سيسمعون صوته، ولكن في نفوسهم، سيرون شخصه، ولكن في نفوسهم، سيتحدثون إليه، سيحاورونه، ولكن في نفوسهم.
في هذا بعض العزاء، ولكن هذا ليس كل شيء، لله ابن ثروت، يتردد في السفينة بين أمه البائسة قد تفطر قلبها وتصدعت نفسها، وبين مواطنيه المكتئبين لا يعرفون كيف يلقونه، ولا يعرفون كيف يهونون عليه الخطب؛ لأنهم لا يعرفون كيف يهونون الخطب على أنفسهم.
وهو بين تلك وهؤلاء فرق النفس، مفطور القلب، معقود اللسان، لا يأنس إلى شيء، ولا يأنس إليه شيء.
ولله زوج ثروت، سجينة في غرفتها على السفينة، ومعها رفيقتها البرة، لا تستطيع لها تسلية ولا تعزية، منحدرة الدمع حتى لا تجد في عينيها دمعا، مؤرقة الليل لا تأوي إلى مضجع، منغصة النهار، لا تطمئن إلى شيء ولا إلى أحد.
ولله أصدقاء ثروت في السفينة، قد عجزوا عن كل شيء حتى عن تعزية أنفسهم، وهم يذهبون ويجيئون بين جماعات المسافرين الذين لا يعرفون أن جلال الموت يرفرف على هذه السفينة، فهم فيما هم فيه من لهو ولعب، واغتباط بالحياة وابتسام لها، وإعجاب بالطبيعة، واستماع للموسيقى، وفي ضروب السمر وألوان المجون. وأصدقاء ثروت يرون هذا ويتمثلون الحياة كما هي، لاهية عمن يقبل عليها أو ينصرف عنها، ماضية في طريقها، لا تحفل بهذا ولا بذاك، فلا تزيدهم هذه العبرة إلا زهدا في الحياة وازدراء لها، ولكنهم على هذا ضجرون محنقون، يودون لو استطاعوا أن يسكتوا أنغام هذه الموسيقى، وأن يفرضوا على الناس الهدوء والرفق، في حركاتهم وأحاديثهم، حتى لا يحسوا إلا جلال الموت على السفينة، وجلال البحر من حولها.
والسفينة تمضي وهذه الخواطر تزدحم في نفسي، ونحن ندنو من مصر، ونحن نتحدث إلى أنفسنا عما أعدت مصر لاستقبال ثروت، وقد تركها حيا قويا نشيطا فعاد إليها جثة هامدة ...
لله أسرة ثروت حين رست السفينة، وحين صعدت هي إلى هذه السفينة مضناة مخلوعة الأفئدة، مفرقة بين رفات من مات وبين هذه الزوج الثكلى.
نعم، ولله أهل السفينة جميعا حين عرفوا من الأمر ما لم يكونوا يعرفون، وحين ازدحموا على ظهر السفينة ينظرون في دهش وحزن، وإن منهم لمن يأسف على ابتسامة، وإن منهم لمن يلوم نفسه؛ لأنه استمتع بالحياة والموت مرفرف على السفينة، وفي السفينة أشقياء بالحياة، وإنهم جميعا لينظرون وقد أخذتهم الهيبة، وتسلطت على نفوسهم رهبة الموت ومقام الميت.
ولله هذه الطفلة لم تعد العاشرة من عمرها، وقد نظرت فرأت نعش ثروت محمولا يهبط من السفينة، فأجهشت بالبكاء دون أن تعرف لم تبكي ومن تبكي؟
ولله أمها، ومسافرة أخرى إذ تنصرفان إليها تهدئان من روعها، وتلهيانها عن أن تتبع هذا المنظر المؤلم.
Halaman tidak diketahui