأكبر إصلاح بشري. من هذه التدابير ظهرت يثرب وطنا لأهلها لا مسكنا لأقوام المتنازعين فيها، وطنا آمنا للمسلمين والمشركين واليهود، وللنازحين إليها من أية قبيلة كانوا، ولأي عنصر انتسبوا، عربا أو عجما.
فظهر لأول مرة معنى الوطن، يتساوى الناس فيه تحت نظام يعطي حقوقا ويلزم تكاليف، من غير نظر إلى الأحساب والأنساب والعصبيات والعقائد.
انظروا إليه
صلى الله عليه وسلم
يضع «دستور الوطن الجديد» في صحيفة بين أهل الأديان والأجناس تجعلهم جميعا وطنيين مكلفين الدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء عليه، متكافلين في الحرب والسلم، لا ينصرون غيرهم ولا يمالئونه على أهل الوطن، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، «وتكفل حرية العقيدة لأهل الوطن، وحرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم».
تبتدئ الصحيفة ببسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي
صلى الله عليه وسلم
بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.
ثم نقرر أن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، للمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، ثم نقرر لبقية اليهود المعاهدين ما ليهود بني عوف. ثم تذكر الصحيفة أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، إلى أن تقول: وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
بهذه الصحيفة انقادت إلى النبي سلطة يثرب الزمنية دون قصد، فقد اقتضت العهود أن تنص على حكم في حالة الخلاف، ولم يكن إلا هو ليحكم، ومنذ تلك الساعة وضع الحجر الأساسي لدولة الإسلام.
فقضى رسول الله على الفوضى، والإباحة للقوة، وجعل لأول مرة في البلاد العربية حق الأمة فوق حق القبيلة، وجعل مرجع إقامة الحدود إلى الله أي إلى شريعته، وإلى رسوله منفذ هذه الشريعة، وكانت إلى ذلك الحين تتولاها القوة الغاشمة وحدها، قوة العصبية لا تفرق بين المذنب والبريء. وبذلك غرس لاجئ إلى يثرب بذرة الحضارة في أشد الأقوام نزوعا إلى الاختلال والهمجية، ووضع نواة الإمبراطورية التي أزهرت قرونا طويلة، ولا تزال فخر المشرق، وحديث المغرب ... (عن مجلة «الراوي الجديد»، آب 1943)
محمد جميل بيهم
الثورة الفرنسية والمرأة
بينما كان الفريق الأكبر من نساء أشراف فرنسا مسترسلا في أواخر القرن الثامن عشر، كان فريق آخر من نسوة الشعب يتداول بما صارت إليه حالة المرأة، ويتحد على المطالبة بمساواة الجنسين. بيد أن الروح العامة كانت غير ملائمة لهذا الطلب؛ لأن معظم الأمة وفي مقدمتها العلماء الذين يسمون بالجماعين
Encyclopédistes
كانت تنكر عليهن المساواة. ولا جرم فقد كانت أفكار جان جاك روسو (1712-1778) هي السائدة على الرأي العام، ومعلوم كم كانت تعتبر المرأة قاصرة ومخلوقة لأجل لذة الرجل وانشراح قلبه.
وكانت الآمال في تحرير المرأة معقودة على الثورة الإفرنسية (1789) ولا سيما لما بذله الجنس اللطيف على مذبحها من التضحيات، من مثل مدام رولاند ولوسيل سمولن. ولكن حكومة تلك الثورة أنكرت الجميل وأيدت استعباد النساء. غير أنها مع ذلك أفادت القضية النسائية بطريق العرض بما ألفتت إليها الأنظار حينما أعلنت المساواة العامة، فانتصر للنساء بعضهم مثل سياس
1
وكندرست
Condorcet ، وكتب كثيرون - رجالا ونساء - مؤيدين حقوق المرأة، واشتهرت من بينهم في أثناء ذلك الآنسة أولامب دي كوج (1748-1793) وهي تعتبر في فرنسة بمثابة ماري ولستنكرفت في بريطانيا العظمى، أو حاملة لواء القضية النسائية.
أما حكومة الثورة فهي في الواقع لم ترد أن تقف محايدة إزاء القضية النسائية، وإنما أنكرت على أربابها اجتماعاتهم وضجتهم، واستكبرت تطرف بعض النساء، فأصدرت أمرا في سنة 1795 تحظر فيه على النساء الاشتغال بالسياسة والاشتراك بالاجتماعات، وشرعت تطاردهن حتى لم يعد يسمع لقضيتهن همس. ولما تبوأ العرش نابليون الأول قضى على كل أمل نسائي، وبنفوذه على متشرعي فرنسة جعل الأسرة في القانون بمثابة الفرقة العسكرية، قائدها الأب، وعلى المرأة والأولاد الطاعة العمياء، طاعة الأجناد.
ولما استعاد آل البوربون العرش (1814-1830) شرع بعض المفكرين يحركون من جديد بكتاباتهم أسلاك القضية النسائية فتهتز معها أفئدة جمهور من النساء على وجه خاص. وقد أنشأ بعضهن صحيفتين لهذه الغاية، وهما: جريدة «المرأة الحرة» و«الشرارة»، ولكنهما لم تكونا من ذوات الأعمار الطويلة؛ لأن الرأي العام كان لا يزال غير مستعد لقبول فكرتهما.
وقد عقد النسائيون الآمال على الجمهورية الثانية التي أعلنت سنة 1848، واستبشروا حينما استقبلت ممثلاتهم في قصر الحكومة، ووعدتهن خيرا، ولكن أجل هذه الجمهورية كان قصيرا، فعادت الملكية سنة 1852، وعادت معها الصرامة ضد المرأة، وأصدرت أمرا بنفي مدبرات الحركة النسائية.
وفي أثناء ذلك صار لبعض نساء فرنسا ضلع بالعلوم والمعارف، فشرعن يطالبن بحقوق المرأة بالحجة العلمية والبرهان، فألف فريق منهن الكتب، مثل مدام آدم
2
وجني داريكورت، وكتب فريق آخر منهن بالصحف مثل مدام أندره له يو وغيرها. وأنشأت حنة درون جريدة سمتها «رأي النساء». وفضلا عن ذلك استملن كثيرا من الرجال وأشهرهم ليون ريشر فنهضوا بقوة للانتصار لهن.
واستمر أنصار المرأة ، ولا سيما في أثناء شدة وطأة الملكية عليهم، يذكرون مواعيد الجمهورية فيحنون إلى عهدها، فعقدت بينهم وبين الحزب الجمهوري رابطة المصلحة وشرعوا بمظاهرة هذا الحزب. ولما أعلنت الجمهورية الثالثة (1870) الحاكمة الآن اعترفت لهم بخدماتهم، وهي وإن لم تحقق لهم أمانيهم إلا أنها أطلقت لهم حرية العمل، فدخلت القضية النسائية منذ ذلك في دور جديد. (عن كتاب «المرأة في التمدن الحديث»)
الشيخ مصطفى الغلاييني1
(1) الحرية الصحيحة هي التي ينالها الشعب بقوته
نالت الأمة العثمانية حريتها وأكثر البلاد غير مستعد لذلك، فإن لم نبذل الجهد لترقية الأقوام الذين لم يفهموا - إلى الآن - معنى الحرية والاستقلال الشخصي فلا تلبث الحكومة أن تتسفل وتتدنى إلى أخلاق هذه الأقوام، ثم لا يمضي زمن حتى ترجع الحالة إلى أشر مما كانت عليه؛ ذلك لأن الحرية الصحيحة هي التي ينالها الشعب بقوته دون مساعدة خارجة عنه، كالجيش مثلا أو كأن تمنح الحكومة الحرية للشعب من قبل نفسها دون مجبر.
أما الحرية التي تنال بواسطة الجيش فإنها تنتزع بواسطته، كما كاد يحصل في ثورة آستانة الأخيرة الشهيرة بفتنة 31 من مارس و13 من نيسان، أو تنتزع متى سكنت ثائرة ذلك الجيش وذهب رجاله إلى أهليهم.
وكذا الحرية التي تمنحها الحكومة دون ثورة من الشعب، فإنها تنتزع متى مات أو سقط السلطان المانح الحرية، كما حصل في الحرية التي منحها سلطان العجم لشعبه فإن خلفه انتزعها قسرا وأهرق دماء كثيرة في سبيل ذلك؛ فلو كانت الأمة هي التي طالبت بحقوقها وأصرت على نيل حريتها فلا يمكن أن تنتزع منها حريتها ما دام فيها رمق من الحياة.
فالثورة الحقيقية ليست ثورة الجيش لطلب الحرية، ولا ثورة خارجة لطلب حرية أمة، وإنما هي ثورة الأمة. وأفضل معاني الثورة هي الثورة الأدبية أو الأخلاقية؛ لأنها هي كل شيء، وكل معنى من معاني الثورة هو تابع لها على الدوام ... (2) القوانين يجب أن توافق البيئة والحالة الاجتماعية،
2
حق اللغة
وإن من الخطأ البين أن تقاس الأمة العثمانية الحديثة العهد بالحرية والدستور بأمة الفرنسيس أو السكسون فتحكم بقانون إحداهما؛ لأن الفرق الشاسع بيننا وبينهم يوجب علينا أن نسن لأنفسنا قوانين توافق بيئتنا وحالتنا الاجتماعية.
يجب أن يكون القانون الذي تحكم به آستانة وسلانيك وبيروت ودمشق وغيرها، غير القانون الذي تحكم به اليمن والأناضول وقسم عظيم من بلاد الأرناءوط؛ فإن البلاد الأولى وما هي على شاكلتها تحتاج إلى حكم أرقى من الحكم الذي تحتاج إليه البلاد الأخرى، وهذا مشاهد حتى يكاد يلمس باليد، وقد وضح وضوح الشمس بعد إعلان القانون الأساسي؛ فقد كان بون شاسع بين هاتين البلادين من حيث تأثير روح الحرية والدستور في نفوس أهليهما وعدم تأثيرها ... ... وأما ما يختص بالمعارف فالنظر فيه لا يقل عن النظر فيما سبق؛ فإن المعارف روح البلاد، وهي السبب الوحيد لإيقاظها وإنهاضها، فيجب الاهتمام بنظامها اهتماما عظيما بحيث يكون عاما شاملا لحاجات كل قطر من الأقطار العثمانية على اختلاف لغاتها ومذاهبها، فإن كانت الأنظمة المتعلقة بالحقوق والجزاء والمعاملات تصلح مثلا لبعض البلاد العربية والتركية معا، فإن النظام المتعلق بالمعارف لا يصلح منه ما يصح العمل به في آستانة وسلانيك لبيروت وحلب وبغداد وغيرها من الولايات العربية لاختلاف اللغة. وهذا من جملة شكاوى أبناء العرب التي ملأت الخافقين؛ فإن اللغة التركية كادت تمحو أثر اللغة العربية؛ فإنها - فضلا عن كونها لسان الدولة الرسمي - لسان العلم في مدارس الحكومة عامة في البلاد التركية والعربية على السواء، وكان الأولى بالحكومة أن تجعل لسان التدريس في كل بلاد بلغة أهلها ... فإنها إن فعلت ذلك تكون قد سعت لترقية البلاد ترقية محسوسة؛ لأن التلاميذ لا يدركون معنى العلم إن درسوه بغير لغتهم إلا بعد إتقان اللغة التي يدرسونه بها، ولا يتأتى لهم إتقانها إلا بعد مدة ليست بالقصيرة، وفي أثناء تلقي العلم يكون التلميذ مشغولا بتفهم العلم وتفهم الألفاظ التي تحوي ذلك العلم، فيكون علمه بسبب ذلك ناقصا مقتضبا؛ فلو درس التلميذ العلم بلغة أبيه وأمه فلا يشغل إلا بشيء واحد وهو تفهم معنى العلم الذي يتلقاه، وهذا سر عظيم يجب أن تتنبه إليه نظارة المعارف، وإن كان يسيء أكثر الشبان الأتراك المغرورين الذين يسعون جهدهم لتتريك عناصر الدولة ... (3) الثورة وخواطر في الانقلابات
الثورة نهوض يقصد منه تغيير في السياسة أو الاجتماع أو الأخلاق من قبيح إلى حسن أو حسن إلى قبيح، وقد يعبر عن الغاية الأولى بالانقلاب وعن الثانية بالهيجان.
3
وقد يخص القيام لطلب الحق بالانقلاب، والنهوض لمناصرة الباطل بالثورة، والثورة للحق من مطالب الأمم الراقية. غير أن النهوض لتغيير نظام السياسة لا يفلح أنصاره ولا تثبت دعائم مطالبهم إن لم يسعوا قبل ذلك لتغيير نظام الاجتماع والأخلاق حتى يكون للأمة استعداد لتلقي ما يراد إيجاده، وحتى لا تثور ضد ما يخالف الأنظمة القديمة والعادات السائرة فينتج حب التغيير عكس المقصود. ولو فرضنا أنها لم تثر ولم تعارض في جديد النظام وحديث التغيير، فإنها لا يمكن أن تستفيد من الإصلاح شيئا بل ربما يكون الإصلاح شرا عليها من عاداتها القديمة ولو كانت ضارة، وهذا قول ربما لا يسلم به كثير من الناس.
وإنه بقدر استعداد الأمة للحكم الدستوري والإصلاح تنتفع من ذلك؛ فإن نالت الدستور وأبيح لها الإصلاح غير أنها لم تستنتج شيئا فاعلم أنها أمة غير صالحة لهذه النعمة؛ لأنها لم تقدرها قدرها ولم تهيئ لها الأسباب اللازمة الكافلة ببقائها والمستخرجة لفوائدها. وليس الذنب على القوانين ولا على القائمين بتنفيذها، وإنما الذنب على الأمة التي تحكم بتلك القوانين؛ لأنها تدع منفذيها يفسرون موادها حسب مشتهياتهم دون معارضة ولا مصادمة. ... إن الأمة التي هي على هذه الشاكلة إن ثار في متنوريها وعظماء رجالها ثائرة الإصلاح السياسي قبل أن يتقدمه الإصلاح الأخلاقي وثورة الفلاسفة وأهل التربية، يكون ويلا عليها كما أسلفنا، فإن تم نوال الإصلاح السياسي قبل الأخلاقي وانتشرت في الأمة القوانين الراقية وحمل الحكام على القضاء بها، فترى تلك الأمة آسفة كل الأسف على ماضيها وعلى الحالة التي كانت فيها وتتمنى لو ترجع في حافرتها، مع أنه لا يشك عاقل في أن حالتها الحاضرة هي خير من حالتها الماضية، وأي ذي لب يشك في أن العدل والمساواة خير من الجور والحكم بمقتضى الهوى ورغبات النفوس الظالمة الفاسدة؟ ... ... لا جدال في أن شكوى هؤلاء إنما هي من الحكام لا من القوانين والانقلاب الدستوري.
من هؤلاء الحكام؟ أليسوا من الأمة؟ فلو كانوا راقية أفكارهم صحيحة أخلاقهم فهل كانوا كما هم اليوم؟ لا ريب أنهم لو تربوا تربية صحيحة وعودوا الحكم بالحق دون مراعاة ولا ميل لمنفعة، لرأينا منهم في هذا الدور السعيد رجالا ينهضون بالأمة ويقومون من اعوجاج أعمالها، فلنسخط إذن على الحكام لا على الدستور والحرية!
فإن قيل: إن الدور الماضي والدور الحاضر سواء لأن أكثر الحكام اليوم هم الحكام بالأمس. نقول: ذلك حق، ولكنهم بعد أن كانوا مطلقين صاروا مقيدين بإرادة الأمة، غير أنه لما لم يكن للأمة إرادة بل سلمت إرادتها إليهم أخذوا يرجعون إلى ما اعتادوه من ذي قبل شيئا فشيئا، فهل للأمة أن تقف في وجوههم وتجبرهم على عدم الخروج عن مواد القوانين الدستورية؟ فإن فعلت ذلك نجحت وجنت فوائد الأنظمة الجديدة، وإن بقيت كما هي اليوم خاملة مستكينة فالعاقبة غير حميدة! (عن مجموعة «أريج الزهر»، بيروت، 1911)
القسم الثالث
ملحق شعري
إلياس صالح (1870-1895)
الحرية
لا تلمني يا عاذلي بهواها
فأنا قيس هذه العامرية
وعلام الملام، والقلب قلبي
ومعي فيه حجة شرعية؟
فإذا كنت تدعيه فقدم
عرض حال للأعين
1
التركية ... وخبطنا العشواء لو كنت تدري
في ليالي تلك الشعور الدجية
واتخذنا سلاسل الشعر قيدا
فنسينا المسكينة الحرية!
أنت حر، يا أيها المرء، فاعلم
ولك العلم فيه والأسبقية
أنت حر، فاعلم بهذا، وعلم
أنت حر وهذه أولية!
يتمنى الإنسان لو كان عبدا
ويقيم الأدلة العلمية
ولكم قد رأيت من حيوان
يقضم الحبل بغية الحرية!
يا بني أمنا ذوي الفضل بل يا
معشر الناطقين بالعربية
لست عبدا أنا ولا أنت مولى
أيها اللابس الحلى الذهبية!
أحمد شوقي (1868-1932)
جيل بالجبابر لا يدين
لو كان من سفر إيا
1
بك أمس أو فتح مبين
أو كان بعثك من دبي
ب الروح أو نبض الوتين
وطلعت من وادي الملو
ك عليك غار الفاتحين
الخيل حولك في الجلا
ل العسجدية ينثنين
وعلى نجادك هالتا
ن من القنا والدارعين
والجند يدفع في ركا
بك بالملوك مصفدين
لرأيت جيلا غير جي
لك بالجبابر لا يدين
ورأيت محكومين قد
نصبوا وردوا الحاكمين
روح الزمان ونظمه
وسبيله في الآخرين
إن الزمان وأهله
فرغا من الفرد اللعين
فإذا رأيت مشايخا
أو فتية لك ساجدين
لاق الزمان تجدهم
عن ركبه متخلفين
هم في الأواخر مولدا
وعقولهم في الأولين!
النفوس لها ثورة
إن ملكت القلوب فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس
ر، فكيف الخلائق العقلاء؟
خليل مطران
من قصيدة «نيرون»
ذلك الشعب الذي آتاه نصرا
هو بالسبة من نيرون أحرى
أي شيء كان نيرون الذي
عبدوه؟ كان فظ الطبع غرا!
قزمة هم نصبوه عاليا
وجثوا بين يديه فاشمخرا
ضخموه وأطالوا فيئه
فترامى يملأ الآفاق فجرا
منحوه من قواهم ما به
صار طاغوتا عليهم، أو أضرا
إنما يبطش ذو الأمر إذا
لم يخف بطش الألى ولوه أمرا
لست محزونا على القوم، وهل
كبد تلفى على الأنذال حرى
من علينا من غريم غارم
إن أزرى الخلق شعب مات صبرا
ليس بالكفء لعيش طيب
كل من شق عليه العيش حرا!
إن روما جعلت نيرونها
وهو شر القوم مما كان شرا
بلغته الملك عفوا، فبغى،
كل ملك جاء عفوا راح هدرا
ليس في تشنيعه من بدعة
إن للخامل عند الذكر ثأرا!
لا ولا في ظلمه من عجب
إن للظالم عند العدل وترا!
من يلم نيرون، إني لائم
أمة لو كهرته ارتد كهرا
1
أمة لو ناهضته ساعة
لانتهى عنها وشيكا واثبجرا
2
فاز بالأولى عليها، وله
دونها معذرة التاريخ أخرى
كل قوم خالقو نيرونهم
قيصر قيل له أم قيل كسرى!
جميل صدقي الزهاوي (؟-1936)
ملك عن فعله ليس يسأل
لقد عبثت بالشعب أطماع ظالم
يحمله من جوره ما يحمل
فيا ويح قوم فوضوا أمر نفسهم
إلى ملك عن فعله ليس يسأل!
إرادة شخص واحد
نحن في غفلة نيام وعنا
نائبات الزمان غير نيام
نحن في دولة تداركها الله
نبيح المحظور للحكام
وعدها بالإصلاح جم ولكن
لا يجوز الإصلاح حد الكلام
نحن قوم قضت إرادة شخص
واحد أن نعيش كالأنعام
معروف الرصافي
يا ملوك الأنام هلا اعتبرتم
إنما نحن أمة تدرأ الضي
م ولا تستكين قط لوال
أمة سادت الأنام وطابت
عنصرا من أواخر وأوال
فإذا ما علا الغشوم نهضنا
فقذفناه سافلا من عال
نحن من شعلة الجحيم خلقنا
لذوي الجور لا من الصلصال
يا ملوك الأنام هلا اعتبرتم
بملوك تجور في الأفعال
فاتركوا الناس مطلقين وإلا
عشتم موثقين بالأوحال
بشارة الخوري
الأخطل الصغير
بين لويس وعبد الحميد
عاهل الغول لفتة ثم رحب
بطريد من الملوك شريد
قل له: يا لويس، ماذا جنى الم
لك وماذا جناه خفر العهود
قل له: كيف ثل عرشك، والعر
ش عليه يرف مجد الجدود
قل له: كيف قادك الجند بين الش
عب للقتل راسفا بالقيود
الدساتير والثورات
إن الدساتير لا تعطي أعنتها
إلا الأعاصير من جن ومن بشر
من هابط كقضاء الله مكتسح
أو صاعد كفم البركان منفجر
دماء الشباب في سبيل الحرية
يا دماء الشباب ما أنت إلا
ذائب الطيب، يا دماء الشباب
ادفقي رحمة ونورا، وكوني
جدول السفح أو هزار الغاب
لا تضني على الحراب وإن آ
ذتك، بل عطري رءوس الحراب
املئيها شذا، كما يملأ الور
د يد الجارحيه، بالأطياب
قطرة منك بسمة في فم الرف
ق، وسوط على يد القرضاب
كم سياج من الحديد تعفى
وسياج باق من الآداب!
ما خلا الغيل من دمشق إلى الشه
باء من حافز ومن وثاب
بسلاح من الحقوق المدما
ة نسيج القلوب والألباب
شهرت مثله فرنسا على الظل
م فردته من دم بخضاب!
يا فرنسا
لقني الطغيان درسا
ليس ينسى
وصلي باليوم أمسا
يا فرنسا ...
يظمأ المجد فلا يش
رب إلا من يديك
ويضام الحق حتى
يرفع الصوت إليك
كل فجر من جمال
بسمة في شفتيك
يا فرنسا
يعرف النصر على بعد لواك
ويغني السيف في الهيجا علاك
يا فرنسا
لا يسيل العطر إلا
من دماك
يا فرنسا
انشري الأضواء في الأفق البعيد
وابعثي فينا صداقات «الرشيد»
أنت والأرز شعار للخلود
يا فرنسا
سيفك المسلول في الشر
ق سيوف الدهر دونه
باركته القدس الثك
لى وحيته «المدينة»
صافح اليمن يمينه
قبل الشرق جبينه
يا فرنسا
لقني الطغيان درسا
ليس ينسى
وصلي باليوم أمسا
يا فرنسا ...
إلياس أبو شبكة
من قصيدة «الشاعر الحر يخاطب السلطان الظالم»
فأغمد الحر في عينيه
1
فوهته
من ناظريه، كبركان ببركان
وقال: ملكك ليس الشعب يا ملكي
فلست تملك إلا بعض عميان
كن من تشاء، كن الدنيا بكاملها
فلست تعدل صديقا بميزاني
جمال قلبي عريان على شفتي
ونور نفسي معقود بأجفاني
وكيف أكذب، والدنيا تصارحني
حتى قشوري، حتى جسمي الفاني؟
انظر إلى النهر في صفو وفي كدر
فهل تخفى على الصفصاف والبان؟
للنور في كل مجرى منه مصقلة،
وكل منعطف للحب ثديان
وانظر إلى حرمون الشيخ كيف بدا
فهل لهيبته الشماء وجهان؟
فذلك الجبل الجبار أطعمني
قوت النسور وهذا النهر رواني
خفف عتوك واغسل قلبك الجاني
للظلم يوم وللمظلوم يومان
عرش العتي على بركان منكره
شتيمة رخمت في قلب سكران
ما كان سلطان هذا الشعب سيده،
إن السيادة ما احتاجت لتيجان
خاتمة
... وهنا أيها القارئ نشرف على هنيهة الوداع بعد صحبة طويلة، وما أحبك أن تطوي الكتاب إلا وقد حملت معك هذه الخلاصة ذات السطور القليلة.
لقد شهدت موكبا حافلا من أدباء ومصلحين وقادة ثائرين وحوادث جسام في بلاد من العالم، وشهدت موكبا حافلا من أدبائنا ومصلحينا؛ شهدت الأفغاني والكواكبي والمراش والنديم وإسحاق والشميل والريحاني وجبران وغيرهم وغيرهم ... فعرفت أولا أن تاريخنا الفكري في مطلع نهضتنا الحديثة يباهي بصفحات خيرة نيرة من رجال جريئين متعمقين. وعرفت ثانيا أن هؤلاء الأفذاذ من أدبائنا ومفكرينا لم يبتروا ما بينهم وبين ماضينا، ثم لم يقطعوا ما بينهم وبين الدنيا، ثم لم يقفلوا على أنفسهم في «صوامع وأبراج»، ولكنهم شخصوا إلى قديمنا وتعلموا ، وأطلوا على العالم وتفقهوا، ونظروا في أحوالنا وشئوننا، وطلعوا من ذلك كله بلواء نقشوا عليه مطامحنا ورسموا أمانينا. أما هذا اللواء فهو الوطنية، وأما هذه المطامح والأماني فهي الحرية والرقي والهناء للأمة بخاصتها وعامتها.
لقد عرفت أيها القارئ أن وطنيتنا الحديثة ولدت في حضن الشورى والديمقراطية، واتجهت إلى الشعب، واستندت إلى قوته وكفاءته ومصلحته. طالبت وطنيتنا، أول شيء، بدستور ديمقراطي تصان حرمته، طالبت بمجلس نواب تنتخبه الأمة انتخابا حرا ليعبر عن إرادتها، طالبت بإطلاق الحريات للقول والاجتماع والكتابة والتنظيم، طالبت بإلغاء الامتياز وإعلان المساواة أمام القانون، طالبت بنشر الثقافة، وإدخال مجانية التعليم وإلزامية التعليم، طالبت بإنهاض مستوى المرأة؛ لأن «الأمة نسيج الأمهات.» طالبت بتربية قومية جامعة تشعر الفرد بالمسئولية أمام المجموع، وتؤاخي بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف المنابت والمذاهب؛ لأن «الدين لله والوطن للجميع.» طالبت بتشجيع المشاريع العمرانية لتحسين الزراعة وحالة الزراع، وطالبت بتنشيط أرباب الصناعة الوطنية وترقية حالة الصناع ...
لقد عرفت أيها القارئ كل هذا. وإنه لتراث مجيد، أثمره العقل النير وجاد به الشعور الخير، هذا التراث الذي خلفه لنا أدباؤنا ومفكرونا، وإن مسألة حفظه وحمايته وتكميله، في الدور الجديد الذي نقبل عليه ويقبل العالم خارجا من أشد المعامع هولا، لهي مسألة تتعلق بشرفنا ومصيرنا، نحن ورثة أولئك الميامين، السابقين في محاربة الاستبداد من أجل الشورى، ومكافحة الاستعباد من أجل الحرية!
أهم مراجع الكتاب
(1) المراجع الفرنسية (1)
Michelet, Histoire de la Révolution Française (1847-1853). (2)
Encyclopédie Française, vol. X, chap. IV (Les Libertés Individuelles, et autres chapitres ...) (3)
E. Lavisse (en collaboration avec P. Conard),
Histoire de France , Armand Colin, Paris, 1937. (4)
Rogie et Despiques,
Histoire de la France et de Sets Institutions , Reider,
(5)
L’Abbé Courval,
Histoire Moderne , tome II (1896). (6)
E. Herriot,
des Lettres Françaises , Rieder,
(7)
J. R. Block,
Naissance d’une Culture , Rieder, Paris. (8)
R. Rolland,
Les Pages Immortelles de J.-J. Rousseau , Editions Correa,
(9)
Diderot,
Extraits (édités par Les Lettres Françaises en Proche Orient). (10)
Montesquieu,
Extraits (édités par Les Lettres Françaises en Proche Orient). (11)
بيير فيلار: الثورة الفرنسية والمستعمرات (فصل نشرته مجلة «الطليعة»، عدد خاص بالثورة الفرنسية، دمشق، تموز 1939). (12)
سنيوبوس: تاريخ التمدن الحديث، تعريب «الكاتب المحجوب»، نشر دار الهلال، 1909. (13)
ديماس الكبير: روايته عن الثورة الفرنسية، نهضة الأسد ... إلخ، في أربعة أجزاء ومجلدين، تعريب فرح أنطون، مطبعة المعارف، مصر. (14)
غوستاف لوبون: روح الثورات والثورة الفرنساوية، ترجمة محمد عادل زعيتر، طبع عبيد إخوان، دمشق. (2) المراجع الإنكليزية والأميركية (1)
Carlyle,
History of the French Revolution , Modern Library Edition. (2)
H. W. Nevinson,
The Growth of Freedom , People’s Books, London. (3)
Randall,
The Making of the Modern Mind , Allen and Unwin. (4)
Encyclopedia of Social Sciences , Art Revolution. (3) المراجع الألمانية (1)
جورج كونيو: بعض الأسس التعليمية للثورة الفرنسية (مجلة «الطليعة»، دمشق، تموز 1939)، وفي المقال نصوص عن الثورة منقولة من كتب ألمانية عصرية شهيرة ك «خرافة القرن العشرين» لألفرد روزنبرغ ... إلخ . (2)
هكذا تكلم زرادشت: تعريب فيلكس فارس، مصر. (4) المراجع التركية (1)
محاكمة مدحت باشا: تعريب يوسف كمال حتاتة، مصر. (2)
عاطف باشا: مذكرات (نقل منها نصوصا الدكتور كامل عياد في مقالته: الثورة الفرنسية والشرق، مجلة «الطليعة»، دمشق، تموز 1939). (5) المراجع العربية (1)
مجموعة المحررات السياسية، المفاوضات الدولية، عن سوريا ولبنان، من 1840 إلى 1910، تعريب فيليب وفريد قعدان الخازن. (2)
محمد صبري: الثورة الفرنسية، دار الكتب المصرية، 1937. (3)
محمد فؤاد شكري: الحملة الفرنسية وظهور محمد علي، مطبعة المعارف، مصر. (4)
كامل عياد: الثورة الفرنسية والشرق (مقال في مجلة «الطليعة»، دمشق، تموز 1939). (5)
الأمير حيدر أحمد الشهابي: الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمان، الجزءان 2 و3، القسم الثاني في الحملة الفرنسوية على مصر وأوائل حكم الأمير بشير الثاني (نشر مديرية المعارف اللبنانية، 1933، بعنوان: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين). (6)
نقولا الترك: تاريخ نابليون (أخذنا شيئا من مقدمته المثبتة في حاشية تاريخ الأمير حيدر السابق الذكر). (7)
أنطون ضاهر العقيقي: مخطوطة له عن تاريخ لبنان من 1841-1873 (نشرها وعلق حواشيها يوسف إبراهيم يزبك، صدرت في منشورات مجلة «الطليعة»، 1836، بعنوان ثورة وفتنة في لبنان). (8)
رفاعة رافع الطهطاوي: تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، بولاق، الطبعة الحجرية. (9)
المطران الدبس: الموجز في تاريخ سورية، جزء 2، بيروت، 1907. (10)
روحي الخالدي: علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو، دار الهلال، 1912. (11)
أحمد فارس الشدياق:
الساق على الساق في ما هو الفارياق (طبع يوسف توما البستاني، مصر).
جمل أدبية (مدرجة في القسم الأول من مجالي الغرر لكتاب القرن التاسع عشر، جمع يوسف صفير، بيروت، 1898).
كنز الرغائب في منتخبات الجوائب، الجزء السادس، طبع الآستانة. (12)
نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي: زبدة الصحائف في سياحة المعارف، بيروت، 1879. (13)
بطرس البستاني: دائرة المعارف (بيروت، 1882) مواد شتى في أجزاء مختلفة، كمادة: روسو، ثورة ... إلخ. (14)
فرنسيس فتح الله المراش: غابة الحق، بيروت، 1881. (15)
جمال الدين الأفغاني: خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني، تأليف محمد باشا المخزومي، بيروت، 1931. (16)
عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد، مصر، 1905. (17)
عبد الله النديم: مجموعة مقالات، المطبعة الجديدة، مصر. (18)
شبلي الشميل: مجموعة مقالته، الجزء الثاني، مطبعة المعارف، مصر. (19)
أديب إسحاق: الدرر، المطبعة الأدبية ، بيروت. (20)
علي فهمي: مصطفى كامل باشا في 34 ربيعا، 9 مجلدات، القاهرة، 1908-1911. (21)
ولي الدين يكن:
المعلوم والمجهول، جزءان، مطبعة المعارف، مصر، جزء 1، 1909، جزء 2، 1912.
دكران ورائف : رواية، نشرتها مجلة «ألف ليلة وليلة»، بيروت، عدد 364. (22)
فرح أنطون: مقدمة الطبعة الثانية من تعريبه لرواية ديماس الكبير عن الثورة الفرنساوية. (23)
شاكر الخوري: مجمع المسرات، بيروت، 1908. (24)
نجيب الحداد: منتخبات، مصر. (25)
قاسم أمين: مجموعة مقالات، مصر. (26)
جرجي زيدان:
تراجم مشاهير الشرق (جزءان).
الانقلاب العثماني (رواية)، طبعة دار الهلال، مصر.
الماسونية.
رحلة زيدان إلى أوروبا. (27)
جبران خليل جبران:
العواصف.
دمعة وابتسامة.
الأجنحة المتكسرة، طبعة يوسف توما البستاني، مصر.
الأرواح المتمردة.
عرائس المروج.
البدائع والطرائف. (28)
أمين البستاني: مجموعة مقالات، دار الهلال، 1919. (29)
أمين الريحاني: الريحانيات، 4 أجزاء، بيروت، صادر. (30)
محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي: المراجعات الريحانية، الجزء الأول، وهي رسائل بينه وبين أمين الريحاني، المطبعة الأهلية، بيروت. (31)
ثورة العرب: بقلم أحد أعضاء الجمعيات العربية، نشر جريدة «المقطم»، مصر، 1916. (32)
رشيد رضا: الخلافة أو الإمامة العظمى، طبع مجلة «المنار»، مصر. (33)
فيلكس فارس: رسالة المنبر، مصر. (34)
الآنسة مي: المساواة، المطبعة الرحمانية، مصر. (35)
محمد كرد علي:
غرائب الغرب، جزءان، الأهلية، مصر.
مجلة «المقتبس»، السنة السادسة. (36)
أيوب ثابت: عبرة وذكرى (مجموعة مقالات كتبت لمناسبة الانقلاب العثماني، بيروت، 1909). (37)
الشيخ مصطفى الغلاييني: أريج الزهر، المكتبة الأهلية، بيروت، 1911. (38)
محمد جميل بيهم: المرأة في التمدن الحديث، بيروت، 1927. (39)
أنيس الخوري المقدسي: العوامل الفعالة في الأدب العربي الحديث، الحلقة الأولى: في العوامل السياسية، بيروت، الجامعة الأميركية. (40)
الأب لويس شيخو: أدباء القرن التاسع عشر، بيروت، 1908. (41)
عباس محمود العقاد: الثورة الفرنسية (مقال في مجلة «الطليعة»، دمشق، تموز 1939). (42)
محمد حسين هيكل: جان جاك روسو، مصر. (43)
طه حسين: آراء حرة، مجموعة محاضرات عن نخبة من أعلام حرية الفكر، بينهم فولتير، روسو ... (44)
سلامة موسى: حرية الفكر، مصر. (45)
رئيف خوري: حقوق الإنسان، دمشق، 1937. (46)
عبد الرحمن الرافعي: الجمعيات الوطنية، مصر. (47)
سليمان غزالة: الحرية البشرية، 6 أجزاء، بغداد، 1926. (48)
محمد عبد الباري: الحرية والدولة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر، 1926. (49)
إلياس أبو شبكة: روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة، دار المكشوف، بيروت، 1943.
Halaman tidak diketahui