«يانوس» اسم لشخصية أسطورية عند اليونان القدماء، ومن اسمه جاءت تسميتنا للشهر الأول من السنة باسم «يناير»، كانوا يصورونه على هيئة رأس له وجهان: وجه منهما يلتفت إلى اتجاه، والوجه الآخر يلتفت إلى الاتجاه المضاد! أما الوجه الأول فهو لشيخ تقدمت به السن، فابيض شعره وطالت لحيته، وتغضن جلده، وشاخت النظرات في عينيه، وأما الوجه الثاني فهو لشاب تسري في قسماته نضارة الزهر يتفتح من أكمامه، كله حيوية، نظراته تمتد إلى حيث الأفق البعيد، وشفتاه تنفرجان قليلا عن ابتسامة المطمئن الفرح المستبشر، الوجه الأول المكتهل المترهل المكدود هو الماضي، أدى رسالته وذهب، والوجه الثاني هو المستقبل المأمول، إنه لم يولد بعد، فكيفما شكلناه يتشكل، فبينما الماضي قد خرج من أيدينا، وبات أمرا مقررا يستحيل على أي سلطان أن يغير منه قلامة ظفر، إذ وقع ما وقع وانتهى الأمر، ترى المستقبل ينتظر عند الباب لتأذن له بالدخول، فيجيئك كما تريد له أن أن يجيء.
دق أبناء الماضي لأنفسهم الطريق، ومهدوه، ومشوا على هدى مما دقوا مختارين أحرارا مبدعين، ولا علينا - نحن أبناء الحاضر - أن نصنع مثل ما صنعوا، فندق لأنفسنا طريقنا كما فعلوا، ونختار أحرارا كما اختاروا، ونبدع الجديد المبتكر كما أبدعوا، فليس ولاء الحاضر للماضي هو أن يجعل من نفسه عبدا له، يتحرك كما تحرك وكلما، وينطق بما نطق وحيثما، ويعيش كما عاش وكيفما، بل الولاء هو أن يلقف الحاضر من ماضيه الشعلة، ليضيء بها طريقا جديدا لم تطأه قبل اليوم قدمان. برع الأسلاف في «س»، فلأكن مثلهم بارعا، ولكن في «ص»، وبمثل هذه الإضافة تنضم «ص» التي أبدعناها إلى «س» التي أبدعوها، فيتاح لنا عندئذ أن نقول للدنيا: انظري! إننا أمة تسير متواصلة الأجيال على درب الحضارة، ولها في كل عصر نتاج بديع.
على أن هذا التقسيم إلى ماض وحاضر ومستقبل، إنما هو حيلة منطقية ابتكرها العقل ليسهل عليه التفكير، أما من حيث الواقع الحي، فالثلاثة جميعا تلتقي عند الإنسان في لحظة واحدة، هي اللحظة التي نسميها ب «الحاضرة»، وما هي في حقيقة الأمر بحاضرة كل الحضور، ولا هي بغائبة كل الغياب، فهي أبدا تجر في أطرافها ذيولا من اللحظة التي سبقت، وتتأهب متوترة مشدودة إلى اللحظة التي سوف تكون. إن ماضيك هو ما تراه ماثلا «الآن» في ذاكرتك، ومستقبلك هو ما تتوقع حدوثه «الآن» كلما توقعت الغد وما بعد الغد، ولو كان في ماضيك ما ليس يمثل قط أمام ذاكرتك «الآن»، إذن فليس هو بذي وجود بالنسبة إليك، وكذلك لو كان المستقبل المزعوم لا نجد له أثرا قط فيما نتوقع له «الآن» أن يحدث فليس هو بذي شأن في حياتك، فالقشة التي تدفعها الريح هنا وهناك، أو تتركها لتسكن حيث هي، ليس لها - في ذاتها - ماض ومستقبل بالمعنى المعروف لهاتين الكلمتين في حياة الإنسان، فأنا هو من أنا بكل الأبعاد الثلاثة مجتمعة في وعيي «الآن»: فلي من الماضي ما تستدعيه ذاكرتي منه، لا أكثر ولا أقل، ولي من المستقبل ما أستطيع تصور حدوثه، ثم أعمل على ذلك الحدوث، وقد أنجح في ذلك وقد أفشل بتأثير العوامل التي لا أملك زمامها، فالماضي والمستقبل مجتمعان في رأسي معا، وهما مجتمعان الآن ما استطعت لهما جمعا، ومن هذه الناحية يكون الخيال عند اليونان الأقدمين قد وفق في تصوره لشخصية «يانوس» بوجهين في رأس واحد.
إنه لا سلطان للماضي علينا، والعكس هو الصحيح؛ إذ نحن أصحاب سلطان عليه، نأخذ منه ما نشاء، ونضيف إليه ما نشاء، ونعد له كما نشاء، هو ماضينا نحن، فهو لنا كالإرث يتركه الآباء للأبناء، فيكون لهؤلاء الأبناء أن يستثمروه كيفما أرادوا، وليس في هذا القول شيء جديد، فتأملوا الحياة وطباعها في كل شيء حي، تأملوها جيدا وعلى مهل، تأملوها في الشجرة، في السمكة، في العصفور، فإذا بذرت الآباء بذرتها لشجرة الزيتون، تحتم أن تخرج الشجرة الوليدة زيتونا، ولكنها إلى جانب هذا الحتم المحتوم، يترك لها أن تتصرف بما يتلاءم مع الظروف الطارئة عليها، إذا هبت الريح، وإذا شح المطر، وإذا غابت عنها الشمس، فهنالك في الكائنات الحية جميعا طبيعة لا أمل من تكرارها، ذكرتها في مناسبات كثيرة، وأذكرها الآن، وسوف أذكرها كلما دعت إليها الدواعي، وهي أن كل كائن حي هو كائن فريد متفرد، لا يشبه كل الشبه كائنا آخر حتى من أفراد نوعه، فالشجرتان من أشجار الزيتون بينهما اختلاف في عدد الفروع واتجاهاتها، واختلاف في عدد الأوراق وتعريقاتها، فلماذا كان بينهما ذلك الاختلاف؟ إنهما معا منخرطتان في الطابع العام، الذي هو «الإرث» الذي ورثناه بحكم البذرة التي تركها الأسلاف - أسلاف الزيتون - لكن ترك لكل شجرة بعد ذلك أن تكون لها حرية النمو داخل ذلك الإطار؛ إذ قد تصادفها عوامل لا بد أن تستجيب لها لتصون بقاءها، غير العوامل التي صادفت أخواتها. وتأملوا جيدا وعلى مهل، كيف يحيا العصفور، إنه عصفور بحكم «الإرث» الذي فرض عليه ولا حيلة له فيه، لكنه كذلك لا بد أن تكون له التلقائية الحرة التي يستجيب بها للعوامل المفاجئة، وقد تقول: إنه أمام تلك العوامل إنما يتصرف وفق ما تحتمه عليه غريزته، والغريزة هي الأخرى مفروضة عليه، لكن ذلك ليس صوابا على إطلاقه، لأن غريزة الحيوان لا تلم بجميع التفصيلات التي قد تنشأ في عرض الطريق. لقد روى لنا أحد العلماء الذين رصدوا سلوك الحيوان، أنه شهد أرنبا يطارده ثعلب في حقل، وكان الثعلب يضيق على الأرنب مسالك الهرب، لكن الأرنب في جريه المذعور، رأى «مسورة» فخارية في طريقه، تسعه ولا تسع الثعلب، فانحشر فيها وكمن في وسطها، فهل كان في غريزة الأرنب «تعليمات» بأن يحتمي بمثل الطريقة التي لجأ إليها؟ إنها طريقة جاءته من وحي اللحظة وما هو متاح فيها من وسائل.
وما هو في فطرة النبات والحيوان من تلقائية حرة - إلى جانب الفطرة الموروثة - متاح مثله للإنسان مضاعفا ألف ألف مرة، فلا تناقض في أن يعيش الإنسان حياته في «إطار» ورثه من السلف، على أن تكون له تلك التلقائية الحرة التي يبدع بها ما استطاعت قدراته أن تبدعه، أما إذا أراد لنا ناصح، بأن نعيش حياتنا كما عاش السالفون حياتهم - بإطارها وتفصيلاتها - كنا بهذه النصيحة نعيش حياتنا لغيرنا لا لأنفسنا، أو كالذي يشاهد الرواية للمرة الألف، يعرف حوادثها معرفة لا تترك له مجالا لتوقع الجديد فضلا عن خلقه وابتكاره.
كان الفكر القديم، بدءا من اليونان فصاعدا حتى نهضت أوروبا نهضتها الحديثة، يبني علومه على أساس تقسيم الكائنات أجناسا وأنواعا، ويحدد لكل جنس ولكل نوع «تعريفا» جامعا مانعا - إذا أمكن ذلك - بمعنى أنه تعريف يجمع للجنس أو للنوع كل خصائصه الجوهرية، كما يمنع في الوقت نفسه دخول أجناس أو أنواع أخرى في دائرته فيصبح الأمر خليطا، وكان ذلك الأساس الذي بني عليه الفكر القديم كافيا لخدمة العلم المطلوب والممكن، لكن ذلك الأساس يتضمن أن تظل أجناس الكائنات وأنواعها على حالاتها أبد الآبدين، فما دام «التفاح» - مثلا - هو بحكم التعريف كذا وكذا، فسيظل على طبيعته تلك أبد الدهر وكأنه محال على العلم فيما بعد، أن يبتكر على تلك الطبيعة حذوفا وإضافات تحولها إلى طبيعة من نوع آخر، كما حدث بالفعل، وعلى نطاق واسع، في دنيا النبات وفي دنيا الحيوان كذلك، فهل كانت حكمة الحياة تقتضي أن نقول لعلماء النبات وعلماء الحيوان: كفوا عن جهودكم، وخذوا علومكم هذه على نحو ما ورثتموها من أسلافكم؟
ولست بغافل عما يعترض به في مثل هذا السياق من الحديث؛ إذ يسرع المجادلون بقولهم: لا، يا أخي، فما لنا نحن وللعلوم، فالعلوم تتغير مع الزمن ما أراد أصحابها أن يغيروها، أما «الإنسان» وحياته فأمر آخر، وها هنا يكون الدوام، ولدا عن والد، وحاضرا عن ماض، لكن انظر إلى هذا الإنسان متمثلا في فنونه وآدابه! فهل زرت متحفا للفن، من تلك المتاحف الكبرى، التي تصنف معروضاتها وفق عصورها ومصادرها، ففي هذه الغرفة - مثلا - روائع التصوير من القرن السادس عشر، وفي تلك روائعه في القرن السابع عشر، وهلم جرا! إذا كنت قد فعلت، فلا بد أن تكون قد لاحظت في أجلى جلاء، وأنت تعبر الغرف واحدة بعد أخرى، أنك في الحقيقة إنما تعبر عصورا متعاقبة، كل عصر منها متصل مع سابقه بأواصر القربى، لكنه كذلك مختلف عنه اختلافات تساير ما كان قد طرأ على حياة الناس من ظروف جديدة، ويكفيك في هذا الصدد مثل واحد، فلقد كان التصوير قبل عصر النهضة الأوروبية ذا بعدين، أي إنه لم يكن يجسم الشيء المصور بأبعاده الثلاثة، ولم يكن ذلك من الفنان عن قصور فيه أو عجز، بل إنه فعل ذلك لأنه لم يكن ثمة ما يدعوه إلى مجاوزة البعدين اللذين في حدودهما تنطبع المرئيات على عين الرائي، فلما جاءت النهضة الأوروبية، وجاء معها ذلك الزخم الزاخر من مغامرات في البحر والبر، إذ طفق المغامرون يطوحون بسفنهم في البحار المجهولة، كما أخذ الرحالة المغامرون يذهبون إلى أقاصي الدنيا، ويصعدون الجبال الوعرة، فعندئذ أضيف إلى خيال الإنسان في تصوره للأشياء بعد جديد، هو العمق، فانعكس ذلك في فن التصوير، بحيث أصبح المنظور مجسما بأبعاده الثلاثة، ولا عجب أن يعود فن التصوير اليوم إلى قديم عهده في الاكتفاء بالبعدين؛ لأنه عصر أصبحت فيه المغامرة جزءا لا ينفصل عن مألوف الحياة الجارية، وهكذا ترى الفن - كالعلم - لا يجمد في أحد عصوره على موروث هبط إليه من عصر مضى، وإن يكن للفن «إطار» عام من أسس وقواعد يمتد به خلال العصور جميعا.
وما قلناه عن الفن نقول مثله عن الأدب، وهو بدوره مساير لحياة الإنسان، يختلف معها كلما اختلفت، وأظنه أمرا معروفا مألوفا للمشتغلين بدراسة الشعر العربي - مثلا - أن لتاريخ ذلك الشعر «عصورا» لكل عصر منها مميزاته، فليس الشعر الأموي كالشعر الجاهلي، ولا العباسي منه كالأموي، وكل ذلك معا مختلف عن الشعر الحديث في عصرنا الراهن، ولكن الذي يلفت النظر حقا عند نقاد الشعر الأقدمين أنهم، على الرغم من مسايرتهم للظروف الجديدة التي اقتضت تحولات في الشعر عصرا بعد عصر، ظلوا يطالبون الشعراء بالتزام «إطار» موحد، هو ذلك الإطار الذي أقامه الشعر الجاهلي ، فإذا كانت «الجاهلية» مذمومة في نواح كثيرة، فإنها لبثت في فن الشعر «نموذجا» تقاس إليه العصور التالية، والذي يهمنا في سياق حدثينا هذا هو أن الشعر كذلك - مثل العلم - يتغير في تفصيلاته مع تغير العصور، حتى وإن ظل ملتزما بإطار عام يضبط له أسس الفن وقواعده.
لا، لا، يا أخي - هكذا يعود المعترض إلى اعتراضه - ما لنا نحن وما للفن والأدب في تغيراتهما مع تغير الحياة وظروفها؟ إننا نعني «الأخلاق» ولا يهمنا سوى «الأخلاق»، فقد ترك لنا السلف من قواعد الأخلاق ما لا سبيل إلى الخروج عليه، وإني لأكرر هنا شيئا كالذي قدمته في مجال العلم، وفي مجال الفن، وفي مجال الأدب، وهو أن متابعة الخلف للسلف في الأخلاق، إنما تكون هي أيضا في «الإطار» لا في تفصيلات التطبيق؛ لأن هذه التفصيلات متروكة للتلقائية الحرة التي قد تستلزمها الظروف الطارئة، وتحضرني هنا قصة كنت قرأتها عن فقيه مصري عاش في القرن الثامن عشر بالقاهرة (ذهب النسيان باسمه)، وخلاصة القصة أن تاجرا غنيا لم يكن له إلا ولد واحد صغير السن رأى أن يودع أمواله، عندما مرض وشعر بدنو الأجل، عند ذلك الفقيه، طالبا منه أن يعطيه لابنه حين يبلغ الرشد، فلما بلغ الولد تلك السن، كان قد أحاط به صحبة السوء، فرفض الفقيه أن يسلمه الوديعة، وشكا الولد إلى الوالي، فجاء الوالي بالفقيه وأمره بأن يقدم المال لصاحبه، فأنكر الفقيه أن تكون لديه وديعة، ومضت أعوام، ظل الفقيه فيها يراقب الوارث في سلوكه، حتى أيقن أنه قد أخذ بالنصح واستقام، أسلمه وديعته، وسمع الوالي بالأمر، فاستدعى الفقيه ليسأله فيما كذب به عليه، فقال له الفقيه: إنه إذا كان الوالي ظالما، حل الكذب عليه من أجل النجاة، وأنت ظالم ... انتهت خلاصة القصة، فها هنا ناحيتان في الأخلاق، يخيل للسامع أن الفقيه قد تجاوزهما، فهو أولا لم يؤد الأمانة في موعدها، وهو ثانيا قد استباح لنفسه الكذب والإنكار أمام الوالي، لكننا إذا نظرنا إلى الموقف من وجهة نظر الفقيه، وهي وجهة النظر التي لا يرفضها عاقل، رأينا أن الفقيه التزم «الإطار» في مراعاته لمبادئ الأخلاق، ثم ترك لنفسه حرية التصرف داخل ذلك الإطار، تبعا للظروف المحيطة به.
وعلى منوال هذا الموقف الخلقي من ذلك الفقيه، نستطيع تعميم القول، فالأخلاق ملزمة في إطارها، يجب علينا أن نراعيها بمثل ما صنع الأسلاف، لكن تفصيلات التطبيق هي التي لا مناص من تغيرها تبعا لظروف الحياة الجديدة، ففي حياتنا العصرية قد اختلف معنى «الشجاعة» في التطبيق عن معناها عند الفرسان الأولين، وقد اختلف معنى «الكرم» واختلف معنى «العدالة»، عند النظر إليها من الناحية الاجتماعية، واختلف معنى «الطاعة» لولي الأمر، واختلفت معان كثيرة أخرى، فما تزال القيم الأخلاقية هي هي كما كانت، لكن تطبيقها في عصرنا اتخذ صورة جديدة، أو ينبغي لو أن يفعل.
Halaman tidak diketahui