وما دمنا نسوق الشواهد من المفردات اللغوية؛ لنستدل الفوارق المميزة للفكر العربي، فذلك يستوجب منا وقفة قصيرة عند اللغة العربية وخصائصها؛ فما من شك في أن لغة القوم هي المرآة العاكسة لما جبلوا عليه من لفتات الفكر والعاطفة وغيرهما من ظواهر الحياة الشعورية واللاشعورية على السواء؛ فإذا رأينا اختلافات جذرية في خصائص اللغة العربية عن خصائص لغة أخرى كالإنجليزية مثلا، تحتم أن تكون تلك الاختلافات دالة على اختلافات تقابلها في التكوين الفكري والشعوري بصفة عامة عند الأمتين.
وفي مستطاعنا أن نقع على مئات المواضع التي تشير إلى ضروب من الاختلاف بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية مثلا؛ فلماذا تحتم الإنجليزية أن تكون الجملة فعلية دائما، في حين تجيز العربية الجملة الاسمية التي لا فعل فيها؟ ولماذا تضع الإنجليزية الصفة قبل موصوفها، في حين نرى عكس ذلك من اللغة العربية؟ ولماذا يجيء الفاعل قبل الفعل في الإنجليزية، في حين يكون الفعل سابقا للفاعل (غالبا) في العربية؟ ولماذا يكون التقسيم في العربية إلى مفرد ومثنى وجمع، في حين تستغني الإنجليزية عن المثنى؟ ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر هذه المواضع التي تختلف فيها اللغتان، وبالتالي يختلف الفكران في هذه الأمة عنه في تلك. وحسبنا هذه الإشارة إلى اللغة ودلالتها على الفكر، فليس هذا المقام مقام القول الفصل في هذا الموضوع.
8
وفكرة أخرى وأخيرة، نشير إليها إشارة قصيرة عابرة، وهي ما قد تميز به الفكر العربي من توسط يجمع الطرفين المتباعدين في نقطة التقاء واحدة؛ فمن ينظر إلى التراث الفكري عند أبناء الغرب في جملته، لا يخطئ أن يرى النزعة المنطقية العلمية غالبة، ومن هنا ازدهر الفكر المجرد في مجال العلم ومجال الفلسفة معا؛ وأما من ينظر في التراث الفكري عند أبناء الشرق الأقصى - كالهند والصين - فكذلك لا يخطئ أن يرى النزعة الصوفية واضحة، ونعني بالنزعة الصوفية ضربا من الإدراك للحقيقة، لا ينبني على المنطق العقلي واستدلالاته، بل ينبني على الإدراك الحدسي المباشر، أو قل على إدراك البصيرة، أو إدراك القلب، أو الإدراك الوجداني، أو ما شئت من هذه الأسماء.
لكن انظر إلى الفكر العربي في جملته أيضا، تدرك في وضوح قدرته الفريدة على جمع الفكر المنطقي والرؤية الصوفية معا في كيان واحد، ولقد كانت الثقافة العربية هي الوحيدة بين سائر الثقافات، وخصوصا بعد الإسلام، التي جمعت بين دفتيها في تمثل كامل: فلسفة أفلاطون وأرسطو مضافا إليها علوم اليونان، وتصوف الهند وفارس، حتى بات مألوفا لنا أن نطالع في تراثنا العربي الفارابي وابن سينا وابن رشد، جنبا إلى جنب مع الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي.
ولقد أعانتنا اللغة العربية على هضم الغذاءين معا، على ما بينهما من شقة واسعة من التباين، ففي اللغة العربية طاقة وجدانية جعلتها مهيأة للشعر والتصوف؛ كما أن فيها قدرة على بيان الفواصل الدقيقة بين مختلف المعاني، ساعدتها على التفكير العلمي في أعلى درجاته وأدقها.
حسبك من بستان زهرة
قال الغلام إذ بلغنا حافة بستان، كان الربيع قد فرشه ببساط من الزهر، الذي يخطف الفؤاد ويخطف معه البصر، فألوان الزهور متسقة في اختلافها، هادئة الحركة برءوسها، بدفعة خفيفة من الهواء اللطيف، وتحت شمس حانية، قال الغلام بشهقة المأخوذ: الله! ما أجمل الزهور! فقلت له: نعم يا ولدي ما أجملها وأحلاها، لكنك لن تبلغ من حلاوتها وجمالها مرادك، إلا إذا حصرت انتباهك في زهرة واحدة، تتأمل فيها صنعة الذي خلقها وبرأها ولونها وسواها! إن معرفة الإنسان لحقائق الأشياء وأسرارها لن تأتيك إذا أنت رأيتها ب «الجملة»، وإنما تأتيك طائعة إذا أفردت لها عنايتك واحدة واحدة، فلكل كائن على وجه الأرض، صغيرا كان أو كبيرا، نباتا أو حيوانا أو إنسانا، شخصيته الفريدة المنفردة، التي يختلف بها عن سائر أفراد نوعه، فكيف به اختلافا عن سائر الأنواع، حتى ليخيل إلي يا ولدي، أن هذه الحقيقة المذهلة عن خلق الله، هي التي كان ينبغي أن تكون الدرس الأول، منذ أول يوم يلتحق به طفل بمدرسة، ليتحقق ذلك الطفل فيما بعد، ماذا تكون «الديمقراطية» بين أفراد الناس في الأمة الواحدة، حتى لا يطمس أحد أحدا، ولا يتعالى أحد على أحد، لأن كل أحد من الناس، والزهور، والطيور، وحتى ديدان الأرض وخنافسها - إذا تأملته - وجدته فردا فريدا، يختلف ولو قليلا عن سائر أفراد نوعه، ودع عنك اختلافه عن سائر الأنواع.
وأما بعد، فهيا بنا، أنت وأنا، نوجه أنظارنا إلى زهرة واحدة، ولنغض البصر مؤقتا عن بقية البستان، فرؤية المجموع دفعة واحدة تضيع معها حقائق الأفراد، انظر أولا إلى هذه الزهرة التي أمامنا، في درجات لونها وأطيافه، فلو سألتك: ما لون هذه الزهرة؟ فقد تجيبني متسرعا: إنها حمراء، لكن دقق النظر يا ولدي، تجد احمرارها هذا الذي أجملته أنت في كلمة واحدة، إنما هو عدة درجات، وإنك لتظلم الزهرة إذا جردتها من تراثها اللوني الغزير، ولست أدري إن كنت وأنت من أنت في سنك الصغيرة، تستطيع أن تفهم عني ما أقوله، إذا قلت لك إنه ربما كان السر في تخلفنا بالنسبة إلى من تقدموا من شعوب عصرنا، هو أننا نعلم أبناءنا حقائق الأشياء ب «الجملة» ولا نعنى بتربية العين والأذن وسائر الحواس، قف مع نظيرك من شباب تلك الشعوب الناهضة في بستان كهذا، وانظر كم ترى عيناه منه وكم ترى عيناك، كم تسمع أذناه من أصواته وكم تسمع أذناك، سيأخذك العجب يا ولدي، حين تخرجان معا، فإذا بزميلك قد عرف الكثير، وأنت لم تعرف إلا أقل من القليل، وذلك لأن أهله عرفوا كيف يربون منه العين والأذن، ليرى وليسمع، ما لا تراه أنت وما لا تسمعه، وأريد لك أن تتنبه - قبل أن نترك لون الزهرة في غناه - إلى أن ذلك النسق اللوني بكل روعته وكثرته إنما هو مأخوذ من هذا التراب الذي تحت قدميك، وأن أريج الزهر الذي تشمه فيها هو عطاء هذا التراب الذي تطؤه بقدميك.
ولننتقل بأبصارنا إلى ورقات الزهرة وكيف رصت صفوفها، وكيف تدرجت أحجامها مع تتابع تلك الصفوف، من الأكبر إلى الأصغر، ولكي أطلعك على بعض سرها العجيب، أروي لك حقيقة عرفتها عن الأسس الرياضية الكامنة في ذلك الترتيب، فلقد وقفت مرة على نبأ يروي عن رجل إيطالي من رجال الدين في العصور الوسطى، وكان الرجل ذا موهبة رياضية، واسمه فيبوناتشي (في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) فدفعته موهبته الرياضية إلى النظر في أوراق وردة، ليرى إن كان التدرج في مساحة الورقات، يجري على نسبة رياضية معينة، وما أشد فرحته إذ وجد تلك النسبة، وضبط مقدارها، وإذا لم تكن الذاكرة قد خانتني، فقد وجد فيبوناتشي أن النسبة بين الورقة في أي صف، وأي ورقة في الصف الذي يليه، هي (1: 1,618) أي أن اتساع الورقة في الصف الأكبر يساوي اتساع الورقة في الصف الأصغر والتالي له مباشرة، أكثر قليلا مرة ونصف المرة، ثم يأتي بعد ذلك ما هو أعجب، فقد فكر الرجل في أن يتعقب ظواهر أخرى في النبات والحيوان، ليرى إن كان في تتابع أجزائها مثل تلك النسبة، فوجد النسبة نفسها قائمة في القشور الخارجية لثمرة الأناناس، وفي خلايا النحل، وفي تناسل الأرانب، ثم اسمع ما هو أعجب وأعجب، فقد اشتدت الرغبة عند الرجل في أن يتوسع في مجال التطبيق، فبحث في فن العمارة الروماني متمثلا في روائعه، وإذا تلك النسبة قائمة كلما وجد وحدات معمارية متدرجة الأحجام، ونظر في بحور الشعر الروماني، فوجد أن التفعيلات في بعض تلك البحور، تتدرج أطوالها بالنسبة ذاتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الحقائق حقيقة أخرى، وهي أن أرسطو فيلسوف اليونان قد ذكر بأن هنالك نسبة رياضية معينة إذا توافرت بين أضلاع المستطيل، كان ذلك المستطيل أحب إلى عين الإنسان من أي مستطيل آخر فيه نسب أخرى بين أضلاعه، ولذلك أطلق عليه أرسطو اسم المستطيل الذهبي، وكانت تلك النسبة الذهبية هي نفسها التي وجدها فيبوناتشي في طائفة كبيرة بحثها، من ظواهر الطبيعة نباتا وحيوانا، ومن آثار الفن عمارة وشعرا.
Halaman tidak diketahui