وقفت ليلى أمام المرآة تصلح شعرها، وتضع فيه المشابك وتسويه براحتها وأناملها، وتثنى شعرات منه هنا وترد أخرى إلى مكانها هناك، ثم تناولت المثبنة وفتحتها ونظرت فيها هنيهة ثم قلبتها على المنضدة ونفضتها بأطراف أصابعها، ثم نحتها وراحت تتأمل ما أفرغته منها. ثم هزت رأسها آسفة، وشرعت ترد الأشياء إلى الحقيبة: المشط والمنديل وثلاثة طوابع بريد بثلاثة ملاليم.. لا شىء غير ذلك.. حتى ولا أجرة الترام إلى عملها الجديد الذى فازت به. وما غناء ثلاثة من طوابع البريد بثلاثة ملاليم.. لو كانت عشرة لباعتها وركبت، إن المسافة طويلة من حدائق القبة إلى شارع سليمان باشا. ولو كانت عشرين لباعتها أيضا - لتركب - فإن المشى يسهل أن يحتمل إذا كان معها قرش تأكل به. كلا.. لابد أن تصبر على الجوع، وأن تتجلد وتحتمل المشى مع الطوى، وما بقى سوى يومين ثم تقبض أجرها عن هذا الأسبوع الأول. ولكن هل تستطيع أن تحتمل الجوع وتعب العمل والمشى يومين كاملين؟ وأبت أن تفكر فى هذا وأن تدعه يثبط همتها وقالت لنفسها إن حسبها أنها وفقت إلى عمل، وأنه فى وسعها أن تظل حية إلى اليوم. وهبطت على كرسى وهى تقول «آخ» لا من التعب بل مما ستلقى فى يوميها هذين. ومر أمام عينيها كشريط السينما ما كان من أمرها إلى الساعة، فقد تخرجت فى المدرسة السنية ولكنها لم تشتغل بالتدريس.. فقد أحبت فتى رشيقا أغراها بنفسه ووعدها بالزواج وكرر الوعد وأكده وأقسم على الحفاظ - وما أسهل بذل هذه الوعود على الشبان - حتى فاز منها بما يبغى. وألحت عليه تطلب منه الوفاء. وتوسلت إليه، وبكت وقبلت يديه ورجليه. ولم يكن هو ينوى الوفاء، ولا كان هذا فى وسعه.. فما كان سوى عامل فى مصنع، وإن كان مظهره يوهم أنه من الوجهاء. ولم يكن يدرك ما تورط وورطها فيه - وماذا عسى أن يخشى مثله؟ ولكنها هى كانت لا يخفى عليها ما هى صائرة إليه من الفضيحة لا محالة إذا لم تعجل بالتدبير المنقذ. وليتها أطلعت أمها على ما كان من أمرها مع هذا الفتى.. ولكن ما جدوى «ليت» بعد ثلاث سنوات قضت فيها الحسرة على الأم المسكينة ولم ترقق قلب أبيها الغليظ؟ وكانت ليلى تخشى ضعف أمها وقوة أبيها فلم تجد أمامها الا فتاها تلقى بنفسها عند قدميه باكية متوسلة، وهو يرى تضعضعها هذا فيتجبر ويتغطرس ويتحكم ويدعوها أن تفر معه. وتتردد وتحجم عن هذه الخطوة الحاسمة التى لا رجعة بعدها إلى أهلها، فإن أباها عنيف عنيد يؤثر أن يقتلها على أن يقبلها فى بيته. بل هو لا محالة قاتلها إذا عرف الحقيقة، وإذا أطاعت فتاها وفرت. وسيعرف الحقيقة إذا بقيت فالفرار أنجى. وقد لا يكون أشرف، ولكنه سبيل الحياة إذا شاءت أن تبقى حية. وقد كان ... فرت مع هذا الفتى وحملت معها فى حقيبة الثياب حليها وشيئا من حلى أمها أيضا، وقد نفعها ذاك فما أقامت مع الفتى إلا أياما فى فندق زرى، وكان ظنها أنها ذاهبة إلى بيته، وأنها ستكون زوجة له، فيكون مما يرجى، أن تغتفر زلتها على جسامتها.. فإذا بالفتى لا يريد إلا أن يقضى أياما فى متعة خالصة ثم يلقى بها عظمة بعد أن أكلها لحما. فكادت تجن ... واغتنمت فرصة خروجه من الفندق يوما، فحملت حقيبتها وأدت حساب الفندق، وانطلقت على غير هدى. وصارت المسألة «أين تذهب»؟ بيت أبيها لا سبيل إليه، وأترابها فى المدرسة ... كلا، هذا أيضا ممتنع. وتذكرت وهى واقفة فى محطة للترام صديقة لها كانت من جيرانها فى زمن الحداثة، وهى الآن «حكيمة» فى قصر العينى. ولكن الحكيمات فى هذا المستشفى يبتن فيه ولا يخرجن إلا أياما معلومة، فما العمل؟.. ولم يطل ترددها فذهبت إلى العيادة الخارجية، وسألت تلميذة لقيتها فيها عن صاحبتها، واتفق أنها كانت تعرفها فدلتها عليها وأنبأتها أنها تعمل فى قسم الرمد، وكتبت إليها ورقة بعثت بها مع خادم أو «تمورجى» كما يسمى فدعتها الحكيمة إليها.. وكانت هذه المقابلة بداية الفرج.
أقامت ليلى بعد ذلك مع أهل الحكيمة، وكانتا تلتقيان يوم الأحد ويوم الخميس والجمعة إلى المساء - كل أسبوعين مرة - وكانت ليلى ربما اشتاقت إلى صديقتها فى أيام عملها بالمستشفى فتذهب فى الظهر أو فى الساعة التاسعة لتراها وهى خارجة من المستشفى فى طريقها إلى «الهوستل» حيث الطعام والنوم، فتحدثها دقائق ثم تكر راجعة إلى البيت. وكانت المسألة التى تشغل البنتين هى كيف ينبغى أن تحيا ليلى. فقد كان مفهوما أن إقامتها فى بيت صاحبتها ليست سرمدا، وإن كانت تنفق على نفسها من ثمن ما تبيعه من الحلى.. فإن لهذا آخرا على كل حال. وكان مما فكرا فيه أن تعمل فى عيادة أحد الأطباء، ولكن ليلى أشفقت أن تلتقى عنده بأحد من أهلها أو معارفها. وخطر لهما أن تعمل فى مصلحة التليفون ولكن السعى أخفق ولم تجد وساطات الأطباء الذين استعانت بهم «الحكيمة» فقد تحول التليفون وانقلب. «أوتوماتيكيا» فما الحاجة الى بنات جديدات؟ وخشيت أن تشتغل بالتعليم فى مدرسة أهلية فيهتدى إليها أبوها، وكان خوفها من ذلك عظيما. وأخيرا اقترح عليها طبيب أن تتدرب على الآلة الكاتبة، ففعلت وأتقنت ذلك حتى صارت تكتب ثمانين كلمة فى الدقيقة، وأعانها الطبيب وألحقها بمكتب يتلقى طلبات «النسخ» ولكن العمل كان قليلا لأن أكثر ما كان يطلب كان باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت تعرف الإنجليزية فقد تعلمتها فى المدرسة، فلم يسعها الا أن تتدرب على كتابتها على آلتها، وسهل عليها بعد ذلك أن تستطيع «نسخ» الفرنسية أيضا، فإن الحروف واحدة وإن كان جهلها بهذه اللغة قد جعلها أبطأ. غير أن السرعة يمكن أن تجىء مع الوقت.
واستغنت على الأيام عن المقام فى بيت صديقتها، وإن كانت صلتها بها قد بقيت وثيقة فإن فضلها عليها كبير، وجميل صنعها معها ليس مما يجحد ولا مما ينسى، حتى لو نزعت نفسها إلى الكفران. وأفلس المكتب فانتقلت إلى سواه بعد عناء، على الرغم من أنها أصبحت معروفة فى هذا المحيط.. محيط الكاتبات الناسخات. وكانت حليها قد ذهبت جميعا فى نفقات الحياة وأجور التعليم وسد النقص.
وها هى ذى الآن قد التحقت بمكتب جديد، بعد أن ظلت عاطلة شهرين أكلت البطالة فى خلالهما القليل الذى كان مدخرا.
ونهضت عن الكرسى وهى تتنهد، وتناولت حقيبتها لتخرج إلى عملها. وكانت الساعة السابعة.. فأمامها ساعة كاملة للمشى إلى المكتب، وقد عرفت بالتجربة أن الساعة فوق الكفاية، ولكن فسحة الوقت خير من ضيقه. ومضت إلى بابها لتفتحه وتخرج، وإذا بقرع خفيف عليه.. فقالت: «تفضل»، فدخل رجل بدين وسلم وقال: «أراك خارجة» فقالت: «نعم» وهمت أن تقول أنها مضطرة إلى التبكير، ولكنها كبحت نفسها فما يعنيه هذا، فقال: «أجرة الغرفة عن ثلاثة أسابيع.. ألا يمكن أن تعطينى منها شيئا على الحساب»؟
فقالت: «آسفة.. وإنى لشاكرة لك هذا الصبر كله.. والعطف أيضا.. وبعد يومين.. أقبض أجرة الأسبوع فأعطيك شيئا».
قال: «إنك تحرجيننى مع زوجتى.. هذا الصبر الطويل ليس له عندها إلا معنى واحد. وقد أنذرتنى اليوم.. وعبثا أحاول أن أفهمها الحقيقة.. لا تريد أن تفهم.. كل ما تعرفه أن الأجرة تأخرت ثلاثة أسابيع. وكل ما تريده هو أن تؤدى إليها هذه الأجرة أو تخرجى اليوم».
قالت: «ألا يمكن أن تمهلونى يومين اثنين.. أين أذهب إذا خرجت اليوم.. ليس لى مكان آخر». فهز الرجل كتفيه الغليظتين، ولم يقل شيئا.
فدنت منه ليلى، وقالت: «أرجو أن تمهلنى.. كن شفيعى عندها».
فقال: «لو كان الأمر إلى لما تقاضيتك شيئا قط.. ولكنك تعرفين زوجتى.. ولست أعرف لى حيلة».
Halaman tidak diketahui