اذكر يا أبت تلك الأيام التي لقي فيها هذا الشعب المسكين على يد هؤلاء القوم الظالمين ما لم يلق شعب في الأرض على يد فاتح أو مغتصب، أيام كنا غرباء في أوطاننا، أذلاء في ديارنا، نمشي فيها مشية الخائف المذعور، وننتفض انتفاضة الهارب المتنكر، لا نعلم أيسقط الشقاء علينا من علياء السماء، أم ينبعث إلينا من أعماق الأرض؟ وهل يخرج الخارج منا من منزله ليعود إليه، أو ليرد المورد الذي لا رجعة له منه أبد الدهر؟
اذكر أيام كانوا يملكون علينا كل شأن من شئون حياتنا حتى زروعنا وضروعنا، ومياه أنهارنا، وأشعة شموسنا، فأصبحنا ولا شأن لنا في وطننا إلا كما لعمال المزرعة ونواطيرها من الشأن فيها، ويحصون علينا كل حركة من حركاتنا، وكل سكنة من سكناتنا، حتى نبضات قلوبنا، وخواطر أفكارنا، وفلتات ألسنتنا، وأحاديث آمالنا، ويحاسبوننا على النظرة واللفتة، والأنة والزفرة، والقومة والقعدة، ثم يقضون فينا بما شاءوا من أقضيتهم، فلا ينحسر ظلام ليلة من الليالي إلا عن مصلوب تهفو به الرياح السافيات، أو طريح مرتهن في أعماق السجون!
اذكر أيام كانت كلمة الوطن جريمة يعاقب عليها قائلها بحرمانه من ذلك الذي يهتف باسمه، وكلمة الدين إثما عظيما يذهب بصاحبه إلى أحد القبرين: إما المنشور، وإما المحفور.
اذكر الدموع التي كانت تذرفها الأمهات على أطفالهن المذبوحين فوق حجورهن، والصيحات التي كانت تصيحها الزوجات والأخوات الواقفات بأبواب السجون على أزواجهن وإخوتهن، والزفرات التي كان يصعدها اليتامى الثاكلون على حافات القبور حنينا إلى آبائهم وأمهاتهم الهالكين!
اذكر ذلك كله ولا تنسه، لا بل أنت تذكره وتعرفه كما تعرف نفسك؛ لأنك أنت الذي قصصته علينا ومثلته لأعيننا وقلوبنا، وأريتنا من ويلاته ومصائبه ما لم نره، ولطالما كنت تبكي عند ذكراه بكاء الطفل الثاكل أمه، فنبكي لبكائك وننشج لنشيجك.
ألا تسمع هذه الأصوات المخيفة التي تحملها إلينا الرياح من ذلك الجانب الغربي؟ إنها أصوات الموتى من جنودك وأبطالك يضجون في قبورهم صائحين: وا ويلتاه، ها هي ذي السماء توشك أن تنقض على الأرض! وها هي ذي أقدام العدو تدنو من تخوم البلقان وبطاحه، وتوشك أن تطأ بنعالها قبورنا، وتزعجنا من مراقدنا، وها هو ذا قائدنا المحبوب برانكومير العظيم الذي سفكنا دماءنا وبذلنا أرواحنا في سبيل ظفره وانتصاره يساوم عدونا في وطننا، ويحاول أن يبيعه نساءنا وأولادنا الذين تركناهم أمانة في يده، ففي سبيل الله ما سفكنا، وفي ذمة القدر ما بذلنا!
ألا تسمع هذه الهمهمة الهابطة علينا من آفاق السماء؟ إنها أصوات الملائكة الأبرار يصيحون ويصخبون وهم وقوف بين يدي ربهم يقولون له: حتى متى يسع حلمك وأناتك هذا الخائن الغادر الذي يبيع أمة من أمم المسيح إلى أعدائها وأعداء دينها، ويسلم إليهم أرواحها وأغراضها، فاقض اللهم فيه قضاءك العادل، واضربه الضربة التي تجعله عبرة للخائنين، ومثلا في الغادرين.
إلي أيتها الذكريات القديمة، والانتصارات العظيمة، والأيام الغر المحجلة المكتوبة بمداد الذهب في صفحات التاريخ، مدي إلي يد مساعدتك، وأعينيني على ذلك الرجل البائس المسكين، وتمثلي أمام عينيه لتذكريه بنفسه وتاريخك، عله يحمر خجلا عند رؤيتك، ويقشعر بدنه رهبة من خيال الجريمة التي يريد ارتكابها.
إلي أيتها الفضائل الإنسانية والكمالات العالية، من شرف وعزة، وترفع وإباء، وأمانة وإخلاص، تعالين إلي جميعا واجثين معي بين يديه، واضرعن إليه أن ينصفكن، ويعدك في أمركن، ولا يقضي للرذيلة عليكن، وقلن له: إنك إن خذلتنا ونفضت يدك منا؛ فلن نجد لنا من بعدك ناصرا ولا معينا.
يا أطفال البلقان وصغارها الناشئين من فتية وفتيات، أقبلوا إليه جميعا، واجتمعوا من حوله، وتعلقوا بأهداب ثوبه، واسكبوا ما تستطيعون أن تسكبوا من دموعكم وشئونكم تحت قدميه، وقولوا له: رحمة بنا أيها الأب الرحيم، والسيد الكريم، وحنانا علينا، لا تكلنا إلى أعدائنا وأعداء وطننا، ولا تجعل مستقبلنا ومستقبل بلادنا في أيديهم يسوموننا الخسف، ويذيقوننا ألوان العذاب، فإن أبيت إلا أن تفعل، فجرد سيفك من غمده واقطع به أعناقنا؛ فذلك خير لنا من هذا العيش المؤلم المرير.
Halaman tidak diketahui