مع هذا يصر «الخبراء» الآن على أن مصر في طريقها إلى نظام ديمقراطي على المنوال الغربي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر وحرية التعبير. وقد سمعنا في مناسبات عدة أن هذا هو مولد «الربيع العربي» بقيادة مصر صاحبة السبق في تبني الاتجاهات الجديدة في المنطقة على مر التاريخ. تبنى كتاب «في قلب مصر» من بدايته إلى نهايته وجهة نظر مخالفة تماما ترى أنه - مثلما حدث في إيران عام 1979 - في ظل الفوضى التي تشهدها مصر بعد الثورة لن يكون النصر في النهاية من نصيب الجموع التي تدفقت إلى الشوارع من مختلف طبقات المجتمع حتى ولو سقط النظام. بل إن شجاعة هؤلاء وبطولتهم سيمهدان الطريق - من دون قصد - لوصول الإسلاميين إلى السلطة بعد حدوث انقلاب عسكري. ولهذا السبب كثيرا ما حذرت من السماح بمزيد من سوء وتدهور الأوضاع. وللأسف، تدهورت الأوضاع، واختطف الإسلاميون الثورة بموافقة ضمنية من المؤسسة العسكرية.
ذكرت في الفصل الذي تحدثت فيه عن الإخوان المسلمين - وأيضا في الفصل الأخير - أن الإخوان ليسوا ثوريين، ويمكن استبعادهم من إشعال فتيل التغيير الثوري المرتقب. يحذر الإسلاميون المتشددون بشدة من الفوضى والثورة، وعندما اندلعت الثورة، عارضها الإخوان المسلمون - مثلما تصورت - وكذلك فعلت الجماعات السلفية الأكثر تشددا. لا بد أن نذكر أنفسنا مجددا أن هذه ثورة شعبية محضة، وأنها قامت بسواعد شباب ليبرالي ويساري وعلماني انضمت إليهم أغلبية لم يكن لهم أي اهتمام قط بالسياسة كان هدفها الوحيد هو الخلاص من نظام نشئوا على كراهيته. لكن كان هذا حال الثورة الإيرانية - في مراحلها الأولى - أيضا عام 1979.
وفي الشهور التي تلت تنحي مبارك بدا واضحا - خاصة وأن الليبراليين الذين أشعلوا فتيل الثورة أعلنوا في تفاخر (وفي حماقة لو أعدنا التفكير في الأمر) أن ثورتهم «بلا قائد» - أن الإسلاميين منظمي الصفوف كانوا يتحركون لملء الفراغ تماما مثلما فعلوا في إيران. ومع هذا واصل «الخبراء» الغرب ونظراؤهم المصريون الليبراليون ترديد العبارات ذاتها: ما من شيء يدعو إلى القلق، وشعبية الإخوان المسلمين محدودة، ومصر صاحبة تاريخ ثري وطويل من التعددية والتنوع، والشعب المصري لا يريد العيش تحت مظلة دولة إسلامية.
من المؤكد أن معظم المصريين لا يريدون العيش تحت مظلة دولة إسلامية، لكن هكذا كان حال الإيرانيين عام 1979. تجاهل هذا التحليل التفاؤلي إنذارا بالغ الخطورة؛ فالإسلاميون لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب من أجل تحقيق الفوز في الانتخابات. بل يحتاجون لتأييد أغلبية من يدلون بأصواتهم، وهؤلاء تقدر نسبتهم في مصر تاريخيا بعشرة في المائة فقط ممن لهم حق التصويت. ولذا عندما صوت المصريون في مارس/آذار 2011 على التعديلات الدستورية التي أعلن عنها بعد قيام الثورة، فإن 41 بالمائة فقط ممن لهم حق التصويت كلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ صحيح أنها نسبة تفوق ما كانت عليه في الماضي، لكنها تظل منخفضة إلى حد كبير بالنظر إلى كونها أول انتخابات حرة ونزيهة تتسنى لمعظم المصريين فرصة المشاركة فيها. وهكذا فالإسلاميون - حتى ولو كانوا يتمتعون (مثلما ذكرت كثيرا) بتأييد نحو عشرين إلى ثلاثين بالمائة فقط من إجمالي عدد السكان - لا يزالون قادرين على كسب أغلبية الأصوات لسبب بسيط، وهو أن أتباعهم هم الأكثر تفانيا وتعصبا ومن المرجح بشدة أن يشاركوا في التصويت.
قبيل استفتاء مارس/آذار كان الإخوان المسلمون الكتلة المعارضة الوحيدة التي تحث على الموافقة على التعديلات الدستورية، غير أن أكثر من ثلثي المشاركين في التصويت استجابوا لندائهم؛ أي سبعة وسبعين بالمائة. ونؤكد مجددا أنهم ليسوا سبعة وسبعين بالمائة من المصريين جميعا، وإنما سبعة وسبعين بالمائة من الواحد والأربعين بالمائة الذين صوتوا، ومن هنا كانت الأغلبية الساحقة للإسلاميين على الرغم من قلة مؤيديهم. خسرت الأحزاب الممثلة للنخبة المصرية التقدمية العلمانية، التي عارضت بشدة الدستور المعدل بدعوى أنهم يحتاجون مزيدا من الوقت لتنظيم صفوفهم. علاوة على هذا فإن الإخوان المسلمين فازوا أساسا في الاستفتاء لمجرد زعمهم أن أي تعديلات أخرى على الدستور ستمهد الطريق أمام المؤامرة الأمريكية والإسرائيلية لإلغاء «المادة الثانية» التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وبعبارة أخرى، تغلبت العبارات والشعارات المبسطة على البيانات السياسية الأشد تعقيدا.
إضافة إلى ذلك أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت منذ قيام الثورة أن التلهف لتطبيق الديمقراطية وإجراء الانتخابات على المنوال الغربي يأتي في آخر أولويات من خرجوا إلى الشوارع أثناء الثورة. وكالعادة ذكر نحو عشرين بالمائة أن الدافع الرئيسي وراء الإطاحة بمبارك هو تطبيق الديمقراطية والمشاركة في انتخابات حرة. أما الباقون فكانت أولى أولوياتهم دائما مثلما ورد في الاستطلاع استعادة كرامتهم والتعبير عن غضبهم من تردي الأوضاع الاقتصادية للدولة. ومن ثم أحيطت استجابة النخبة في الغرب (والقاهرة) بخداع الذات، تماما كما أن تأييد النخبة لنظرية «نهاية التاريخ» المنافية للعقل التي وضعها فرانسيس فوكوياما في بداية التسعينيات من القرن العشرين - عقب سقوط سور برلين - يبدو أمرا هزليا لأي شخص فطن يلقي نظرة على الماضي. بالمثل يشير الليبراليون الرواد الآن إلى أن الشعوب العربية المضطهدة - بزعامة المصريين - انتفضت ضد الطغيان لأنهم يتوقون إلى قيم الغرب الليبرالية الكلاسيكية من قبول الآخر والحكم التمثيلي. أيضا يصرون على أن الإنسانية مرهونة بالتبني الجماعي للدساتير التي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير الفردي.
لا شك أنه ما من عاقل يود أن يلقى القبض عليه ويعذب لا لشيء سوى أنه عبر عن رأيه سواء أفي القاهرة أم في نيويورك. لكن عندما ننظر إلى الصورة من المنظور الأشمل - بأن نتساءل هل المطلب العام بالكرامة الإنسانية الأصيلة يترجم حتما على أنه ولع بالنظام البرلماني البريطاني وتأييد الفردية وفق النهج الأمريكي - يصبح التقييم ناقصا ومبسطا للغاية. ولنفكر في استمرار شعبية جمال عبد الناصر الذي حكم مصر بعد انقلاب عام 1952 الذي أطاح بالملكية المدعومة من بريطانيا. فكما يبين الفصل الأول قمع عبد الناصر بوحشية حرية التعبير وفرض حظرا على المعارضة السياسية. وبالرغم من شعبيته الأكيدة فإنه لم يترشح للانتخابات قط خلال العقدين الذي حكم فيهما البلاد. ومع هذا كانت الجماهير ترفع صورته عاليا أثناء الثورة المصرية 2011 في حين شوهدت بضع صور لأنور السادات بالرغم من حكمه المؤيد للديمقراطية إلى حد ما. ويكاد يكون من المحال أن ترى مصريا عاديا - باستثناء الإسلاميين الذين مارس عبد الناصر بحقهم جرائم التعذيب والقتل - يقبل بكلمة سوء تقال في حقه. ولا عجب في أن استطلاع رأي كبير أجري بعد الثورة المصرية أظهر أن الرغبة في تطبيق الديمقراطية على المنوال الغربي حتى بين الثوار أنفسهم تأتي كأولى الأولويات لدى تسعة عشر بالمائة فقط ممن شاركوا في الاستطلاع. لم كل هذا التقدير لعبد الناصر الديكتاتور المتسلط إذن؟ طرحت هذا السؤال مرات لا أحصيها على مر العقود، ودوما كنت أحصل على التفسير نفسه من المصريين؛ وهو أنه لم يكن شخصيا حاكما فاسدا، وأنه احترم كرامة شعبه، ولم يكن توفير الغذاء بالأمر الصعب في عهده. يبدو أن ميوله الاستبدادية لا دخل لها بالموضوع.
ومما يدعو للسخرية أن تونس كانت هي المحفز لاندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي؛ ذلك أن الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الذي حكم البلاد بعد الاستقلال أدار ظهره لسياسة الوحدة العربية ومعاداة الغرب التي تبناها عبد الناصر مؤكدا بدلا من ذلك على تفرد بلاده. وعلاوة على ذلك، فطوال سنوات تكرر استقبال عامة التونسيين للهجتي المصرية المميزة بالفتور، لأنهم لا يحملون الكثير من مشاعر الحب للمصريين. فالتونسيون ينظرون إلى المصريين على أنهم مخادعون محترفون، وأنهم منافقون بسبب إظهارهم المتفاخر - والظاهري عادة - للتقوى والورع. وفي المقابل، ينظر المصريون الأكثر تحفظا إلى حظر ارتداء الحجاب في تونس وأحياء الدعارة المنتشرة تحت مظلة القانون على أنها نوع من الجنون. ولا غرو في أن مباراة كرة قدم جمعت بين فريقين من البلدين في القاهرة - بعد اندلاع الثورتين التونسية والمصرية ببضعة أشهر - قضت سريعا على كل ما كان يقال عن مشاعر الحب بين الأشقاء العرب في كلتا الدولتين في أعقاب بداية «الربيع العربي». فعقب قرار مشكوك في صحته اتخذه حكم المباراة اندلعت أعمال الشغب في الجانب المصري حيث اندفعت الجماهير إلى أرض الملعب وهاجمت اللاعبين التونسيين. وصادف أن كنت في تونس تلك الليلة، ولم يكن من السهل أن أطلب فنجانا من القهوة باللهجة المصرية.
وأثناء أسفاري المتتابعة جيئة وذهابا بين تونس ومصر بعد الثورة، هالني أيضا ما رأيت من مشاعر الازدراء التي يكنها عامة المواطنين في كلا البلدين للشعب الليبي في ظل نشوب حرب أهلية هناك. لدى معظم المصريين انطباع خاطئ بأن جميع الليبيين ينعمون بالثراء الفاحش، ولذا لم يروا سببا لقيامهم بالثورة من الأساس؛ وهذا دليل آخر نستنبطه من الأحاديث المتداولة على أن المعاناة الاقتصادية - وليس التلهف لتشكيل حكومة تمثيلية على المنوال الغربي - هي التي دفعت المصريين إلى التظاهر. التونسيون من جانبهم كثيرا ما نظروا إلى الليبيين نظرة ازدراء إلى حد يبدو معه فتورهم تجاه المصريين عاطفة مكبوتة. فهم يعتبرون الليبيين بدوا حمقى، وسرعان ما هاجموا بعنف مخيمات اللاجئين التي أقيمت من أجل الليبيين جنوب بلادهم. لذلك اتضح أن الرأي القائل إن الثورات العربية مثلت إحياء لحلم الوحدة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر - مثل العديد من النظريات التي يروج لها «خبراء» الشرق الأوسط - هو محض تمن لا حقيقة له.
نظرا لأزمة الآراء السياسية الراديكالية المعارضة في الوقت الراهن - حيث تتحلى الشعوب العربية من دون شك بالجرأة التي كانت جزءا محوريا في جميع الثورات الكبرى على مر التاريخ، لكنهم يفتقرون إلى التلاحم وإلى وجود استراتيجية بل ولغة سياسية يستخدمونها في صياغة أهدافهم - فالحقيقة المؤسفة أن الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان الأخرى كانت تصب دوما في صالح الإسلاميين أولا وقبل كل شيء. ذلك أن الإسلاميين يتحدثون لغة يتردد صداها بين العامة. ليس معنى هذا أن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية كبيرة في مصر، ومثلهم في ذلك السلفيون. لكن عندما يصل الأمر إلى جوهر الخلاف السياسي نجد المصريين غير مبالين تماما، والأحزاب التقدمية تكاد لا تكون معروفة، والإخوان المسلمين بالتبعية الفصيل المعارض الأفضل تنظيما وصاحب الرسالة الأكثر وضوحا والأيسر استيعابا.
Halaman tidak diketahui