وعاد بالكرسى وهو يقول ضاحكا: «لكأنما كنت أظن أنك ستجلسين القرفصاء وتكتبين على حجرك.. لم تشهدى ذلك العهد بالطبع.. لا يمكن فإنك ما زلت صغيرة.. أوه جدا.. ولكن أين تعلمت الكتابة على هذه الآلة؟.. معذرة إذا كنت أتطفل، ولكن المصريات يندر.. جدا أن تعنى واحدة منهن بذاك».
قالت: «أضطررت أن أتعلم.. صنعة فى اليد أمان من الفقر ...». وابتسمت، فقال: «أهو ذاك ؟ معذرة، كان سؤالى فضولا منى لا يغتفر ... سامحينى».
فسرها منه هذا الأدب، وقالت: «ليس هذا سرا.. ألست أعمل؟ لست هاوية بالطبع».
فقال: «إذا كنت تعملين فى مكتب.. فإنك ولا شك تعرفين لغة أجنبية أو اثنتين.. ف.. ف..».
قالت: «أعرف الانجليزية.. وأصبحت أعرف من الفرنسية ما يكفى للنسخ.. وأتكلمها أيضا، فإننا جميعا نتكلمها هناك».
فقال: «أوه لست أريد أن أفتح لك محضر تحقيق.. معذرة مرة أخرى». ورفع يده إلى جبينه العريض ومسحه، وقال: «هذه أول مرة أرى فيها مسلمة تشتغل بالنسخ - وضحك - أرانا نتقدم.. أليس كذلك»؟
وكانت قد شرعت تدق على الآلة الكاتبة، فاكتفت بالابتسام..
وتركها هو بعد ذلك وخرج بعد أن قال لها أن فى وسعها أن تطلب ما تشاء من الخادم.. أى شىء.. قهوة.. شاى.. أكل.. كل ما فى البيت تحت أمرها..
ولكنها لم تطلب من الخادم شيئا، ولم تقلق راحته بل أقبلت على الآلة تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة، وتخرج له من كل ورقة نسختين. واستغرقها العمل، ووجدت فيه متعة لا عهد لها بها فى مثله.. فقد كانت هذه رواية تنقلها - استعدادا لطبعها ولا شك - وكانت الصور التى يرسمها المؤلف - هذا الشاب الوسيم المؤدب - تتجسد لها، والمواقف تتمثل وهى تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة. وكانت نفسها تجيش بمثل العواطف الموصوفة والإحساسات المصورة، فتضحك تارة، وتخنقها العبرة تارة أخرى، وتعبس حينا.. وترى نفسها تنطق الألفاظ التى تدقها بقوة وعنف كأنها تمثل ما تقرأ أو كأنما كان الأمر حقيقة لا خيالا. وكانت بعد ورقة تلقى فى السلة على المكتب، وهى ذاهلة عن كل شىء. فما قامت مرة، ولا تمطت لتريح أعضاءها المكدودة وتحرك أصابعها التى كادت تتشنج وتتصلب أو تتخشب، ولا شعرت بظمأ أو جوع، ولا كان لها بال إلا إلى هذه الرواية التى تقرأها وهى تنسخها. ولقد كانت مشغولة أيام المدرسة بالروايات والقصص، ولكنها منذ ثلاث سنوات لم تقرأ رواية، وإن كانت قد ذهبت مرارا إلى السينما - وهى مطمئنة - فإن أباها من ألد أعداء السينما . ومع ذلك كانت تتحرز وتلقى على وجهها نقابا خفيفا شفافا، حتى حين تمشى فى الطريق كانت تتنقب زاعمة أن هذا وقاية من الشمس والتراب.
ولم تشعر بعبد الحميد - فقد كان هذا اسمه - حين دخل عليها، ووقف ينظر إليها أكثر من دقيقتين. فلما رآها لا تنظر إليه ولا ترفع عينها إليه عن الورق ولا تتمهل أو تتباطأ فى العمل، قال: «معذرة.. إن هذا انتحار».
Halaman tidak diketahui