أهم فرنسيون كما يدعي الفرنسيون؟ أهم ألمانيون كما يدعي الألمانيون؟ ما أرى أنهم من أولئك ولا من هؤلاء، وإنما أرى أنهم ألزاسيون، ولو استطاعوا لطلبوا لأنفسهم ما يطلبه كثير من الشعوب الأوروبية الصغيرة من الحياة المستقلة بين هذين الشعبين العظيمين المختصمين. وهم إلى أن يتاح لهم طلب الاستقلال التام يجاهدون الآن في سبيل الاستقلال الداخلي، ويتكلفون في ذلك مشقة وهولا ليس أقل منهما ما تتكلفه فرنسا من المشقة والعناء.
ومهما يكن من أمر الألزاسيين والألزاس من إيثار فرنسا أو ألمانيا أو إيثار الحياة المستقلة، فإن الإقامة في الألزاس لذيذة حلوة، فيها دعة وراحة، وأكل كثير، وشراب غزير، ورياضات ممتعة، ومهما أنس فلن أنسى كلف ابني الصغير بزيارة العمارات الألزاسية والتصعيد في بروجها، والعناية بوصفها وتعديدها، ثم برسمها وتصويرها، وأظنه سيبلغ ما يشاء الله أن يبلغ من السن قبل أن ينسى كاتدرائية ستراسبورج، التي أصبحت عنده الآن مقياسا للكاتدرائيات جميعا. بفضل هذه الكاتدرائية ظهر عند هذا الطفل في السابعة من عمره ميل غريب قوي إلى زيارة الآثار زيارة إن لم تكن فنية فهي تشبه الفنية.
ونحن الآن لا ننزل بلدا ولا نصل إلى قرية حتى يلح هذا الطفل في زيارة بيعتها أو كاتدرائيتها، حتى إذا أتم هذه الزيارة أخذ يقيس البيعة أو الكاتدرائية بكاتدرائية ستراسبورج طولا وعرضا وصعودا في الجو وجمالا فنيا.
ومهما تكن الخواطر التي خطرت لنا جميعا أثناء رحلتنا الطويلة هذه، ومهما تكن العواطف التي أثارتها في نفوسنا هذه الرحلة، ومهما يكن ما لقينا فيها من خير وشر، ومن رضا وسخط، فلن يعدل هذا كله ما حفظته نفس هذا الطفل الصغير من هذه الرحلة؛ فقد كلف فيها بثلاثة أشياء، لن ينقضي يوم حتى يحدثك فيها، ويطيل ويثقل: العيون والينابيع؛ يقيس بعضها إلى بعض ويوازن بعضها ببعض، غزارة وارتفاعا وانحدار ماء. والبيع والعمارات؛ يقيسها كلها إلى كاتدرائية ستراسبورج. ثم قطر السكك الحديدية؛ يحصيها ويحصي ما تقطع من الآماد والمسافات، ويحصي ما تقف عنده ولا تقف من المحطات، يحفظ أسماءها إن استطاع، فإن أعياه ذلك أو فاته اخترع لها الأسماء اختراعا، ولعله يحفظ الاسم على غيره وجهه، ثم يعيده عليك في شكل بديع مضحك. وهو لا يكتفي بحفظ القطارات وآمادها ومحطاتها، ولكنه يقلدها، فهو قطار منذ يفيق من نومه إلى أن ينغمس في النوم أول الليل؛ يقلد القطار في حركته وصوته؛ يقف ويندفع، ثم يقف ويعلن المحطات التي يقف عندها، والتي يقصد إليها متى سافر، وسواء أردنا أم لم نرد فنحن مسافرون سفرا متصلا؛ لأنه قطار ونحن في القطار، فهو يسير ويقف بنا. وإنه ليدهش أشد الدهش حين ننسى أننا مسافرون، وأنه قد انتهى بنا إلى «جنيف» أو إلى محطة «المشمش الجديد» أو إلى محطة «للروز» وإلى ما يلهمه خياله من البلاد والمحطات.
كانت لذيذة مثيرة للعواطف مرضية للنفس هذه الرحلة بين هذين الطفلين، يعيش أحدهما في الخيال، وتتفتح نفس أخته للحياة، فإذا هي ترى الأشياء على وجهها أو تريد أن تراها كذلك، وإذا هي تنفق جهدا لا حد له لتلائم بين الحياة كما تراها الآن وبين ما حفظت نفسها الناشئة من خواطر الطفولة وصورها وأحاديثها.
يستطيع السفر أن يكون شاقا متعبا، وتستطيع الحياة أن تكون فيه مرة ممضة، وتستطيع الهموم أن تملأ النفس وتنغص عليها ما يعترضها من اللذات، ويستطيع العمل أن يكون مجهدا مضنيا، فلن يثبت هذا كله أمام هاتين الابتسامتين الحلوتين: ابتسامة الطفل الذي لا يزال يحلم، وابتسامة الصبية التي أخذت تفيق.
16
وفي الألزاس إذا زرتها مسافات لا بد أن تقطع، ومعاهد لا مندوحة عن أن تزار، وإلا فلم تزر الألزاس، ولم تستمتع بما فيها من جمال مادي ومعنوي، لا بد من أن تأخذ هذه السيارات الضخام فتذهب إلى الهوفالد
Howald
وتتغدى فيه، ثم تعود إلى السيارة وتذهب إلى سانت أوديل
Halaman tidak diketahui