وبعد أن عرضنا طائفة من أوجه الاختلاف بين النوعين من الجماعات بين تلك التي تمت لها التنمية بالفعل (والأمر هنا نسبي) من جهة، وتلك التي لا تزال في طريقها تسعى، من جهة أخرى، فإن سؤالا يطرح نفسه علينا هو: أهي ضروب من الاختلاف، مستقل أحدها عن بقيتها، أم هي ضروب من الاختلاف، لو تعمقناها لوجدناها تلتقي كلها عند جذر مشترك، أنبتها جميعا كما تنبت فروع الشجرة من جذورها؟ والجواب عندي هو الترجيح بأن يكون البديل الثاني هو الأقرب إلى الصواب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سبيل الإسراع لعمليات التنمية في البلاد التي لم تقطع من طريق التنمية إلا شوطا قصيرا يكون أيسر منالا؛ إذ ما علينا في هذه الحالة إلا أن نبدل من شجرة الاختلافات الثقافية جذرها، فتتبدل على مر الأيام فروعها. والأرجح عندي أن يكون ذلك الجذر الذي منه انبثقت ضروب الاختلاف بين بلاد تقدمت وأخرى تخلفت، إنما هو منهج النظر، سواء أكان ذلك في مجال التفكير العلمي، أم كان ذلك في مجال الحياة على نطاقها الواسع والتبديل المطلوب إجراؤه في ذلك المنهج، ليلحق البلد المتخلف بالبلد المتقدم، هو أن تستمد المعرفة من قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، بدل أن نقرأ ما كتبه السلف، فإذا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو كائنا ما كان نوعها، فالمنهج الصحيح هو أن نقابل تلك المشكلة في واقعها الحي لننظر في طريقة حلها حتى إذا ما وصلنا إلى الحل، وسئلنا كيف عرفتم أن ذلك هو الحل الصحيح أشرنا إلى الواقع الفعلي الذي استندنا إليه، بدل أن نأخذ حلولنا من كتابات تركها لنا الآباء، وأن نشير إلى تلك الكتابات كلما أردنا إقامة الدليل على صحة ما نقدمه من حلول للمشكلات.
إلى هنا كان اهتمامنا فيما أسلفناه موجها نحو تحليل الخصائص الأساسية التي لا بد من زرعها في عقولنا ونفوسنا، لكي يتاح لنا أن ننمو نموا ينبع من الباطن، ولا يقتصر على كونه محاكاة آلية من الظاهر، وبقي علينا أن نسأل: وماذا عسانا أن نصنع لنتحول من الداخل، تحولا نستبدل به اتجاها باتجاه، ومزاجا بمزاج، ومنهجا بمنهج؟ والجواب على ذلك هو ضرورة أن يتغير كثير جدا من المضمون الثقافي والفكري الذي نحياه، وأن تكون وسيلتنا إلى ذلك التغيير التعليم من ناحية والإعلام من ناحية أخرى.
ولا يكفي في هذا الصدد أن يقال لمعاهد التعليم ولوسائل الإعلام عليكما بالثقافة والفكر الشائعين في حياتنا، فغيرا منهما لتجعلاهما وسيلتين للتنمية، ثم لتجعلاهما - بالتالي - وسيلتين للانتماء؛ لأن الإنسان - كما أسلفنا - إنما ينتمي إلى حيث يجد النماء، بل لا بد لنا أولا، أن نكون على بينة واضحة، ما الذي نعنيه بالثقافة وبالفكر، حين نطالب لهما بوجوب أن يتغير منهما شيء كثير، عن طريق التعليم، ووسائل الإعلام؛ وذلك لأن «الثقافة» و«الفكر» لفظتان من تلك الألفاظ، التي يستبيح كل إنسان لنفسه أن يخلع عليهما ما شاء له من معنى، فيحق لنا بدورنا أن نتناولهما بالتحديد والتوضيح، لتظهر لنا من تلقاء نفسها تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الثقافة والفكر من ناحية والتنمية بكل جوانبها، من ناحية أخرى، وإذا قلنا عن بلد إنه ينمو ويزدهر، فقد قلنا كذلك إن ثمت إمعانا من أبناء ذلك البلد في حب الانتماء إليه.
ولنبدأ ب «الثقافة» نحدد معناها في أوجز عبارة ممكنة، لنعقب عليها ب «الفكر» نحدد له معناه، فنقول: إن الإنسان يتحرك في حياته العملية والنظرية معا، على درجتين تتواليان صعودا، ويتوازى معهما طريق يأتي منه التوجيه الذي يهتدي به صاعد الدرجتين، وأما هاتان الدرجتان، فالسفلى منهما هي التي يحدث عندها تجميع المعلومات المتفرقة عن المجال الذي يقضي فيه الفرد المعين شئون حياته، وأما الدرجة العليا فهي التي يحاول عندها الإنسان أن يستخرج من تلك المعلومات المتفرقة تعميمات وتبلغ هذه التعميمات ذروتها على أيدي رجال العلوم عندما يستخرجون قوانين العلم التي على منوالها تحدث الأحداث.
لكن الإنسان بعد أن تجتمع لديه أكداس من المعلومات المتفرقة عن دنياه، ثم يجتمع لديه كذلك عدد كبير من قوانين العلم في المجالات المختلفة، تواجهه مشكلة الاختيار بين ما قد تجمع لديه من ذلك كله، فماذا يفعله وماذا يكف عن فعله، فهو - مثلا - قد عرف فيما عرف، كيف يفجر البارود، وكيف يستخرج الطاقة من الذرة لكنه بحاجة إلى مقاييس تبين له متى يجوز تفجير البارود، أو تفجير قنبلة ذرية، ومتى لا يجوز، فأين له بتلك المقاييس؟ ها هنا يأتي دور الطريق الذي يوازي الدرجتين المتصاعدتين، ففي ذلك الطريق يوجد ما نسميه بالقيم، وهي التي تحدد للإنسان ما يجوز له فعله بالمعلومات التي جمعها، وها هنا يكون ذلك الشيء الذي نطلق عليه اسم «الثقافة».
على أن للثقافة جانبا ثانيا غير مجموعة القيم الهادية للإنسان في اختياره لما يفعله، وأعني به جانب «الفكر»، الذي يقصد به طائفة من أفكار ذات طراز فريد، إذ هي أفكار لا تندرج تحت أي علم من العلوم، ثم هي في الوقت نفسه ليست من نوع «القيم» التي نستمدها من مصادرها الثلاثة الرئيسية، التي هي: الدين، والفن، والأدب، فهي أفكار من قبيل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية، الوطنية، التذوق الفني، فهي كما ترى معان لها خطورتها البالغة في حياة الناس، ثم هي في الوقت نفسه مما يتعذر تحديده؛ ولذلك تعددت فيها التأويلات عند مختلف المفكرين.
وإذا ضممنا مجموعة القيم إلى مجموعة الأفكار التي من هذا القبيل الذي ذكرناه، تكونت من حصيلة الجمع بينهما ثقافة الفرد المعين، وفي هذه الحصيلة عند صاحبها، تكمن القوة الدافعة له بأن يفعل شيئا معينا ويحجم عن فعل شيء آخر.
وفي ضوء هذه التحليلات، أعود إلى السؤال الذي وجهته القارئة الجامعية تسأل به عن نوع المعلم الذي نحن بحاجة إليه، وماذا يكون دوره في التنمية؟ فأقول إن المعلم الذي يحقق لنا آمالنا هو الذي يستطيع أن ينفذ إلى «الثقافة» الكامنة في أفئدة تلاميذه، والتي هي مستقاة من حياتنا الجارية كما هي واقعة، أن ينفذ إلى تلك الثقافة الكامنة، فيغير منها، في جانبيها جانب القيم وجانب الأفكار التي لها قوة التوجيه، بحيث يصبح ما يضمره الناشئ في نفسه من تلك القيم والأفكار دافعا له نحو حياة عصرية في إطار هويته المصرية العربية، فإذا تحقق له ذلك التغيير وجدنا شبابنا يتجه إلى الابتكار والإنتاج وعلمية النظر وديمقراطية العلاقة بينه وبين مواطنيه - وذلك بحكم عصريته - ثم وجدنا ذلك الشباب في الوقت نفسه مشدودا إلى قوميته، منتميا إليها بدفعة طبيعية؛ إذ التنمية والانتماء صنوان، فهما بمثابة السبب ونتيجته.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنسأل: ومن الذي يغير ما بأنفسنا؟ وكيف؟ ونجيب: الذي يغيره هو التعليم والإعلام، وذلك بما يدخلانه من تعديلات في رؤيتنا الثقافية؛ إذ هي تعديلات تتجه بنا نحو أن ننمو - بأوسع معاني التنمية، كما تتجه بنا - بالتالي - نحو أن ننتمي.
مثقف يحاكم نفسه
Halaman tidak diketahui