Dalam Memperbaharui Kebudayaan Arab
في تحديث الثقافة العربية
Genre-genre
وأما إذا كانت الفترة التاريخية فترة تحول وتغير وقلق وتأهب كالتي تكون في فترات الانتقال الحضاري من عهد إلى عهد؛ فإن العلاقة بين الثقافة وهي معيشة والثقافة وهي صور من التعبير تفقد تجانسها واطرادها. ولما كنا نحن الآن في مرحلة من هذا القبيل المضطرب، والأمر في هذا لا يقتصر على مصر أو على الأمة العربية، بل يعم العالم كله بدرجات؛ فواجبنا هو أن نتدبر خطأنا على حذر.
وأول ما يلفت النظر في حالة كهذه هو أن جماعة المنتجين للصور الثقافية من فكر وفن وأدب ينقسمون ثلاثة أقسام تتناحر علانية أو لا تتناحر لكن كل قسم يحيا في مجاله الذوقي المغلق على نفسه، وكأنه ليس في الدنيا سواه، فهنالك الفريق الذي يستطيب ما هو قائم، والذي هو في الوقت نفسه ما قد ألفه الجمهور العريض، وإن رضا هذا الفريق عما يسود الجمهور، إما أن يكون عن رغبة مخلصة في الثبات، وإما أن يكون ضربا من ضروب النفاق الاجتماعي، وفي هذه الحالة يكون منتج الثقافة على عقيدة حضارية معينة، وربما يعيشها هو وأسرته في حياتهم العملية لكنه إذا أخرج للناس نتاجا ثقافيا أخرجه ليتجه به مع سواد الناس في تيار واحد. وإن كاتب هذه السطور ليرجو أن يكون مخطئا في تصوره، ولكنه إذا تصور شطرا كبيرا من نشاطنا الثقافي الآن وقبل الآن بنحو جيل كامل، فإنما الصورة التي تتكون له هي صورة فيها مثل هذا النفاق الاجتماعي بدرجة يظنها واضحة ولا يخطئها البصر، ولعل في ذلك ما يفسر لنا لماذا ننتج ثقافة بشتى قوالبها، ثم ننتج وننتج، حتى إذا ما أردنا قياس التقدم الحقيقي في جمهور الشعب؛ وجدناه أقل من أن يذكر، والذي أعنيه بالتقدم الحقيقي هنا هو مقدار ما تتحول به «وجهة النظر» عند الفرد العادي من أفراد الشعب، وجهة النظر التي في إطارها يكون لنفسه فكرة عن الإنسان وقيمته، وعن الكون الذي هو البيت الكبير الذي يقضي ذلك الإنسان حياته في رحابه.
قلنا إن مبدعي الناتج الثقافي في فترات القلقلة الحضارية، ومنها هذه الفترة التي يجتازها العالم كله اليوم انتقالا بنفسه من حضارة ختمت عمرها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى حضارة جديدة هي الآن في حالة إرهاصات ومخاض لولادتها، وهي إذا كانت مرحلة تعم العالم كله اليوم؛ فمصر والأمة العربية جزء من هذا العالم في تحولاته واضطرابه، وفي مثل هذه الحالة المضطربة يتجه فريق من مبدعي الناتج الثقافي نحو أن تؤيد ما قد ألفه الناس، وقد يكون مبدع الثقافة في هذا مخلصا مؤمنا بصدق ما يقوله؛ حتى لتراه يعيش حياته العملية على غرار ما يتصوره وما يصوره للناس في مبدعاته، ولكنه أيضا قد يكون منافقا وكاذبا ابتغاء منفعة يسعى إلى تحصيلها، وذلك حين يؤمن في ذات نفسه بضرورة التغيير، بل يعيش في حياته الخاصة على صورة التغير المرتجى، لكنه إذا كتب للناس أيد لهم ما هم غارقون فيه، وإلى جانب هذا الفريق المؤيد للأمر الواقع - بشعبيته: المخلصة والمنافقة - هنالك فريقان: أحدهما يدعو إلى التغيير في جرأة لا يبتغي من ورائها إلا أن ينقل للناس ما يظنه صوابا وخيرا، والأغلب في الجماعة الأولى أن تكون سلفية ترى مثلها الأعلى في صورة الماضي البعيد، والأغلب في هذه الجماعة الثانية المطالبة علنا بضرورة التغيير أن تكون مستقبلية الرؤية، وحتى إذا هي رأت وجوب استحضار ماضينا في وعينا وفي وجداننا فلا بد أن يكون ذلك توسلا بذلك الماضي؛ ليزيدنا عزما على رؤية مستقبل يتفق مع هويتنا القومية، حتى لا نجعل من أنفسنا أمساخا شائهة، ولا بد أن نلاحظ هنا، أن الجماعة الأولى المؤيدة لما عليه جمهور الناس بما يتضمنه ذلك عادة من سلفية النظر؛ يسهل عليها الاستيلاء على ألباب الناس، فصوت تلك الجماعة يبلغ من أعماق الجماهير وقلوبهم ما لا يبلغه صوت الجماعة الثانية المنادية في جرأة بضرورة أن تتغير صورة حياتنا؛ لتكون أكثر ملاءمة لعصرها.
وإلى جانب هاتين الجماعتين تقوم فئة ليست بالقليلة لا تتجه بنشاطها الثقافي نحو أولئك ولا نحو هؤلاء، بل تشطح وحدها في وديان من الفكر ومن الفن ومن الأدب، لا هي متصلة بماضينا، ولا هي متصلة بمستقبلنا، وإنما هي على الأغلب مستوحاة من أفكار الآخرين وفنونهم وآدابهم دون بذل الجهد الإبداعي الذي يطوع تلك الروافد تطويعا، ويجعلها متجانسة مع نسيجنا القومي.
تمنيت لو أني وضعت بين يدي القارئ عشرة أسماء من اللوامع ذوات الصدى في حياتنا الثقافية اليوم؛ لأجسد له في أشخاص أصحابها تلك الفئات الثلاث التي ذكرتها، لكنني أمسكت عن ذلك؛ حتى لا تظن بي الظنون، وما ابتغيت إلا الحق والخير، فأترك للقارئ أن ينتقي لنفسه من الأسماء ما يراه ممثلا لكل فئة منها؛ حتى يكسو الفكرة المجردة التي عرضتها لحما ودما، ولكني أذكره بأن الفئة الأولى، وهي التي تساير مزاج الجمهور العام، والتي هي على الأغلب سلفية الطابع؛ تنشطر شطرين: شطر مخلص فيما يقول إخلاصا حبيسا فيما درسه وحفظه، وهو الآن جاد في تسميعه أمام الناس، لكنه كذلك إخلاص من يتنكر لضروب القول الأخرى؛ لأنه يجهلها، فكيف يخلص لما يجهله؟! وإذن فلو أنه علم أكثر مما يعلم؛ لاتسع نطاق إخلاصه. وأما الشطر الثاني من الفئة الأولى فمنافق كاذب، يعتقد في شيء ويصارح الناس بشيء آخر، وهو أخطر جماعة في حياتنا؛ لأنها تضم نفرا من أصحاب السيرورة في أوساط القراء على نطاق واسع يقرأ لهم الناس ما يكتبونه ويصدقونه ولا يرتابون في حسن نواياهم.
إنه لا لوم على مخلص ينشر في الناس ما يؤمن بأنه الصواب، لكن اللوم كل اللوم إنما يقع على من يضمر لنفسه رأيا ويعرض على الجمهور رأيا آخر، فلو استيقظت الضمائر عند هؤلاء؛ لسرنا نحو تحديث الثقافة العربية شوطا بعيدا بقفزة واحدة.
الكتيبة الخرساء
هما بيتان من شعر أبي العلاء المعري، ما أكثر ما همست بهما لنفسي، عن عمد حينا إذا استلزم مني ذلك طبيعة الموقف الذي يواجهني، وعن غير عمد حينا آخر بقوة العادة وتكرارها، فلو قلت إني قد همست لنفسي بهذين البيتين أكثر من ألف مرة على مر السنين؛ لما غلوت في التقدير، فكيف إذن أراني اليوم وقد جرى بهما اللسان عفو الخاطر وكأنني أتبين من معناهما ما لم أكن قد تبينته فيما مضى بكل هذا الوضوح؟! أو قل إن موضوع الثقافة العربية في حاضرها هو الذي يسبق غيره إلى فكري، فتراني أقرأ ما أقرأه تحت هذا الضوء؛ فلا عجب أن تنطق لي المادة المقروءة بمعان تتصل بالثقافة العربية، لم تكن لتنطق بمثلها لو أن الذي يشغل فكري سياسة أو اقتصاد أو غيرهما مما يصح أن يعرض للفكر من موضوعات، وهذه في حد ذاتها حقيقة إنسانية لها شأنها، قد يأتي منها الهدى مرة، ويأتي الضلال مرة، وأعني ذلك الميل في فطرة الإنسان نحو أن يقرأ الوقائع بما يتفق مع فكرة مسبقة تشغله، فيرى في تلك الوقائع ما ليس يراه قارئ آخر، تملأ رأسه فكرة أخرى، فكل يغني على ليلاه.
لا علينا، ولننصرف إلى ما نحن فيه؛ فللمعري بيتان من الشعر، سأضعهما بين يديك بعد أن أقدم شيئا من الشرح ليظهر معناهما واضحا عند قراءتهما، وأول نقطة أتناولها بالتوضيح هي نظرية «الإمامة» في الفكر الإسلامي؛ فكلمة «الإمام» معروفة لنا جميعا، نقولها ونكتبها، ونصف بها الرجال، دون أن نشغل أنفسنا بما وراءها من معان مضمرة، بل قد لا يكون من يستعملها على قصد متعمدا أو غير متعمد، بأي معنى مضمر فيها، سوى أن من نصفه بالإمامة رجل ذو علم يهتدي به لنفسه، ويهدي الآخرين، لكن هنالك مذاهب إسلامية تبنى على أساس نظرية خاصة في «الإمامة»، ولا سيما عندما يكون الحديث منصبا على ما تزعمه تلك المذاهب من «إمام منتظر» يظهر بعد اختفاء فيظهر الحق على يديه، وأيا ما كان الأمر بالنسبة إلى ذلك الإمام المنتظر؛ فقد اكتسبت فكرة «الإمامة» قوتها منذ صدر الإسلام، وذلك حين نشأ السؤال عمن يكون له الحق في تفسير ما استعصى على الناس تفسيره من آيات الكتاب الكريم، ولم يكن ثمة موضع لسؤال كهذا أيام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان المرجع الفاصل في ذلك، ولكن ماذا بعد موت الرسول؟ قال قائلون إنه كما نزل القرآن الكريم وحيا على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا مفر من أن ينزل تفسيره وحيا كذلك، لأن التفسير إذا ترك للاجتهاد؛ فقد تتعدد اتجاهاته، وبهذا التعدد تكثر صور الإسلام بين المسلمين، لكن من ذا الذي يتلقى الوحي بالتفسير كلما استعصى أمر بين المسلمين؟ هنا كان الجواب عند هؤلاء بأن من ينزل عليه مثل هذا الوحي لا بد أن يكون إماما معصوما، ولمثل هذا الإمام الملهم بوحي من الله سبحانه وتعالى تكون أحقية الخلافة وأحقية الحكم.
تلك - إذن - نقطة أولى مما سوف يراه القارئ واردا في بيتي المعري. وأما النقطة الثانية فخاصة بجمهور الناس، فإذا سأل سائل: أنسلب المؤمنين جميعا إلا واحدا حق الاجتهاد في فهم آيات الكتاب الكريم مهما أوتوا من العلم؟ فيبدو أن الإجابة عن هذا السؤال إذا جاءت من أصحاب النظرية الخاصة بالإمامة المعصومة هي بالإيجاب، فكأنهم يقولون: إن ثمة رجلا واحدا ينطق بالحق عن وحي يوحى إليه، وأما سائر الناس فيجب عليهم الصمت اكتفاء بما يقال لهم من «الإمام»، ومن هنا أشار أبو العلاء في بيتيه، بقوله «الكتيبة الخرساء»؛ فهنالك قائد واحد هو «الناطق» وأما من عداه من عباد الله فجمهور أخرس.
Halaman tidak diketahui