حسنا، ربما كان سيصبح الأمر على ما يرام إن كنا قد أقمنا في ميلانو وشاركنا في سباقات الخيل في ميلانو وتورينو؛ ذلك أنه إذا كان هناك أية مضامير يسهل التسابق فيها، فهي في هذين المكانين. «تماما كالعزف على البيانولا يا جو.» كان هذا هو ما قاله أبي حين نزل عن فرسه في حجيرة الفوز بعد سباق الحواجز الذي رأى الإيطاليون أنه سباق رائع. سألته ذات مرة، فقال: «التسابق في هذا المضمار سهل للغاية. أهم ما في الأمر هو الوتيرة التي تسير بها، ذلك هو ما يجعل قفز الحواجز خطيرا يا جو. إننا لن نسير بأي وتيرة سريعة هنا، كما أن الحواجز ليست بالحواجز الخطيرة أيضا. غير أن الوتيرة هي ما يسبب المتاعب دوما، لا الحواجز.»
كان مضمار سان سيرو هو أروع مضمار رأيته، لكن أبي كان يقول إن حياتنا مملة للغاية؛ إذ كنا نتردد ذهابا وإيابا بين ميرافيوري وسان سيرو ونركب الخيل كل يوم تقريبا ونركب القطار كل ليلتين.
كنت مهووسا بالخيول أيضا. ثمة شيء مميز فيها حين تخرج وتتجه إلى مواقعها في المضمار. إنها تبدو رشيقة تتراقص بينما يمسك الفرسان بزمامها بإحكام أو ربما يرخونه قليلا ليسمحوا لها بالجري بعض الشيء وهي تتجه إلى مواقعها. وحين تصبح عند الحاجز، كان ذلك هو أكثر ما يأسرني. لا سيما في سان سيرو حيث الميدان الأخضر الكبير والجبال البعيدة وذلك الإيطالي البدين الذي يصدر إشارة البدء وهو يحمل سوطه الكبير والفرسان يتحركون بها قليلا، ثم ينفتح الحاجز ويدق الجرس، وتنطلق جميعها معا، ثم تبدأ في التباعد بعضها عن بعض. أنت تعرف كيف تنطلق مجموعة من الخيول. إذا كنت في منصة المتفرجين تراقب الأمر بمنظارك، فكل ما تراه هو اندفاعها بسرعة ثم ينطلق ذلك الجرس ويبدو الأمر كما لو أنه يدق لألف عام، ثم تستدير حول المنعطف. لم أر شيئا كهذا على الإطلاق.
غير أن أبي قال ذات يوم في غرفة تغيير الملابس بينما كان يرتدي ملابسه العادية: «ليست هذه بخيول يا جو. إن مثل هذه الأحصنة الهرمة كانت لتقتل في باريس لجلودها وحوافرها.» كان ذلك هو اليوم الذي فاز فيه بجائزة بريميو كوميرتشو إذ دفع بفرسته لانتورنا في آخر مائة متر إلى خارج الميدان مثلما تندفع الفلينة من الزجاجة.
بعد بريميو كوميرتشو مباشرة، توقفنا عن المشاركة في أي نشاط وغادرنا إيطاليا. كان أبي وهوربروك وإيطالي بدين، كان يرتدي قبعة من القش وظل يمسح وجهه بمنديل، يتجادلون في مقهى بالجاليريا. كانوا جميعا يتحدثون بالفرنسية، وكان الرجلان يريدان شيئا من أبي. وفي النهاية توقف أبي عن الكلام وجلس هناك ينظر إلى هولبروك، وظل الاثنان يحاصرانه بالكلام، يتكلم أحدهما أولا ثم يتكلم الآخر، وكان الإيطالي البدين يقاطع هولبروك دائما.
تحدث أبي قائلا: «هلا خرجت وابتعت لي نسخة من جريدة «ذا سبورتسمان» يا جو؟» وأعطاني عملتي سولدو دون أن يحول نظره عن هولبروك.
وهكذا خرجت من الجاليريا وسرت إلى أن وصلت أمام دار أوبرا سكالا وابتعت الجريدة، وعدت ووقفت بعيدا بعض الشيء؛ لأنني لم أشأ أن أقاطعهم. كان أبي يجلس مسندا ظهره في مقعده ينظر إلى قهوته في الأسفل ويعبث بملعقة، وكان هولبروك والإيطالي البدين واقفين، وكان الإيطالي البدين يمسح وجهه ويهز رأسه. دخلت وتصرف أبي وكأن الرجلين لا يقفان هناك وقال: «أتريد آيس كريم، يا جو؟» نظر هولبروك إلى أبي وقال ببطء وتمعن: «يا حقير!» وخرج هو والإيطالي البدين من بين الطاولات.
جلس أبي هناك وابتسم لي بعض الشيء، لكن وجهه كان شاحبا، وبدا سقيما للغاية، وكنت أنا خائفا وشعرت بالغثيان بداخلي؛ لأنني كنت أعرف أن شيئا ما قد حدث، ولم أتخيل أن أحدا قد يصف أبي بأنه حقير وينجو بفعلته. فتح أبي جريدة «ذا سبورتسمان»، وراح يقرأ عن سباقات الخيل لبعض الوقت ثم قال: «عليك أن تتحمل الكثير من الأمور في هذا العالم يا جو.» وبعد ذلك بثلاثة أيام، غادرنا ميلانو إلى الأبد في قطار تورينو المتجه إلى باريس، بعد إقامة مزاد أمام إسطبلات تيرنر بعنا فيه كل ما لم نستطع حمله في صندوق وحقيبة.
وصلنا إلى باريس في الصباح الباكر في محطة طويلة وقذرة، أخبرني أبي بأنها محطة ليون. كانت باريس مدينة كبيرة للغاية مقارنة بميلانو. في ميلانو، يبدو لك أن كل فرد يتجه إلى مكان ما وأن عربات الترام تذهب إلى وجهة ما، وليس هناك أي نوع من أنواع التخبط، أما باريس فتعمها الفوضى وهم لا ينهونها أبدا. غير أنني قد أحببتها، أحببت جزءا منها على أية حال؛ ذلك أن بها أفضل مضامير السباقات في العالم. يبدو أنها كانت هي ما يملأ المدينة بالحيوية والحركة، والشيء الوحيد الذي يمكنك أن تعول عليه هو أن الحافلات تسير كل يوم على خطها المقرر، مارة بكل الأماكن التي يجب أن تذهب إليها في مسارها. لم أتمكن قط من معرفة باريس جيدا؛ إذ إنني كنت آتي إليها من ميزون مع أبي تقريبا مرة في الأسبوع أو مرتين، وكان هو دائما يجلس على مقهى كافيه دي لا بيه على جانب الأوبرا مع مجموعة من أصدقائه من ميزون، وأعتقد أن تلك المنطقة من أكثر مناطق المدينة ازدحاما. بالرغم من ذلك، فلا بد لي من القول إنه من الغريب أن مدينة كبيرة مثل باريس لا يوجد بها مركز تجاري مثل الجاليريا، أليس كذلك؟
حسنا، لقد ذهبنا لنعيش في ميزون-لافيت، حيث كان يعيش جميع أصدقائنا ما عدا المجموعة التي كانت تعيش في شانتيي، وقد كنا نعيش مع امرأة تدعى السيدة مايرز وكانت تدير نزلا. تكاد تكون ميزون هي أروع مكان للعيش رأيته في حياتي. ليست المدينة بالشيء الكثير، لكن بها بحيرة وغابة رائعة كنا نتسكع فيها طوال اليوم، أنا وبعض الفتيان، وقد صنع لي أبي مقلاعا أصبنا به العديد من الأشياء، لكن أفضلها كان طائر عقعق. وفي أحد الأيام، أصاب به دك أتكينسون الصغير أرنبا ووضعناه تحت شجرة وكنا جميعا نجلس حوله، وكان لدى دك بعض السجائر، وفجأة قفز الأرنب وأسرع إلى الأجمات وطاردناه، لكننا لم نتمكن من العثور عليه. لكم حظينا بالمرح في ميزون. كانت السيدة مايرز تعطيني الغداء في الصباح وكنت أقضي طوال النهار خارج المنزل. تعلمت أن أتحدث الفرنسية بسرعة. إنها لغة سهلة.
Halaman tidak diketahui