قال: «لا، إنك لا تعرف.. إن الحكاية طويلة ولكنى أختصرها لك فأقول: إن أحد السياح الأمريكيين كان هنا فى الشتاء الماضى، فاتصلت به بطبيعة الحال - صديقى تاجر عاديات - ورأى أبنائى فنصح لى - وهو طبيب - أن أعنى بحياة أبنائى الرياضية، وأن أتخذ لهم معلما. هذه هى الحكاية.. وقد نسيت أن أقول إن أحدهم كان مريضا».
قلت: «هذا ما قلت.. تقليد ليس إلا.. ما علينا.. أين الحقيبة؟ فلست أنوى أن أقيم فى مصحة».
ولكنى أقمت فى المصحة وإن كنت قد استطعت أن أتقى هذا «التصحيح» الذى يجرى على أبناء مضيفى.. •••
والأقصر - إذا كنت مقيما فى بيت لا فى فندق - مملة، لأن الحياة كلها فى الفنادق، وقد حزمنى صاحبي وألقانى فى بيته. فلم أكن أخرج إلا نهارا لأزور الآثار، فإذا جاء الليل ذهبنا إلى شرفة الفندق ومكثنا قليلا، ثم عدنا إلى البيت لنتعشى حتى ولو كنت غير جائع وإلا عد نفسه مقصرا فى حقى، ولا أدرى لماذا.. ولكن هذا هو الاعتقاد الشائع. وضقت ذرعا بهذا الكرم ولم أعد أطيقه، فغافلته مرة وانطلقت أعدو إلى الفندق، ودخلت البار وشربت حتى ارتويت ثم خرجت إلى الحديقة الرحيبة، وذهبت أتمشى فيها وأطوف فى أرجائها. وكانت الليلة مقمرة والهواء لا رطوبة فيه، فطال تجوابى فلما نظرت فى الساعة إذا هى الحادية عشرة ولم يكن هذا ظنى، فبادرت إلى العودة إلى البيت وقد سرنى أنى استطعت أن أروح وأجىء وحدى وكما أحب وفى حيث أريد والسلام، وإن لم يكن هذا - بمجرده - خيرا مما فررت منه.. فما كان ثم أى حرج فى أن أشرب أو أفعل ما أشاء وهو معى، ولكن الوحدة أشعرتنى حرية كنت افتقدتها معه إذ أراه إلى جانبى، وكان هو يتوخى مرضاتى فى كل شىء كبر أم صغر. ولكنى لم أكن أرتاح إلى هذا ولا كان يسرنى أن أرى رجلا يقيد نفسه بى، وكان يخيل إلى أنه فى سريرته كاره غير راض، وأنه مثلى لا يريد أن يكون غير مرتبط أو مشدود إلى أحد. ولم يكن هذا كذلك فى الحقيقة، فإن الرجل كريم عظيم الأريحية، ولكن هذا هو الذى قام فى نفسى وكبر فى وهمى.
وعدت إلى البيت وأنا أشعر أن الحياة تستحق أن يحياها المرء وأن الدنيا جميلة، وشعرت بشىء من الظمأ على كثرة ما شربت.. وكنت أعرف الطريق إلى حيث أطفىء ظمئى ففتحت بابا ودخلت إلى حيث الشراب، وهو مكان رحيب فيه خزانات شتى، فيها ما لم أحصه من الزجاجات المختلفة الألوان والحجوم، وفى الوسط مائدة مستطيلة مغطاة بالمخمل الأخضر وحولها الكراسى الوثيرة.. فأدرت مفتاح النور، وإذا بى أرى ذاك الرجل الدميم القصير الذى يقيم الأولاد ويقعدهم ويعذبهم بالانحناء والانثناء والقفز والوثب والنط إلى آخر ما كرهت منه ومن منظره، فندت عنى صيحة استغراب وإنكار، وماذا يجىء به إلى هنا فى الليل - فى منتصف الليل - وهو لا يبيت معنا بل يذهب إلى بيته؟
ولم يخالجنى شك فى أنه لص شرير، على أنه خطر لى مع ذلك أن بيت الرجال أو الضيوف ليس فيه ما يسرق غير الأثاث وهو ضخم لا يسهل حمله أو نقله، ورجح عندى أن هذا المعلم الرياضى لص خمر وأنه جاء متسللا ليشرب كأسين أو ثلاثا بلا ثمن ... وسواء أكان هذا أم ذاك هو الصواب، فقد شعرت أن من واجبى أن أنغص عليه ليلته.
وصحت به: «من أين دخلت أيها اللص الجاحد الناكر للجميل»؟ وكنت أتكلم بعنف وفى يدى عصا ضخمة وفى عينى لمعة أظن الفضل فيها لما سقانى صاحب «البار» فى الفندق، فرأيت الرجل يستخذى ويتضاءل ويتراجع إلى النافذة، فأطلقت عليه صيحة عالية: «قف» فوقف كالجندى، وكان الفضل فى سرعة الوقفة واعتدالها وجمال منظرها لتربية الرجل الرياضية أو العسكرية لا لقوة الصيحة، ولكنه أطاع على كل حال.. فسررت وقلت له مرة أخرى: «قل من أين دخلت فى الليل.. فى منتصف الليل»؟
فقال بذلة وضراعة: «من النافذة.. فقد وجدت الأبواب موصدة، والخدم نياما». قلت: «آه.. ولكنى أنا لم أجد الباب موصدا».
وأيقنت أنه كاذب وأنه تعمد أن يدخل من حيث لا يراه أحد، وهم فى هذه اللحظة أن يقول شيئا فأطلقتها عليه صيحة أخرى مدوية.. فى أذنى أنا فما أظن أحدا سمعها أو سمع بها خارج الحجرة: «اخرس».
فخرس ووقف ساكنا لا يتحرك، فسرنى مرة أخرى أنه يطيع على هذا النحو، وقلت لنفسى إن للرياضة نفعا على ما يظهر. ولو لم يكن هذا الرجل رياضيا، لكان الأرجح أن يحاور ويجادل ويكابر ويناقش ويوجع لى رأسى، ويسلب الأمر كله ما أجد الآن فيه من المتعة.
Halaman tidak diketahui