أليس كذلك يا أبت؟ نعم، إنه كذلك بلا شك ولا ريب، فأشعل النار الآن ودعها تسطع في هذا الفضاء الواسع، وتبدد بلألائها هذه الظلمات المتكاثفة؛ فإني أشعر بسواد مقبل من بعيد يتقدم شيئا فشيئا، وما أحسبه إلا فيالق العدو وجيوشه. انظر يا أبت واخترق بنظرك هذا الفضاء الشاسع، ألا ترى تحت خط الأفق أشباحا تتحرك وتتقدم؟ إنه ليخيل إلي أنها أعلام الجيوش التركية تخفق في أجوائها، وربما لا تمضي ساعة أو بعض ساعة حتى تكون قد وصلت إلى هنا!
أسرع بإشعال النار أو عد أنت إلى قصرك وخذ لنفسك راحتها فيه ودعني أتولى عنك إشعالها، فالخطر موشك أن يقع ما من ذلك بد!
ما لي أراك جامدا يا أبت؟ وما هذا الذهول الذي تولاك؟ أشعل النار أو تنح عن طريقي لأشعلها، أشعلها فالوقت أضيق من التأمل والتفكير!
فرفع برانكومير رأسه ونظر إلى ولده نظرة جامدة وقال له: إذن أنت تتهمني يا قسطنطين وترتاب بي، ما أشقاني وأسوأ حظي! ولدي وفلذة كبدي ووارث اسمي ولقبي يتهمني ويتجسس علي، ويقف وراء الأبواب ينظر من خصائصها ليسمع ما يدور بيني وبين زوجي في خلوتي! فيا للعار ويا للشقاء! أيها الولد العاق المسكين، اذهب لشأنك؛ فإني أريد أن أبقى هنا الليلة وحدي، ولا تجازف بمخالفة أمر قائد تعود أن يأمر فيطاع، وليس من شأن مثله أن يصبر لحظة واحدة على مخالفة أمره، إنني سأبقى هنا وحدي، وسأشعل النار بنفسي عندما أريد إشعالها، فلا حاجة بي إلى مشورتك ومعونتك، عد أدراجك إلى حصنك ولا تضف إلى جريمة التجسس على أبيك جريمة معاندته ومخالفة أمره، واعلم أنك الآن جندي أمام قائده لا ولد بين يدي أبيه.
فأن قسطنطين وتأوه آهة طويلة وقال: وا رحمتاه لي ولك يا أبت! إن الأمر صحيح لا ريب فيه، والجريمة توشك أن تقع.
ثم صمت صمتا طويلا لا تطرف له فيه عين، ولا تنبعث له جارحة، ثم انتفض فجأة وصاح بلهجة شديدة صارمة: أبي، إنني سأبقى هنا!
فدهش الأب لعناده وصلابته وقال له: ما أراني الآن إلا أمام عدو لدود لا ولد بار مطيع! قال: لا يا أبت، بل أمام ولد بار مطيع، ولولا ذلك ما جشمت نفسي مشقة المجيء إليك في هذه الساعة من الليل، ولا وقفت أمامك هذا الموقف الخطر المميت، إنني لم أفعل ذلك من أجل نفسي، بل من أجلك ومن أجل شرفك، إنني أحبك كما أحب وطني، وما على وجه الأرض شيء أحب إلي منكما، وكما أتمنى له أن يعيش حرا مستقلا أتمنى لك أن تعيش شريفا عظيما، فإذا ضاع وطني وكان ضياعه على يدك أنت فقدت في ساعة واحدة جميع ما أحب في هذه الحياة؛ فارحم ولدك المسكين الذي لا يزال يضمر لك في قلبه حتى الساعة ذلك الحب القديم الذي تعرفه، واستبق له تلك السعادة التي لم يبق له في الحياة سعادة غيرها، تنح قليلا عن طريقي وائذن لي أن أصل إلى هذه الرابية لأشعل نارها فيراها حراس الروابي جميعا فيشعلوا نيرانهم، فينهض الجيش للدفاع عن الوطن؛ فقد أزفت الساعة ولم يبق سبيل للأناة والتفكير.
ثم اندفع إلى مكان الرابية مسرعا فاعترضه أبوه ووقف في وجهه وقفة الصخرة العاتية في وجه الريح العاصف وقال له: لا آذن لك بالتقدم خطوة واحدة، ودون ما تريد الموت الزؤام! فطاش عقل قسطنطين وجن جنونه وقال له: احذر يا أبت؛ فإن في هذه السماء المشرقة علينا بنجومها وكواكبها إلها ينتقم من الظالمين، ويجازي الخائنين بخيانتهم شر الجزاء، وما أنت بناج من عقابه، ولا مفلت من جزائه! لقد حدثتني نفسي في تلك الساعة الهائلة التي سمعتك فيها تؤامر على وطنك وأمتك بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها، وكنت على وشك أن أرفع أمرك إلى الملك أنت وزوجك، وأكشف له دخيلة أمركما، فلم أفعل؛ لأني ضننت بك على الموت الدنيء الذي يموته الخائنون المجرمون أمثالك، وأشفقت على ذلك الشرف العظيم الذي بلغ في علوه مناط السماك الأعلى أن يصبح مهانا مذالا تدوسه الأقدام، وتطؤه النعال، وكرهت أن يمر السابلة من رعاع الناس وغوغائهم على قبرك بعد موتك فيبصقوا عليه كأنما يبصقون على قبر الشيطان، وربما نبشوا عن جثتك تشفيا منك وانتقاما، فأخرجوها من قبرها وأسلموها إلى جوارح الطير وكواسر الوحش تمزق أشلاءها، وتبعثر عظامها .
أشفقت عليك من كل هذا، وأشفقت على نفسي أن يراني الناس في طريقي فيشيروا إلي بأصابعهم ويقولوا: هذا هو الولد السافل الدنيء الذي وشى بأبيه وأورده مورد التهلكة، فبئس الولد ولبئس الوالد! ولا يلد الخونة المجرمون غير الأدنياء الساقطين! فنهنهت نفسي وملكت عليها زمامها وقلبي يذوب حزنا ولوعة، وقلت: لعلني أستطيع أن أتدارك الأمر عن طريق غير تلك الطريق، وأن أتمكن في آن واحد من إنقاذ أبي وإنقاذ وطني من حيث لا أخسر واحدا منهما في سبيل الآخر، فجئت وقلبي ممتلئ أملا ورجاء.
أما الآن وقد يئست من كل شيء، فإني أكاد أشعر بالندم على ضياع تلك الفرصة التي ملكتها ساعة من الزمان فسرحتها ولم أنتفع بها، وكأن صوتا خفيا يهتف بي من أعماق قلبي: إنك قد أشفقت على نفسك مرة وعلى أبيك أخرى، ولم يخطر ببالك لحظة واحدة أن تشفق على وطنك وقومك.
Halaman tidak diketahui