Dalam Memperbaharui Kebudayaan Arab
في تحديث الثقافة العربية
Genre-genre
كان قد أنبأني صديق يكثر من زيارة اليابان بحكم عمله، بأن الياباني عرف كيف يعمل في المصنع نهارا وكأنه مواطن في أي بلد صناعي من بلدان الغرب، حتى إذا ما عاد إلى منزله مساء اغتسل وكأنه يزيح عن جسده حياة النهار المستعارة، وارتدى ثيابه اليابانية، ومارس حياته المنزلية ممارسة الياباني الأصيل، الذي لم يكن يعرف شيئا عن المصانع الحديثة وآلاتها، ولكنني دون أن أبدى معارضة أو تساؤلا عما سمعته من ذلك الصديق، حدثتني نفسي بأنه يبعد أن تكون صورة الحياة عند الياباني الجديد على هذا النحو، الذي يشطر الحياة شطرين. كأن أحدهما لا صلة له بالآخر، ولو كان الأمر كذلك لما أفلحت اليابان الجديدة بالدرجة التي أفلحت بها حتى لقد نافست أعتى شعوب الغرب علما وصناعة، ومحال أن يستقيم لها الأمر، ما لم تدمج الشطرين في وقفة موحدة. فحياة المنزل تمتد بروحها اليابانية إلى حياة المصنع وحياة المصنع تمتد بدقتها العلمية إلى حياة المنزل.
ثم ما لبث أن وجدت ما يؤيد فكرتي، وذلك أن أتيح لي فترة طويلة، الاطلاع على مجلة فصلية تصدر عن اليابان، وربما كان الذي يصدرها هناك هيئة رسمية، وهدف تلك المجلة هو أن تعرض موجزا لما ترى أنه أهم ما أنتجه الفكر الياباني خلال ثلاثة أشهر. كنت أتابع تلك المجلة واسمها مترجما إلى العربية هو «الصدى» وهي تنشر ما تنشره باللغة الإنجليزية، فكان من أنفع ما قرأته فيها تلك الموضوعات الخاصة بحياة الياباني الجديد، معروضة في صورة بحوث علمية إحصائية، ومن تلك الموضوعات عرفت بدقة بالغة، كيف انتقلت الروح الأسرية كما عرفتها التقاليد اليابانية العريقة، التي تدور حول مبدأ التعاون إلى أقصى مداه، وهو مدى تختفي فيه فردية الفرد ولا يبقى إلا الجماعة مأخوذة في رابطة واحدة، فنقلت هذه الروح إلى جماعة العاملين في المصنع، وأصبح العامل يحس شعور «الانتماء» إلى مصنعه، بكل القوة التي يحس بها شعور الانتماء إلى أسرته، فنجاح المصنع الذي يعمل به هو نجاح شخصي بالنسبة إليه، دون تكلف في ذلك أو نفاق أو كذب ... ولعل أغرب ما قرأته في تلك المجلة مما يتصل بهذا المجال ذلك البحث العلمي الذي أجراه من أجراه ليصل به إلى تصور محدد عن فكرة «الإبداع» عند الياباني، وإذا بالإبداع لا يكاد يكون له معنى عند الياباني إذا كان ذلك الإبداع منسوبا إلى فرد معين؛ فالإبداع الفردي أمر غير معروف هناك، لا بل إنه مستنكر من الناحية الأخلاقية عندهم. ولقد كان ذلك البحث مؤسسا على مجال العلم والصناعة ولا أدري ما قولهم عن الإبداع في الأدب والفن .
الخلاصة التي أردت عرضها هنا، هي أن مبادئ السلف لا تحيا في حياة الخلف، إلا إذا ملئ وعاؤها المجرد بمادة حياتية مأخوذة من صميم الواقع الجديد ومشكلاته، وخذ - مثلا - فكرة «العرض» (بكسر العين) في الأخلاقيات العربية ومنها مصر بطبيعة الحال، فنحن نعلم كم لتلك الفكرة في حياتنا من قوة لا تعبأ بالقوانين الوضعية إذا عارضتها، وما معنى «العرض» الذي له في حياتنا ما يشبه التقديس؟ قد يظن بعضنا أن المعنى مقصور على شرف المرأة، ولكن معناه الحقيقي التاريخي، هو مجموعة الأشياء التي يعد الفرد نفسه مسئولا عنها لأنها تقع في حماه، وربما كانت قطعة الأرض التي يملكها أو ربما كان الجار، أو ربما كانت الأسرة في مجموعها أو الوطن والمواطنون جميعا، أو بيوت الله، بين الأشياء التي تدخل في مجال «العرض» الذي يدافع عنه الإنسان بروحه إذا اقتضى الأمر. فافرض معي الآن أننا أردنا إحياء هذا المبدأ ليسترجع في حاضر حياتنا كل قوته التي كانت له في الماضي، فماذا نصنع إلا أن نعمل على تربية الأفراد تربية تدخل في نفس الفرد استعدادا للتضحية في سبيل ما قد نشأناه على أنه «عرضه» الذي يجب أن يصان؟! «الثقافة» بمعناها الذي يجعلها طابعا يميز شعبا من سائر الشعوب هي ضرب من ضروب «الأدوات» التي يستعين بها الصانع فيما يصنعه، فهل تقول عن فأس الفلاح - مثلا - إنه حلية يتزين بها الفلاح؟ هل تقول عن منشار النجار إنه أداة يتزين بها؟ وهكذا الأمر في «الأفكار» التي تستحق اسمها هذا، إنها أدوات عيش، أدوات عمل، وإن لم يكن ذلك الجانب واضحا فيها أمام العين. ولكي تفهم هذا، خذ فكرة علمية عن حياة النبات، أو عن كيمياء التفاعل بين عناصر الطبيعة، أو حتى كفكرة الجاذبية بين الأجسام والأجرام، وانظر في أي منها: ما الذي أكسبها أهميتها إلا أنها أداة نستخدمها في الزراعة، أو في الصناعة، أو في تشييد المباني؟ إن «الفكرة» - كل فكرة وأي فكرة - هي أشبه «بروشتة» الطبيب، تأخذها لا لتحفظها وتتغنى بألفاظها أو تضعها في إطار لتعلقها على جدران غرفتك، بل تأخذها لتصرفها دواء من الصيدلي ليكون ذلك الدواء وسيلة مرجوة للشفاء، وأما إذا زعم لك زاعم عن جملة معينة بأنها تحمل «فكرة» ثم لم تجد قط طريقة تتحول بها تلك الفكرة المزعومة إلى «عمل» فاعلم موقنا بأن الجملة المقدمة إليك كانت من قبيل اللغو الفارغ، وها أنا ذا أوسع لك في المجال فأقول - لا عن فكرة واحدة بعينها، بل عن مجموعة الأفكار التي تتكون منها ثقافة شعب - إنها في مجموعها إنما تقاس قيمتها بما تستطيع به أن تعيننا على السباحة في بحر الظروف المحيطة بنا بل وأن تعيننا على ما هو أكثر من ذلك، وهو أن نكون شركاء في صناعة ذلك البحر من ظروف الحياة الجديدة.
وإذا كان ذلك كذلك في حقيقة «الثقافة» التي يعيش في إطارها شعب، أعني إذا كان مقياس قبولها أو تعديلها حذفا وإضافة هو صلاحيتها لأن تجعل ذلك الشعب أقوى وأعلم وأغنى وأرهف شعورا، أقول إذا كان ذلك كذلك، كان الأمر نفسه منطبقا على ما نأخذه نقلا عن أسلافنا من «مبادئ» إذ يصبح واجبنا نحو أنفسنا هو أن نملأ الصور المجردة المفرغة لتلك المبادئ بمضمونات جديدة تصلح أن تكون في أيدينا أدوات عمل، وإنتاج وقدرة على مواجهة عصرنا وظروفه.
وليس التطور الثقافي في حياة الإنسان ترفا من الترف الذي يخضع لاختيار الناس، فإما قبلوه وإما رفضوه، بل هو قانون حتمي من قوانين الحياة، وذلك لمن أرادوا لأنفسهم حياة. لقد كان للمفكر الفرنسي «تيار دي شاردان» كل الفضل في أن سلط الأضواء الكاشفة الهادية على هذا الجانب من حقيقة التطور، فبعد أن كان الفكر العلمي في هذا الصدد، متجها نحو النظر إلى التطور على أنه مسألة بيولوجية توضح التسلسل في الكائنات الحية بادئة من الخلية الأولى فصاعدة إلى الإنسان، نشأ سؤال مضمر في عقول الباحثين هو: ثم ماذا؟ هل نتوقع من الحياة أن تخرج من الإنسان إنسانا أعلى يتميز ويتفوق على الإنسان كما هو الآن، فبين «دي شاردان» في تفصيل وعمق ، كيف أن التطور البيولوجي بالنسبة للإنسان قد وقف عند هذا الحد، إلا أنه شق لنفسه طريقا آخر، هو التطور الثقافي، فإذا كان الأمر على امتداد الدهر - فيما مضى - قد جعل الكائن الحي يتطور ليقابل ما استحدث له في بيئته من عوامل، فقد استبدل الإنسان بالتطور البيولوجي في تركيب الجسم، تطورا ثقافيا يقابل ما هو جديد في دنياه، فلا يعقل - بالطبع - أن يستجيب الإنسان وهو في عصر «الرعي» - للطبيعة من حوله - بمثل ما كان يستجيب به في عصر حياته الأولى في الغابات والأدغال والكهوف، كما لا يعقل أن يستخدم ردود الفعل ذاتها التي كان يستخدمها في حياة الرعاة، بعد أن تغير مسرح العمل وأصبح زراعة تقتضي الإقامة الثابتة على أرضه المزروعة، ثم لا يعقل بالدرجة نفسها أن يحافظ الإنسان على أنماط سلوكه التي نجح بها في عصر الزراعة ليجعلها مناط سلوكه في عصر الصناعة الذي هو عصرنا، فلكل مرحلة من تلك المراحل ثقافتها الصالحة لها. ولقد أسلفنا أن ثقافة الجماعة الإنسانية ليست لهوا يلهو بها أفرادها، بل هي في آخر مطافها «أداة» يعاش بها ليضمن الناس حياة فيها القوة والغنى والارتقاء. ولقد سبق لكاتب هذه السطور، أن كتب حين شاعت فينا الدعوة إلى «أخلاق القرية» ليلفت الأنظار إلى أن أخلاق القرية إن هي إلا الأخلاق التي أفرزتها حضارة الزراعة - على الوجه الذي كانت الزراعة تؤدى به، أما وقد دخلت الدنيا حضارة أخرى، هي حضارة الصناعة بالصورة التي باتت مألوفة لنا، فقد أصبح حتما على الإنسان أن يغير من قواعد سلوكه، بحيث يمكننا القول إن «المدينة» وأخلاقها لا بد لها اليوم أن تحل محل «القرية» وأخلاقها، وليس الفرق هنا بين «مدينة» و«قرية» فرقا في اتساع الرقعة وعدد السكان، بل الفرق هو في نمط الحياة من نواح كثيرة، فبعد أن كانت «المدينة» فيما مضى «قرية» كبيرة صار هدفنا اليوم هو أن نجعل من «القرية» مدينة صغيرة.
ولست أري أن التحولات في أخلاقيات السلوك تبعا للتحولات الحضارية، يتناقض مع رغبتنا في أن تجيء حياة الخلف على «مبادئ» السلف، لنضمن استمرارية التاريخ واستمرارية الهوية الوطنية أو القومية، لأن المبادئ الأولى التي تقام عليها الحياة أوسع شمولا وأكثر تجريدا من «القواعد» السلوكية المتغيرة بتغير الزمان والمكان؛ فمثلا كانت حياة القروي في عهد الزراعة اليدوية لا تتطلب دقة التوقيت بالدقيقة والثانية، وأما حياة المصانع في العصر الجديد فتتطلب ذلك، ولكن كلا الموقفين لا يمس مبادئ الأخلاق بالمعنى المعروف لهذه العبارة.
وواقع الأمر هو أن حياتنا تتغير بالفعل نحو ثقافة جديدة تتناسب مع مقتضيات عصرنا الجديد - عصر الصناعة التكنولوجية - فالقرية لم تعد هي القرية التي عرفتها أجيالنا الماضية، حتى لقد اقتربت من أن تصبح مدينة صغيرة، والمصانع الكبرى التي أنشئت هنا وهناك في أنحاء البلاد، تضم عشرات الألوف من العمال تحت سقف واحد، يتقاسمون فيما بينهم عملا واحدا يؤدي بهم إلى منتج واحد، فكان أن نشأت بهذه التجمعات الصناعية الجديدة، التي لم يكن للدنيا عهد بها في كل ما مضى من تاريخها علاقات بشرية جديدة غيرت من صورة الحياة الاجتماعية تغييرا لا تخطئه عين، وتغيرت كذلك في عصرنا وجوه كثيرة أخرى، فليس البناء التعليمي هو البناء التعليمي منذ قرن، وتغير نظام الحكم؛ فليست جمهورية اليوم كملكية الأمس. وتغيرت صور التعبير في مجالات الأدب والفن، فلا الشعر هو الشعر، ولا الرواية أو القصة أو المسرحية عرفتها عصورنا الأدبية فيما مضى، ولا الفن التشكيلي تصويرا ونحتا وعمارة هو نفسه الذي عهده أسلافنا ... لكن ذلك التغير كله لم يحقق لنا رؤية عصرية، لماذا؟ لأنه يجيء من حياتنا كما تجيء القشرة الخارجية التي لا تمس الكيان الداخلي إلا بقدر محدود، وأما الذي يتحكم في الكيان الداخلي بشكل ملحوظ فهي الدعوة إلى أن نصب حياتنا في قوالب القدماء، فوقعنا بهذا في ازدواجية رهيبة، لا نعرف حيالها أين الصواب وأين الخطأ، وقد كان الأمر ليختلف اختلافا شديدا، لو اتسقت الأصوات واتجهت كلها نحو هدف ثقافي واحد، يمس حياتنا الجديدة في الصميم.
إن للناقد الإنجليزي المعاصر «هربرت ريد» كتابا عنوانه «إلى الجحيم بالثقافة» والكتاب مجموعة مقالات في النقد، أولها وأطولها هي المقالة التي جعل عنوانها عنوانا للكتاب. وفي تلك المقالة يبين «ريد» وجوب أن تكون «الثقافة» في شعب معين، سارية في أصلاب الحياة الاجتماعية، وألا تستقل بذاتها وكأنها كيان قائم برأسه، لا شأن له بتيار الحياة، ولقد كان هذا الدمج التام بين الثقافة وحياة الناس - فيما يقول «ريد» - هو الشأن في كل عصور التاريخ الماضية، فلم يكن الفنان التشكيلي يرسم لوحاته، أو ينحت تماثيله ليرضي مزاجه الخاص، ثم ليبيع مبدعاته في الأسواق لمن يشتري، بل كان يصنع فنه ليخدم به معبدا أو غير المعبد من معالم الحياة العامة، وكذلك كان الشاعر والكاتب والعارف، وأما في عصرنا فقد انحرفت «الثقافة» عن مجراها التاريخي، حتى لنراها في حالات كثيرة تسير في طريق بينما يسير زخم الحياة في طريق آخر، وهذه الثقافة التي تسلخ نفسها عن التيار التاريخي، هي التي أشار إليها «هربرت ريد» في عنوانه: «إلى الجحيم بالثقافة».
وإني لأشعر آسفا، بأن هذه الصيحة الغاضبة من ذلك الناقد القدير، تكاد تفرض نفسها على قلمي، كلما نظرت إلى حياتنا الثقافية، فوجدتها مفرقة الأهداف وبأن هدفا من تلك الأهداف وربما كان أقواها وصولا إلى جمهور الناس، هو أن نلغي وجودنا الخاص، لننخرط في قوالب السلف وكأنه لا زمن ولا تغير في حياتنا مع ذلك الزمن ...
هيكل البناء
Halaman tidak diketahui