وكانت لورانس قد ركعت، فأنهضتها أمها وقالت لها بعزيمة: قفي يا لورانس. فقالت: ماذا تفعلين يا أماه؟ أجابت: أفعل ما يجب علي، إني مفارقة بيتا لا تدخله ابنتي ... إني ذاهبة لأمزج دموعي بدموعك.
قال الأميرال: أترومين مفارقتي أنا زوجك؟! أجابت: نعم، لأصحب ابنتي النادمة. قال: افعلي ما بدا لك، وعسى أن يكون رحيلك ماحيا ذكرى أربعين عاما مضت وملؤها الإخلاص والحب. كنت أظن الموت وحده قادرا على تفريقنا، وعسى أن لا يطيل ربي بقائي فاذهبي، وأتى بحركة كأنه يطرد بها كل من أحب في هذه الدنيا؛ أي زوجته وابنته، إلا أن فؤاده كاد يتفتت، فترامى على مقعد وبكى، ولما رأى السير إيليا دراك دموعه أخذ يسعل ويتنحنح، ثم أخرج من جيبه منديلا وأظهر أنه يمسح فاه وهو في الحقيقة يمسح دموعه. أما لورانس فلما سمعت والدتها تتلفظ بتلك الكلمات تهلل وجهها سرورا، إلا أن يأس أبيها قضى على ذلك السرور، فقالت لأمها: انظري يا أماه إلى والدي فهو يبكي. إن الرجل الذي لم تؤثر فيه عاصفات المحيط ولا معارك البر والبحر يبكي الآن، فهل تتركينه؟ البثي معه يا أماه، وعسى أن لا يكابد ما كابدته من الوحشة والهجران.
والظاهر أن هذا الكلام أخضع الأميرال، وأثر فيه كرم الخلق الذي رآه من ابنته أكثر من دموعها وتوسلاتها، فصاح يقول: لورانس، لورانس! إنك غلبتني، فالبثي ولا تذهبي.
فنظرت إلى أبيها بقلق وكأنها لم تفهم. فقال لها: نعم البثي، فلو فارقتني أمك لما عشت بعد فراقها، ومع ذلك لم أقل كلمة لاستبقائها؛ لأنها فضلتك علي، ولكنك أنت أعدتها إلي ... أنت صاحبة الفضل؛ لأنك أتيت في طلب الرحمة ولم تحصلي عليها، فتعالي أيتها النادمة المسكينة، تعالي يا ابنتي أضمك إلى صدري، وعفا الله عما سلف.
1
فصرخت قائلة: آه يا أبت.
وارتمت على صدره وهي تبكي فرحا، ولبثت كذلك وقتا طويلا، فعطفت عليهما أمها تنجدهما بالعبرات الساجمة على خديها. أما السير إيليا دراك فلم يتمالك أن وثب إلى الأميرال ليهنئه، ولكنه لما حاول ذلك منعه الانفعال عن النطق، وأحس بدمعه يسقط على خديه، فقبض على يدي الأميرال وهزهما بقوة ثلاثا وخرج مسرعا. فتمشى على رصيف الشارع لتعود إليه سكينته، وجعل يقول: وايم الحق إن ما فعله الأميرال حسن، بل حسن جدا، ولو كان في مكانه أميرال إنكليزي لما كان يفعل أحسن، ولكن ألم يقل إن إخلاص ابنته غلبه؟ إنه واهم، فهو لم يغلب ولكنه خرج من هذا المأزق ظافرا منتصرا، فانكساره هذا يرفع منزلته؛ بل يشرفه أكثر من جميع انتصاراته، ولئن كان الظفر بالعدو فوزا فالظفر بالنفس فوز أعظم!
ولما وصل إلى الفندق لقي الخادم الهندي ملطار عنده، فقال له: إني أتيت ناقلا إليك نبأ خطيرا، لعلك تتلافى خطرا كبيرا ...
وحدثه الهندي فقال له: إنه سمع محادثة بين سيده والمسيو بلميري مؤداها أن هذا الأخير طالب الكونت بوعده له؛ لأنه يروم الاقتران بابنته، فاستمهله الكونت فأبى. ثم قال ملطار: بحق السماء، هل من وسيلة لمنع ذلك القران؟ فحرام تضحية سيدتي الصغيرة بتزويجها بلميري، قال دراك: فضلا عن أنها تحب رجلا آخر على ما أعلم، ثم جعل يخاطب نفسه بقوله: بلميري؟ بلميري؟ إنني أذكر هذا الاسم.
الفصل التاسع
Halaman tidak diketahui