كيف أصبحت الموالد جزءا هاما من حياة دولة تفتخر رسميا بأنها عربية سنية؟ رغم أن الأغلبية العظمى الكاسحة من سكان مصر هم في الواقع من السنة، فقد تخللت تاريخ البلاد فترة سيطر فيها المذهب الشيعي، بدأت في القرن العاشر عندما غزا القاهرة وحكمها الشيعة الإسماعيلية، مؤسسو الدولة الفاطمية. وقد بنى الفاطميون الجامع الأزهر - أهم مراكز تدريس المذهب السني في العالم الإسلامي - أصلا للمساعدة في نشر المذهب الشيعي. ولا شك أن هذا كان في عهد بعيد جدا، لكنه خلف أثرا عميقا على معمار القاهرة وعلى الممارسات الإسلامية وعلى مفهوم الإسلام في مصر. إن إجلال المصريين لآل بيت النبي بوجه خاص - وللأولياء الصالحين بوجه عام - أكبر منه في أي بلد عربي سني آخر. فليس من الغريب مثلا أن تلتقي ثلاثة أبناء في أسرة واحدة أسماؤهم علي وحسن وحسين؛ وهي أسماء لا يحملها إلا أطفال الشيعة في الدول السنية الأصولية كالمملكة العربية السعودية. بالمثل بعض التقاليد المصرية الأخرى كتناول الحلوى في العيدين احتفالا بانتهاء شهر رمضان وبقدوم موسم الحج، وحمل الأعلام الاحتفالية التي ترمز إلى الصوفية في مواكب أثناء الموالد، هي جزء لا يتجزأ من التقاليد الشيعية. هذا التاريخ بالمناسبة يفسر إلى حد بعيد التأييد العام الذي تمتع به القائد الشيعي الشيخ حسن نصر الله في مصر إبان قصف إسرائيل للبنان عام 2006، رغم إدانة النظام المصري الأولية ل«تهور» حزب الله، في محاولة لاستغلال ورقة الطائفية (ومن ثم تنفيذ تعليمات الولايات المتحدة بالسعي إلى قلب المصريين على حزب الله). ورغم الحملات المناهضة للشيعة التي نظمها بلهاء الإعلام المصري الذي تديره الحكومة المصرية، رفض أغلب المصريين تأييدها، بل إن صحيفة الدستور المعارضة وزعت في الواقع ملصقات مجانية إبان الحرب حملت صورة حسن نصر الله، ما لبثت أن أصبحت تتبدى للعيان في كل مكان تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الصحيفة «رمز المقاومة العربية»، وأظهرت استطلاعات الرأي التالية أن نصر الله هو القائد الذي يتمتع بأكبر شعبية بين المصريين في الشرق الأوسط. لذا، بعدما أدرك النظام أنه ارتكب خطأ سياسيا كبيرا - حتى بمعاييره هو نفسه - عدل عن سياسته سريعا وأخذ بدلا من ذلك في مهاجمة «العدوان» الإسرائيلي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أيضا أن ثاني زعماء المنطقة الذين يتمتعون بالشعبية هو محمود أحمدي نجاد رئيس دولة إيران ذات الأغلبية الشيعية. ويوحي هذا بأن أي محاولة يتبناها النظام الحاكم المصري لإخفاء دعمه للحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران في المستقبل تعتمد على اللجوء إلى ورقة الطائفية الشيعية السنية سترتد عليه، مما سيؤدي إلى زيادة الفجوة المتسعة حاليا بالفعل بين نظام مبارك والشعب المصري.
إن كانت الموالد وأصولها الصوفية الشيعية تشكل تحديا للإسلام السني المحافظ، فمن الطبيعي أن تصبح الموالد نفسها يوما ما مهددة بسبب نمو الإسلام السياسي في مصر منذ سبعينيات القرن العشرين، لا سيما في ضوء زحف جماعة الإخوان المسلمين إلى التيار الرئيسي والتهدئة من جانب الأزهر - أحد أذرع النظام - الذي يتجه أكثر فأكثر إلى التشدد. سيتحقق هذا بالدرجة الأولى إن وقع ما لا يخطر ببال واعتلت جماعة الإخوان المسلمين السلطة بالفعل. ومع سيطرة الفكر الأصولي على وسائل الإعلام الجماهيرية، فقد تسرب شيء من هذا الفكر حتما إلى بعض من عامة الشعب المصري. من هنا تزايد عدد من يتساءلون إن كانت الموالد حرام وبدعة بالفعل؛ فهذان انتهاكان خطيران وفقا للشريعة الإسلامية الصارمة. وبوجه عام، تتعرض الموالد أيضا للتهميش اجتماعيا ومكانيا، حتى إن محبيها بدءوا يشعرون بالحنين إلى ماضيها. يلوم الكثير من مرتادي هذه الموالد الدولة وانتشار الأصولية المتأثرة بالوهابية لأنهما كانا السبب في اختلاف وجه ليالي هذه الاحتفالات التقليدية. وتوضح آنا مادوف في مقالها عن الموالد في كتابها الرائع «القاهرة العالمية» (2006)، الذي راجعته ديان سينجر مان، إن السياسات الحكومية لعبت بلا شك دورا في هذا، فأشارت إلى أن «المحاولات القمعية المتزايدة التي تبذلها شرطة القاهرة والحكومة لإغلاق الأماكن العامة في وجه الاحتفالات الصوفية الشعبية هي وسيلة للحد من التجمعات العامة الكبيرة لا سيما بعد أن اندلعت في القاهرة احتجاجات كبيرة إثر غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.» غير أن تزايد العداء تجاه الموالد يعود لأسباب أكثر تعقيدا وأكثر غموضا، تتعدى كراهية الحكومة للباعة المتجولين أو للارتباك الذي يخلقه تجمع الحشود الكبيرة. فهذا مثلا لا يكاد يبرر الأعمال التخريبية التي ارتكبها بعض السنيين المتطرفين في بعض الموالد.
دارت شائعة قبل بضعة أعوام بين حشد أحد الموالد في صعيد مصر، أثناء إنشاد الأغاني الدينية على المنصة في ليلة ما بأن صبيا من أهل المنطقة اختطف. قال أحد حاضري المولد من قرية مجاورة لمجلة كايرو تايمز التي لم تعد تصدر الآن - والتي كشفت عن القصة كجزء من تغطيتها للتهديدات التي تواجهها الموالد في مصر اليوم - إن «المولد فسد تقريبا»، ثم أردف قائلا: «سادت الفوضى إلى حد ما، وعاد الكثيرون إلى منازلهم لمعرفة ما يجري، وأسرع المنشد بالغناء وانتهى منه مبكرا. كان المولد من الأساس صغيرا، فكان نبأ كهذا كافيا لأن يفسد كل شيء.» لكن تبين فيما بعد أن الفتى المختطف كان ناشطا في جماعة إسلامية وهو أحد سكان المنطقة المحافظين الذين يعارضون إقامة الموالد. وعاد الفتى للظهور بعد يومين وهو يتعافى من «المحنة» في الفراش، مع أن صحته بدت جيدة على نحو واضح. زعم الكثيرون من أهل القرية لاحقا - وفقا للمقال الذي أوردته مجلة كايرو تايمز - أن الاختطاف كان تمثيلية لإفساد احتفالية المولد. وقال ساكن آخر من أهل القرية: «كان الأمر كله مسرحية، مهزلة لم يدبر لها على نحو جيد. اختطف الفتى مساء المولد، ولم يذكر على الإطلاق ما الذي أراده المختطفون، أو سبب اختطافهم له، أو غرضهم من هذا.» قيل إن هؤلاء الناشطين أزعجهم إحياء تقليد القرية بعد أن تسبب سوء التنظيم في انقطاع إقامة المولد بضع سنوات، وقد حاولوا إقناع أهل القرية بأن الاحتفال بالموالد إثم، فلما أحبطهم فشلهم في إثناء أهل القرية عن المشاركة في المولد، لجئوا على ما يبدو إلى الاختطاف الزائف لإفساد الاحتفال. لا يزال أبناء قرية جزاية في دلتا النيل يذكرون تخريب الموالد بنفس الفكر؛ ففي منتصف التسعينيات، عثر في صباحين متتاليين على اللافتات والمصابيح والأعمدة ومكبرات الصوت التي زين بها ميدان القرية في يوم مولد النبي - الذي يحتفل فيه بميلاد النبي محمد - وقد انتزعت من مكانها، وضاعت راية كتبت عليها بعض العبارات الدينية. ولما لم يثن هذا منظمي المولد الصوفيين، أعادوا تركيب معدات الاحتفال وواصلوا احتفالاتهم، لكن في صباح اليوم الثالث، وجدوا أن عمودا ولافتة قد نزعا من موقع الحفل وألقي بهما في بالوعة مفتوحة.
ويبدو أن أكثر ما يزعج الأصوليين هو اختلاط الرجال بالنساء أحيانا أثناء الموالد، وهذا يدل على تنامي تأثير الفكر الوهابي السعودي على الحياة الثقافية في مصر منذ السبعينيات، التي شهدت بدء هجرة الملايين من المصريين إلى السعودية نتيجة لرواج تجارة النفط، وقد اصطحب هؤلاء كثيرا زوجاتهم وأطفالهم معهم، حيث التحق الأطفال بمدارس محلية قلما اضطلعت بشيء غير الترويج للفكر الوهابي. ولما كانت هذه العمالة نفسها في أغلب الأحوال إما أمية أو تفتقر إلى التعليم الجيد، وشديدة العرضة للتأثر بأي أفكار، فقد تشربت الفكر الوهابي المتطرف المسيطر على مجتمع المملكة العربية السعودية ومساجدها، الذي يستنكر اختلاط الذكور بالإناث، وعادة الاحتفاء بالأولياء في الموالد (وكلا الأمرين محرم في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى كل شيء آخر تقريبا). كانت مصر - على مر تاريخها - ليبرالية في سياساتها، وعالمية في منظورها الثقافي، ومعتدلة في تفسيرها للدين، أما المملكة العربية السعودية فقد ظلت دوما متحفظة سياسيا، لا تتقبل على الإطلاق الثقافات الخارجية، وتتبنى مفهوما متطرفا للإسلام، وتكبت بقوة اختلاف الرأي.
لا يسع المرء إلا أن يتفكر في مدى النفع الذي كان سيعود على العالم العربي إن نقل المصريون إسلامهم الصوفي عندما توافدوا بالملايين على المملكة العربية السعودية بدلا من أن يعود الكثيرون منهم بالفكر الوهابي إلى بلادهم، لا سيما إن أخذنا بالاعتبار الصراع الديني والثقافي المستمر بين مصر وأسرة آل سعود الملكية - الذي تعد الموالد إحدى ساحاته - والذي يعود إلى عهد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر؛ عندما تلقى الأخير أوامر من السلطان العثماني بطرد أسرة آل سعود وحلفائهم الوهابيين من مكة التي كانت آنذاك منطقة شبه مستقلة تحت الحكم العثماني لكن تمكنت أسرة آل سعود من احتلالها. ونجح محمد علي في مهمته نجاحا تاما، حتى إنه طارد الوهابيين المتعصبين وأعادهم إلى معاقلهم في منطقة نجد المحورية، حيث قضى على أكثر من فروا في معركة الحجاز الأولى، ومن هنا أسدى إلى الإسلام خدمة كبيرة بتحرير مكة من الوهابيين المتطرفين. لكن للأسف، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، استعادت أسرة آل سعود سيطرتها على مدينتي مكة والمدينة المقدستين، وغيرهما من إمارات المملكة السعودية التي توحدت وسميت بالمملكة العربية السعودية في عام 1932. ظل المصريون حتى عشرينيات القرن العشرين في بداية موسم الحج السنوي يحملون الكسوة السوداء للكعبة في المسجد الحرام في ظل الأغاني الدينية والرقصات الصوفية والاحتفاليات، لكن بعد أن عززت أسرة آل سعود سيطرتها على منطقة الحجاز في منتصف العشرينيات، رجم المصريون بالحجارة واتهموا بالوثنية وانقطعت فجأة عادة حمل كسوة الكعبة. وانتشر الفكر الوهابي كالنار في الهشيم، في أرجاء العالم الإسلامي، وفي بعض قطاعات المجتمع المصري بعد أن مولته أسرة آل سعود التي تدفقت عليها الأموال فجأة بعد اكتشاف بحيرة النفط التي تقع فوقها المملكة العربية السعودية. ووجد هذا الفكر أرضا شديدة الخصوبة له مع بروز التيار الإسلامي في عهد السادات، في ظل تشجيع الأخير لعودة الإخوان المسلمين من منفاهم بالمملكة العربية السعودية. كما أن أهمية الحوالات النقدية التي تأتي من المصريين العاملين بالسعودية للاقتصاد المصري شجعت النظام الحاكم أكثر على تبني موقف سلبي إزاء صعود المملكة العربية السعودية.
لكن هناك قصة أهم في هذا السياق هي قصة تخلي مصر تدريجيا عن دورها التاريخي بوصفها رائدة للعالم العربي منذ عام 1967، لتحتل بدلا من ذلك منزلة أقل من المملكة العربية السعودية فيما يتصل بالدور الديني والسياسي. وإن بدا لنا عند تأمل الماضي أن الوحدة العربية التي تبناها ناصر لم تصنع للعرب الكثير من الأمجاد، فمن المؤكد أن العالم العربي لن يحقق شيئا ما دام وهابيو المملكة العربية السعودية المتطرفون يملكون زمام الأمور. وتتبدى نتائج انتشار الوهابية في مصر للعيان بالفعل، ومنها رفض القلة المتعصبة المتأثرة بالوهابية للموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ومنها أيضا التمييز والعنف ضد الأقلية المسيحية في مصر، التي يحكم عليها الفكر الوهابي بالكفر. •••
من العجيب أنني أبصرت بنفسي أول لمحة عما يعانيه المسيحيون الأقباط في مصر، عندما قمت برحلة إلى قلب صعيد مصر لزيارة قرية صديق لي تقع على بعد ساعة من مدينة سوهاج الصناعية، بينما كان هناك احتفال بأحد الموالد، وأثناء التجوال بالقرية حرص والد صديقي - وهو ناظر مدرسة محلية - على أن يؤكد على الصداقة التي تجمع بين أصدقائه المسلمين وأقباط القرية، وأشار كثيرا إلى الأقباط بعد أن تبادل التحية معهم في الشارع، لكن عندما قمنا بسلسلة من الزيارات لبيوت أصدقائه لما حل الظلام وبدأ الاستعداد للمولد، تبين أن أصدقاءه ليس بينهم أي أقباط. وفيما بعد عندما سألت صديقي إن كانت هناك أي اضطرابات قد وقعت بين مسلمي ومسيحيي القرية، باح لي عن غير قصد بأن العلاقة بين الطرفين شابها بالفعل الكثير من التوتر قبل بضع سنوات؛ لأن المسيحيين أصروا بعض الوقت على حقهم في بناء كنيسة (اليوم هم مضطرون إلى تدبر أمرهم بمنزل حول إلى كنيسة).
فسألته: «هل كان لهذا أن يتسبب حقا في هذه المشاكل؟»
فأجاب: «نعم، فهذا بلد مسلم.»
فأردت أن أعرف ماذا كان سيحدث إن أصروا على بناء الكنيسة.
Halaman tidak diketahui