Dalam Memperbaharui Kebudayaan Arab
في تحديث الثقافة العربية
Genre-genre
الانحراف الذي يميل بأصحابه إلى تطرف إما إلى أعلى وإما إلى أسفل مصدره دائما هو خطأ الظن بأن ثمة تنافرا بين السماء والأرض بحيث تجمعهما مصلحة واحدة، فإذا رجحت كفة السماء خفت حتما كفة الأرض، وإذا علا شأن الأرض وشواغلها انخفضت حتما شئون السماء، فلكم شهدنا في أمور الحياة الجارية كيف أن المتطرفين في الدين وكذلك من كان الاشتغال بالدين مورد أرزاقهم ومكانتهم بين الناس، كيف أن هؤلاء جميعا يغارون أشد الغيرة على الدين، من أي نجاح يصيبه المشتغلون بأمور هذه الدنيا علما وثروة وجاها، وغير ذلك مما لا يتصل بالحياة الدينية اتصالا مباشرا كأنما الطرفان في رأيهم نقيضان لا يجتمعان معا في نجاح واحد، فلقد سمع كاتب هذه السطور أستاذا جليلا وهو يتحدث إلى جماهير الناس مستخفا بالعلم ونتائجه استخفافا عجيبا، فلما كان حديثه دائرا حول أولئك الذين أتعبوا أنفسهم عبثا ليصعدوا إلى القمر أمسك بمنديل من الورق أخرجه من علبة أمامه ورفعه بيده ليقول، إن هذه الورقة أنفع من كل ما صنعوه في ذلك السبيل، وفات الشيخ الجليل عندئذ أنه وهو يعلن هذا الرأي العجيب ربما كان حديثه ذاك يذاع بواسطة قمر صناعي ليستمع إليه ثلث سكان الأرض في لحظة واحدة ، والأقمار الصناعية هي إحدى النتائج الفرعية التي تفرعت عن العمليات العلمية التي أدت بالإنسان إلى بلوغ القمر ليمشي على سطحه بقدميه لأول مرة منذ خلق الله تعالى الكون وما فيه، وكذلك سمع كاتب هذه السطور بأذنيه أستاذا جليلا يقول للناس في معرض حديثه عن عجز الإنسان وقصوره، وكان العلماء في بلد من بلاد الأرض قد أذاعوا في قومهم نذيرا بأن بركانا على أرضهم وشيك الانفجار، يقول للناس إن هؤلاء العلماء قد ضلوا سواء سبيلهم حين ظنوا بأنفسهم القدرة على التنبؤ بالغيب ... والأمثلة لا آخر لها، لما يقوله المتطرفون في الدين أو المشتغلون به إذا ما نجح العلم في كشوفه ومغامراته، وهم يقولون ما يقولونه غيرة على الدين من أن تحيط به شكوك؛ بسبب ما وفق إليه العلم من رفع للأستار عن بعض السر المكنون في جنبات هذا الكون العظيم، وعكس ذلك قائم عند بعض المشتغلين بالعلم، وذلك بالنسبة إلى موقفهم إزاء الدين، فلأنهم يرون اختلافا شديدا في منهج الإنسان بين الحالتين: حالة إيمانه الديني وحالة بحوثه العلمية، فبينما هو في الحالة الأولى يؤمن أولا بما يؤمن به ثم يبحث ويحلل ذلك الذي آمن به وذلك إذا كان من القادرين على البحث والتحليل والراغبين فيهما، أقول إنه بينما الإنسان في حالة إيمانه الديني يؤمن أولا ثم قد يحلل ويعلل ما قد آمن به، فإنه في حالة النظر العلمي يبدأ بالتحليل والتعليل لعله ينتهي آخر الأمر بما يؤمن أنه صواب، وحين يشعر بعض المشتغلين بالعلم بهذا الفارق المنهجي بين الحالتين تأخذهم خشية الخلط بينهما؛ إذ ربما كان الخسار في هذا الخلط واقعا على العلم وأصحابه.
والفريقان كلاهما: رجل الدين في غيرته على الدين من نجاح العلم، ورجل العلم في حرصه على أن يسلم البحث العلمي من سرعة التصديق في نتائج معينة قبل استيفاء البحث المدقق الغامض أقول: إن الفريقين كليهما خاطئ في ظنونه، لأن لكل منهما جانبا يدير حوله اهتمامه، لكن الجانبين معا يصنعان إنسانا واحدا ويصنعان كونا واحدا ويؤمنان بإله واحد ، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون ويتضح أمام العقل وضوحا ناصعا إذا نحن فرقنا - في كل ظاهرة مما نتناوله بالبحث والنظر - بين «الفعل» و«المفعول». وخذ مثلا يوضح لك ذلك؛ يصاب الإنسان بجرح فيشير عليه الطبيب بدواء؛ فيندمل الجرح، وهنا قد يقول رجل العلم (علم الطب في هذه الحالة) إنه العلم ونجاحه فيخاف رجل الدين أن يكون في ذلك القول انتقاص من قدرة الله فيحتج قائلا: بل هو الله سبحانه هو الشافي: وسر الخلاف بينهما هو أنهما لم يفرقا بين «الفعل» و«المفعول»؛ فالتئام الجرح مفعول أدى إليه الدواء، ولكن لماذا كان لذلك الدواء «فعله»؟ لماذا تتصرف أنسجة الجلد بمثل ما تتصرف به حين وضع عليها الدواء؟ قد يستسهل مجيب أن يجيب على ذلك بقوله إنها «طبائع الأشياء» لكن المؤمن بالله يفضل أن ينسب ذلك «الفعل» إلى فاعل هو الخالق جل وعلا الذي جعل للأشياء تلك الطبائع، إذن لا تناقض بين رجل العلم هنا ورجل الدين، فالأول عني ب «المفعول» أي بالظاهرة التي نتجت وأصبحت شيئا مرئيا للعين وأعني «الجرح» في هذه الحالة، ورجل الدين اتجه بنظره إلى «الفعل» وفاعله.
فالعلم في كل ميدان من ميادينه يدير بحثه حول «الظاهرة» المعينة التي هي موضع بحثه، ولا يفوتك هنا كلمة «ظاهرة» ومعناها، فالعلم مجاله ما يظهر من حقائق الأشياء.
وأما ما وراء الأسطح الظاهرة من قوى تؤدي إلى ظهورها، فليس ذلك من شأنه وهو في لحظة البحث العلمي، وانحصار العلم فيما «يظهر» أو في الذي يمكن استدلال وجوده من ذلك الظاهر، أمر لا يشين العلم ولا يعيبه ولا يؤخذ دليلا على عجزه، فعجزه أو قدرته إنما يكون داخل مجال اختصاصه وهو «الظواهر» وقوانين العلم جميعا، إن هي إلا صيغ دقيقة تصاغ برموز الرياضة أحيانا وبألفاظ من اللغة، وذلك بحسب مادة الموضوع صياغة يراد بها أن يتنبأ الإنسان في دقة ما عساه يحدث في عالم «الظواهر» إذا ما توفرت عوامل معينة، وواضح أن أية «ظاهرة» كالمطر، أو الزرع، أو الريح، أو المرض، أو ما شئت، إنما هي «مفعول» تدركه حواسنا لكنه نتج عن «فعل» خاف لا تدركه الأبصار فتؤمن به البصائر والقلوب.
وأستجمع ما قلته ليصبح واضحا أمام القارئ: فلقد حاولنا أن نفهم الحياة الثقافية أينما وقعت في ضوء «هيكل» نظن أن على أضلاعه وركائزه يقام لتلك الحياة الثقافية بناؤها، وكان الهيكل الذي قدمناه هو السماء في أعلى والأرض في أسفل والإنسان بينهما صاعدا هابطا بما وضعه فيه خالقه من إرادة حرة الاختيار بين طيب وخبيث، فالسماء هنا رمز للوقفة الدينية الإيمانية بكل ما يتفرع عنها من فروع، والأرض رمز لها والكون كله معها، وذلك هو ميدان العلم والعمل، ثم زعمنا أن الفرد من الأفراد أو الشعب من الشعوب أو العصر من العصور يأخذ طابعه الثقافي من إحدى وقفات ثلاث إزاء هذا البناء الهيكلي: وقفة تميل نحو السماء ولا تجعل للأرض قيمة إلا بالحد الأدنى، وأخرى تميل نحو هذه الحياة الأرضية وما يلتف بها ولا تفرغ لما هو غيب إلا بالحد الأدنى كذلك، ووقفة ثالثة تتوازن فيها الجوانب، وسبيل ذلك عندها هو ألا تفهم السماء والأرض أو قل الغيب والشهادة أو إن شئت فقل الآخرة، والأولى أقول إن الوقفة الثالثة لا تفهم أيا من هذه الثنائيات إلا على أن كل واحدة منها هي حقيقة ذات طرفين، ويستحيل على الإنسان أن يحيا أحد الطرفين إلا وهو موصول بالطرف الآخر فلا آخرة إلا وهي مسبوقة بالأولى، ولا ظواهر يضعها العلم موضوع بحث إلا ووراءها غيب شاء لها أن تظهر كما ظهرت ... وبهذا المقياس المكتمل الناضج المتمثل في الوقفة الثالثة يكون حكمنا على حياتنا الثقافية في هذه المرحلة من تاريخنا، وفي أية مرحلة سبقت خلال ذلك التاريخ.
لكننا ونحن بصدد الحكم على حياة ثقافية في إحدى مراحلها عند شعب معين، وأذكر أن موضوع حديثنا هذا منصب في المقام الأول على حياتنا نحن في مرحلتنا التاريخية هذه، أقول إننا إذا أردنا حكما كهذا وأردنا لهذا الحكم أن يكون منصفا ما استطعنا وجب علينا النظر في تفصيلات الجوانب المختلفة التي تتألف منها حياة الناس الثقافية، سواء أكانت نزاعة نحو السماء أم نحو الأرض أم نحو التوحيد بين الطرفين. ولكي تقدم صورة تبين تفصيلات حياتنا الثقافية الراهنة سعيا وراء حكم منصف لها أو عليها أراني مضطرا إلى الاستعانة بهيكل بنائي آخر داخل الهيكل الذي أسلفت الحديث عنه، وأما هذا الهيكل الفرعي الذي أحاول به أن أضم التفصيلات الكثيرة في رسم قليل الخطوط فهو أن أدعوك لنتصور سلما من ثلاث درجات وأقيمت على جانب السلم سنادة يستند إليها الصاعد أو الهابط.
وأولى هذه الدرجات من أسفل تمثل المتفرقات الأولية التي يعرف كل فرد قليلا أو كثيرا منها، فكل فرد يعرف شيئا عن السلع المعروضة في الأسواق وأسعارها، وشيئا عن الأحزاب السياسية القائمة وصحفها، وشيئا عن مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته، وشيئا عن القرية والفلاح والأرض الزراعية وما أصابها، وشيئا من الكرة ومبارياتها، وشيئا عن حياة المرأة ومشكلتها بين القرار في البيت أو الخروج إلى العمل وهكذا وهكذا؟ تلك المعارف المتفرقة عن هذا وهذا وذاك يكتب عنها ويذاع ويتحدث عنها الناس بعضهم مع بعض، ومن هنا كان لكل فرد من أبناء الشعب نصيب منها قل ذلك النصيب أو كثر.
تلك كانت أولى درجات السلم المعرفي من أسفل، فإذا كتب لك أن تكون من الصاعدين إلى الدرجة التي تعلوها وجدت هناك بدل المعلومات المتفرقة التي صادفتك في الدرجة الدنيا، علوما يحاول كل علم منها أن يضم أشتات المتفرقات في قوانين عامة تضمها، فللاقتصاد قوانينه العلمية، وللسياسة نظرياتها وللتعليم مناهجه، وللزراعة قواعدها العلمية وهكذا.
ثم تصعد في السلم إلى الدرجة الثالثة والعليا وهي في حقيقتها درجة تفعل في «علوم» الدرجة السابقة عليها ما كانت تلك الدرجة السابقة نفسها قد فعلته في متفرقات المعلومات التي شهدتها الدرجة الأولى من أسفل السلم، فكل درجة إنما تستخلص من سابقتها تصميمات توجزها وتكشفها، فقد رأينا كيف عملت «علوم» الدرجة الوسطى على تقنين المعارف المتفرقة التي حصلناها في الدرجة السفلى، وها نحن أولا، نقول القول نفسه عن الدرجة العليا بالنسبة إلى ما دونها؛ إذ هي تستخلص من قوانين العلوم ونظرياتها «وجهة نظر» عامة وشاملة، تبين حدود الرؤية التي في إطارها نريد للإنسان أن يرى حياته في كل فرع من فروعها، وهذه «الرؤية» العامة والشاملة هي من حياتنا بمثابة الدستور الذي تتفرع عنه القوانين، ولهذا ترى الصاعدين إلى الدرجة الثالثة من درجات السلم يشغلون أنفسهم بأفكار عامة، لا هي من صميم العلوم ولا هي من صنف المعلومات المتفرقة، هي أفكار بمثابة الخرائط التي تبين طرق السير أمام السائرين أو بمثابة المناظير التي تظهر للعين ما كان قد خفي عليها من حقائق الأشياء، وتلك الدرجة الثالثة من درجات السلم هي التي تجد عندها الفكر الفلسفي في معنى من معانيه أو قل تجد عندها «الحكمة» التي من شأنها أن تحكم خطوات الإنسان على الطريق.
إلا أن تلك الدرجات الثلاث بكل ما اختصت به كل منها، إن تكن قد لخصت لنا صورة لحياة المعرفة - في الفرد الواحد، وفي مجموعة الشعب - تلخيصا أوضح معالمها، إلا أنها قد تركتنا ومعنا سؤال جائز، وهو هذا: إذا كانت تلك هي صورة البناء المعرفي للإنسان، فبماذا - إذن - يختلف شعب عن شعب؟ والجواب هو أن ثمة سنادة أو قل بطانة تقوم عليها «هوية» الشعب الواحد، قوامها - عادة - مجموعة مختارة من المبادئ والقيم، وهي التي مثلناها بسنادة (درابزين) في جانب السلم بدرجاته الثلاث، يستند إليها الصاعد أو الهابط فمهما تكن الدرجة التي يقف عندها الفرد في حياته، فهو يستند إلى محصول من المبادئ والقيم تبين منها الواجب والجائز والممتنع والمصادر الأساسية التي يستمد منها تلك المجموعة من المبادئ والقيم هي الدين والأدب والفن والتقاليد والأعراف.
Halaman tidak diketahui