ومع أن أغلب أرض البدو لا تمثل لحكامهم إلا رقعة شطرنج، ومع أن أهلها عكروا على عبد الناصر صفو أحلامه بدولة مركزية ذات عرق واحد، فقد لعبوا العديد من الأدوار من أجل حكوماتهم المتعاقبة المختلفة. تاريخيا، درايتهم بالسفر عبر الصحراء جعلت قوافلهم طوق النجاة لاقتصاد الكثير من البلدان ، وهذا الدور لا يزال ملحوظا إلى اليوم؛ فعلى سبيل المثال: عندما فتحت ليبيا حدودها للأمم المتحدة، تعاقد منظمو برنامج الغذاء العالمي مع قبيلة بدوية لنقل المعونات للاجئين السودانيين من ميناء بنغازي على البحر المتوسط عبر الصحراء المقفرة إلى مخيمات اللاجئين شرق جمهورية تشاد. ومما لا شك فيه أن البدو أيضا يشتهرون بأنهم مقاتلون أشداء، وقد سمحوا بتجنيدهم مرتزقة عدة أجيال. ولا تزال الدول الحديثة تعتمد عليهم لتأمين أراضيها؛ على سبيل المثال: تزوج أول ملوك المملكة العربية السعودية - الملك عبد العزيز - من امرأة من قبيلة شمر القوية لتأمين حدود بلاده الشمالية.
لكن في هذه الخدمات التي يقدمها أهل البادية يكمن أساس مشكلاتهم؛ فقد رأت الأمم الناشئة أنه إذا كان باستطاعة طرف ما شراء ولاء البدو، فباستطاعة أي طرف آخر هذا. وتعي تلك الدول أن الولاء القبلي ظل دائما يسمو فوق المفاهيم المجردة كالهوية القومية؛ فالحدود التي تتقاتل وتتفاوض حولها الدول الحديثة لا تعني شيئا بالمقارنة بحقوق ملكية الأراضي التي تمتعت بها قبائل البدو قرونا، والتي يزعمون أنها تسلب منهم على نحو منهجي.
كل دول الشرق الأوسط التي تضم سكانا من البدو حاولت حثهم على الاستقرار، كما حاولت الحكومات الأوروبية حث قبائل الغجر على ذلك؛ أما الحكومة المصرية فبطبيعتها حاولت أن تكره أهل البادية عنوة على تغيير نمط حياتهم. صورت جريدة «الوفد» على أفضل وجه تحمس الحكومة المصرية الطائش لهذا، عندما أوردت أن استراتيجية التنمية الزراعية بالمنطقة لن تفتح وحسب بابا للربح الوفير الذي يمكن لمستثمري القطاع الخاص احتكاره، بل ستفتح «الباب أيضا لبناء نطاق أمني على طول حدود مصر المفتوحة» يشكل عائقا يمنع الإرهابيين والمتآمرين من دخول مصر، لأن هذه الاستراتيجية سوف تحيل مناطق شاسعة إلى ما يشبه المستعمرات في الصحراء. (لاحظ هنا أن البدو ينظر إليهم فقط على أنهم لبنات بناء سياج أمني).
قاد التوسع في بناء المدن على أراضي الرعي التقليدية، والجفاف الذي سببته التقلبات الجوية في العقود الأخيرة؛ إلى موت الكثير من المواشي التي ظل البدو يرعونها، وأديا في بعض الحالات إلى موت جميع مواشي القبائل الأكثر فقرا والأقل شأنا؛ غير أن البدو محرومون أيضا من آثار الازدهار السياحي، فقد خصصت جميع مواقع البناء في منتجعات البحر الأحمر إبان الأعوام الخمسة عشر الأخيرة للشركات المصرية والأجنبية المستثمرة في السياحة، في الوقت الذي أقصت فيه البرامج الحكومية البدو إلى الصحراء. كما أن معدل البطالة بين البدو شديد الارتفاع، وأغلبهم محرومون من التمتع بالتعليم والمهارات اللازمة لتأسيس المشروعات الصغيرة التي تلبي احتياجات السياح. ففي عام 2002 وحده، خلق إنشاء مائة وعشرة فندق ما بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف فرصة عمل، ذهبت جميعها تقريبا إلى مصريين من مناطق أخرى. فمن أجل تقليص نسبة البطالة بالقاهرة وغيرها من مدن دلتا النيل المزدحمة، شجعت الدولة العمالة على الانتقال من تلك المدن إلى سيناء، حيث يحصلون على راتب أكبر ويتمتعون بمستوى معيشة أفضل؛ وهكذا يضطر البدو الذين أبعدوا إلى البحث عن سبل بديلة لكسب العيش، وهي سبل شبه معدومة في تلك المنطقة؛ على الأقل السبل القانونية. على سبيل المثال: ذكرت منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب أن جميع عاملي أحد فنادق الخمس نجوم يأتون من مدن وادي النيل، عدا بحارين من بين مائتين وخمسين عاملا يضمهما طاقم زورق الفندق يأتيان من العاصمة الإدارية لمحافظة جنوب سيناء، وهي مدينة الطور. ويحرم البدو أيضا من العمل مرشدين سياحيين على الطرق الصحراوية.
تأمل على سبيل المثال قرية جارغانا الساحلية، يعيش البدو هناك بالقرب من غابات أشجار المانجروف الاستوائية، وهي بذاتها تستحق الحماية من حيث المبدأ حفاظا على النظام البيئي المحلي، ويعتمد البدو هناك في الصيف على الصيد كمصدر رئيسي للعيش، ويحفظون الأسماك من أجل الشتاء الذي ينتقلون فيه إلى الأودية للهروب من الصقيع ورياح الساحل القوية. لكنهم اليوم يدعون أنهم يتعرضون للإقصاء والتهميش على نحو منهجي بسبب قطاع السياحة الجديد الذي نما في كل أنحاء جنوب سيناء؛ فيزعمون أولا أن أصحاب الفنادق والمنتجعات يمنعونهم من الصيد، لذا وافقوا على الصيد في مواقع محددة فقط فرضتها هيئة الحفاظ على محميات جنوب سيناء؛ وثانيا يتهمون محافظ سيناء بحرمانهم من الصيد في أي مكان حرمانا باتا. وبعبارة أخرى، يقصى البدو باستمرار إلى المناطق النائية. وهكذا غيرت السياحة البيئية والأموال التي تجلبها منظور بعض شباب البدو، فحاولوا التأقلم معها ليلعبوا دورا فيها، لكن هذا - حسبما يرى كبار البدو - أضر بقيم البدو التقليدية: البساطة والترابط واحترام المنظومة القبلية التقليدية، ووتيرة حياتهم التقليدية. باختصار، اتجه هؤلاء الشباب إلى الجريمة والكسب غير المشروع. لا شك أن أي مشروع تطوير ذي رؤية سديدة كان سيحاول إشراك صيادي البدو في المشاريع السياحية، لجني الأموال من التجارب المشوقة وحدها التي يقضيها السياح بين البدو الأصليين، ولو أن الحق هو أن جزءا كبيرا من العالم بدأ مؤخرا يتطلع إلى وسائل أخرى بخلاف عرض سكان المنطقة الأصليين باعتبارهم وسائل لإدهاش السياح.
لكن هذه هي الوسيلة التي يجني بها البدو الكثير من المال في جنوب سيناء عندما يمنحون دورا هامشيا بالقطاع السياحي؛ بتحويل أنفسهم إلى وسيلة جذب. ورغم تهميش البدو، يزخر دليل السائح بصور ملونة لهم. ولكن في شمال سيناء، يكاد النشاط السياحي يكون منعدما، فالقرى السياحية التي أنشأتها الحكومة المصرية على طول الساحل الشمالي هي في واقعها بلدان مهجورة، ولا تكفي منطقة العريش الصناعية الصغيرة ومطارها لإعالة عائلات البدو. والوعود بتقديم المساعدات المالية وتأسيس المشروعات الجديدة من أجل الإسكان والتوظيف تحولت - على حد قول صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عام 2007 - إلى «مزحة». فكما جرت العادة دائما في مصر، وضعت الخطط الكبرى ودراسات الجدوى، لكن لم تبن في الواقع أي مصانع كبرى منذ عام 2001، ويزعم أن إجمالي عدد العاملين في المصانع المنشأة بالفعل يقل عن الخمسة آلاف. لكن هذا لا يعني أن جهود إسكان البدو قد فشلت؛ لقد نجحت، ولكن ليس على الوجه الذي خططت له الحكومة المصرية؛ فقد ذكرت منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها شبه جزيرة سيناء في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة قد دفعت البدو الباحثين عن عمل وتعليم من أجل أبنائهم إلى إنشاء مستوطنات فعلية على أطراف المدن. وبعبارة أخرى، شكلوا طبقة دنيا تعيش في الضواحي ويخلق وجودها جميع أنواع المشكلات: الجريمة وتطرف الشباب.
لكن التعليم الذي يبحثون عنه هناك لا يستحق بالضرورة السعي إليه. ولا يسع بدو الأرياف غير المسجلين مواطنين مصريين التمتع بتعليم حكومي على الإطلاق. وقد ذكرت إحدى هيئات التنمية أن نسبة الأمية بين بعض البدو تصل إلى 90٪، وإن سنح لهؤلاء التعلم فالتعليم شأنه شأن التعليم في سائر مصر يدور بالدرجة الأولى حول التراث الفرعوني والدولة المركزية؛ لكنه لا صلة له على الإطلاق بالبدو. من ثم كان المشروع الوحيد الذي سعت إليه الحكومة المصرية بحماس هو تأسيس متحف فرعوني بالعريش بما أن المنطقة تخلو من التراث الفرعوني، وهو ما لا يبدو إلا محاولة لفرض طابع الدولة على تلك المدينة التي ظلت إلى ذلك الوقت تحتضن متحفا مربحا للتراث البدوي. وعندما يعلم الآباء أبناءهم تراثهم العربي، يقال إن المعلمين بالمدرسة يستدعونهم لتوبيخهم على ذلك.
أما على الصعيد السياسي، فقد أخطأ النظام المصري في افتراضه أن هيكله العسكري ينعكس في النظام القبلي، إذ ظل المنطق الذي يحركه هو السيطرة على القادة للسيطرة على الجميع. ومن هنا بدأت أجهزة أمن الدولة في لعب دور في عملية انتقاء شيوخ القبائل، التي جرت التقاليد على أن تتم بإجماع القبيلة، تماما كما تصر الحكومة المركزية في القاهرة الآن على أن يكون جميع الأئمة من موظفي الحكومة. لذا لا يتمتع الأئمة الجدد بمصداقية بين أبناء الشعب، ولا رؤساء القبائل بالمصداقية في قبائلهم. وأدى ضعف نفوذ كلا الفريقين إلى فراغ قد يتسنى للمتطرفين استغلاله، وضعفت شرعية شيوخ القبائل إلى حد أنهم بدءوا يلعبون دورا مشابها لدور شيوخ المملكة العربية السعودية الذين يحجب ولاؤهم المعلن للنظام الحاكم واقعا مختلفا تماما يسود بين العامة. •••
الإهمال يدور في حلقة مفرغة خبيثة.
قال شخص مجهول الاسم من إحدى قبائل البدو لصحيفة الأهرام الأسبوعية في حديث إلى الصحيفة في مايو/أيار عام 2007: «أضحت حياتنا لا تطاق منذ سنوات، ويبدو أن أي بدوي يعد بلا تفكير مشتبها به .» هذا الشعور بعدم الثقة في البدو ترسخ في سنوات الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى البدو على أنهم حلفاء لإسرائيل، ومن ثم خائنون للقضية القومية المصرية. ولعل هذه الوصمة قد لازمتهم لسبب يمكن تفهمه بعد عودة سيناء إلى مصر. فعلى أي حال، الجيش الإسرائيلي لديه كتيبة كاملة من البدو، بعض قبائلها تنحدر من نسب مقارب للقبائل المصرية، وما يقرب من 20٪ من شباب البدو هناك الذين بلغوا السن المناسبة للالتحاق بالجيش يتطوعون للالتحاق بالجيش الإسرائيلي. من هنا صوتت مدن البدو في إسرائيل على مر تاريخها بكثافة للأحزاب الصهيونية، وظل المرشحون المتطرفون يفوزون بما يصل إلى 95٪ من أصوات البدو في بعض المدن إلى وقت قريب، حتى الثمانينيات. ومع أن هذه الأصوات تضاءلت على مدى عدة انتخابات، لا يزال يهود الجناح اليميني يفوزون بأغلب أصوات البدو الذين تضطلع كتائبهم الاستطلاعية الشهيرة إلى حد بعيد بمراقبة الحدود، والذين ظلوا يتمتعون بحضور على حدود منطقة رفح إلى أن انسحبت إسرائيل من غزة، ويزعم الفلسطينيون أن جنود إسرائيل من البدو أكثر عدائية ووحشية من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، فهم من يقود شاحنات إزالة المنازل. على سبيل المثال: قتل جندي إسرائيلي من البدو - أدانته المحكمة فيما بعد - ناشط السلام الشاب البريطاني توم هاندرال عام 2004 في رفح وهو يدافع عن منزل فلسطيني ضد أعمال الإزالة.
Halaman tidak diketahui