فأجابها روبر قائلا: كلا يا سيدتي، لم أكن أرجو المثول بحضرتك والوصول إلى هذه السعادة، وكان صوت روبر يرتجف لشدة تأثره عند رؤية أمه، فقد أورثه ذلك التلاقي اضطرابا جديدا، فلاحظته أمه زوجة الأميرال، فقالت وهي تبتسم لتشجيعه في موقفه: لم هذا الانفعال؟
فأجابها: إنه ناجم عن عظيم تقديري لأعمالك الخيرية وصيتك البعيد المدى. - ألا تغال يا سيدي، والمرء لا يفعل خيرا بمقدار ما يجب عليه.
فقال بلهجة التهكم: إن ابنتك قد شذت عن هذه القاعدة شذوذا لا مثيل له في النبالة، فهي الكريمة المحسنة التي تأتي الأعمال الصالحة بالنيابة عن غيرها.
قالت: لست أعجب من لورانس إذا صنعت ذلك، فحدثني به؛ لأن ابنتي تكتم عني حسناتها. فهم بالكلام، إلا أن الكونتة اعترضته قائلة: لا فائدة من ذلك، فلا تقل لأمي ... إني أتوسل إليك! ... فانحنى روبر وقال: لا تخافي أيتها السيدة، فإنني لا أتكلم عن إحسانك إلا بما ينبغي الإشادة بذكره. ثم التفت إلى زوجة الأميرال وقال: إن المسألة تتعلق بوالدة تركت ولدها ...
فاصفر وجه مدام دي لامارش، وقالت: تركت ولدها؟!
قال: نعم، أعني ابنتها ... وأراد أن يحول ظنون مدام دي لامارش بقوله ابنتها حتى لا تظن أنها هي المقصودة بالكلام، ثم قال: إن ابنة المرأة التي تركتها والدتها كبرت محرومة حنوها، وعاشت منفردة خالية إلى أشجانها، وأتاح لي القدر أن أعرف الكونتة دي موري لتأخذ بناصر تلك الابنة المنحوسة، وتحل عندها في التعزية وجبر القلب محل تلك الوالدة الشاذة عن كل الأمهات ...
فلم تدعه زوجة الأميرال يتم كلامه، بل قالت: إن هذه الكلمة التي تلفظت بها عن والدة؛ قاسية جدا، وربما كانت تهمة باطلة، فصدقني يا سيدي، وارث للأمهات اللواتي قضى عليهن واجبهن الاجتماعي العتيق الصارم بأن يفارقن أولادهن، إنهن أحق من كل إنسان بالرأفة؛ إذ لا يوجد ما هو أمر ولا أفظع من لوعة أم تضطرها هذه الواجبات التي أملتها أنانية البشر على عقول الطبقات المحكومة من الناس وأسمتها شرائع وقوانين، إلى ترك حشاشة كبدها وحرمانها تلك العاطفة الوالدية التي تكفكف بها عبرات ولدها وترصد ابتسامته الأولى! ألا فكر في شقائها، فإنها لا تسمع صوته ولا تتلقى قبلة من شفتيه ولا تراه أبدا، وزد على ذلك ما هو أدهى وأنكى؛ فإنها لا ترجو أن تراه ذات يوم، ولا تدري إذا كان يقاسي البؤس والشقاء بعيدا عنها، ذلك لا يطاق يا سيدي، وحرام عليك أن تتهم والدة ثكلى، فخير لها أن تعلم بموت ولدها من أن تحرم لقاءه إلى الأبد.
فصاحت الكونتة: ما هذا الكلام يا أماه؟! وهل تؤثر والدة موت ولدها على حرمانها لقاءه؟!
أجابت: نعم، فإنها تعلم إذ ذاك أنها إنما ترثي لنفسها وتبكي على نفسها، وأن الله قد أنقذ ولدها من نكد الدهر وشقاء الحياة، ذلك خير لها من اليأس والبكاء سرا، وتصور ولدها يناديها في جوف الليل متألما ويطلبها ويستنجد بها، وهي عاجزة عن إسعافه. فمن الظلم الفادح أن نقسو على أم منكوبة، وإنما يحسن أن نسأل الله أن يقصر أيامها ويصرم أجلها!
فلبث روبر جامدا مبهوتا وقد تبدد ما كان يضمره من حقد على والدته، وبردت نار ضغينته، وعلم أنه كان مخطئا في اعتقاده، جائرا في حكمه إذ ظن أن والدته تركته غير مكترثة له، أما الآن فعلم أن جرحها دام لا يندمل، وأن عبراتها لا تجف لوعة وتحسرا، فقال: ولكن كيف تفعل الأمهات لاحتمال شقائهن بعد فقدهن لأولادهن؟
Halaman tidak diketahui