ردة في عالم المرأة «2»
كانت قد جاءتني رسالة من قارئ، يسألني فيها عدة أسئلة في موضوعات مختلفة، تتصل بالدراسات الفلسفية من قريب أو بعيد، فأحسست من الأسئلة أن صاحبها جاد ينشد علما بأمور لم تكن ظروفه قد أتاحت له أن يدرسها في جامعة لأنه - كما قال - اضطر إلى الوقوف في الطريق التعليمي عند نهاية الدراسة الثانوية، لكنه قرأ قراءة الدارسين، حتى اتسع به المدى وبعدت الأعماق، وكان ذلك واضحا من الطريقة التي كتب بها رسالته، وكذلك من الطريقة التي انتقى بها أسئلته وصاغها، وإني لأذكر كيف أرجأت الرد عليه فترة طويلة، ترددت خلالها بين تلبية رجائه والكف عن تلك التلبية، وكان ذلك التردد عندي لسبب واحد، هو أن أسئلته كانت تقتضي للإجابة عنها مادة علمية قد تثقل على الكثرة الغالبة من القراء، لكنني آخر الأمر قررت أن أستجيب وأجيب؛ وذلك لأني رأيته واجبا - كما قلت في فاتحة مقالتي تلك - إذ «التعليم» هو مهنتي ومهمتي؛ فلما طالعت المقالة بعد نشرها، وجدت بها خطأ مطبعيا، تغيرت به كلمة «التعليم» فأصبحت «القلم»، وباتت العبارة: «إذ القلم هو مهنتي ومهمتي»؛ فابتسمت لذلك الخطأ قائلا: إنه خطأ كالصواب، أو هو - بعبارة أدق - خطأ فيه نصف الصواب، فبينما «التعليم» هو مهنتي ومهمتي، كان «القلم» هو كذلك مهمتي، لكنه لم يكن قط مهنتي.
وأحمد الله حمدا كثيرا أن وقف القلم معي عند حد الهواية المهمة، ولم يكن أبدا هو المصدر الأساسي الذي أرتزق منه لقمة العيش؛ لأنه لو كان كذلك لجاز لي أحيانا أن أرعى رغبات «الزبائن»، فأقدم إليهم ما يحبون قراءته، لا ما يجب عليهم أن يقرءوه؛ أما والكتاب في حياتي اهتمام شخصي، يلتقي فيه الواجب الاجتماعي والمزاج الذاتي في آن معا، فقد أتيح لي بهذه النعمة التي أنعم الله بها علي، ألا أكتب كلمة واحدة إلا إذا كنت مؤمنا بصدقها؛ على أن ما أؤمن بصدقه، قد لا يكون هو بالضرورة ما يراه الآخرون صوابا؛ بل إنني إذا رأيت اليوم رأيا وجدت فيه الصواب، ثم جاءت لي الأيام بعد ذلك بما يثبت خطأه، فإني لا أتردد لحظة في تصحيح نفسي، دون أن أشعر بأي حرج أمام نفسي؛ فنحن بشر ، والبشر يصيبون آنا ويخطئون آنا، وحسبي أن أكون على أيقن يقين، بأني أكتب ما أريد أن أكتبه؛ وأن الذي أكتبه هو ما أراه صوابا عند كتابته.
ولما كان التعليم - كما قلت - هو مهنتي ومهمتي، فقد انعكس ذلك في كتابتي، كما لا بد أن يكون قرائي قد لاحظوا؛ إذ تراني أحاول التوضيح ما أسعفتني قدرتي؛ وعندما أكتب، تجري معي الكلمات في كثير من الأحيان، وكأنها كلمات موجهة إلى صديق جلس أمامي لأبادله الحديث؛ فكلما ورد في حديثي شيء شعرت أنه قد يكون غامضا على السامع، عدت إلى الفكرة المعروضة فوضعتها في عبارة ثانية، ثم في عبارة ثالثة إذا اقتضى الأمر ذلك، وكذلك كثيرا ما تراني أضرب الأمثلة الموضحة للفكرة المعروضة، لكي أزيل عنها غموضها، وأظل أسوق لها الحجة بعد الحجة، كأنني محام يدافع عن قضية يؤمن بصوابها، على أن ذلك كله لا يعني أن ما يشغلني من قضايا، هو دائما ما يشغل كل إنسان من أعلى السلم الثقافي إلى أدناه؛ ولا يعني كذلك - وهذا هو الأهم - أنني أقدم ما أعلم مسبقا أنه يعجب القراء، فلست بقالا، ولا بائع خردوات أو تاجر أقمشة، أعرض في دكاني البضاعة التي يقبل عليها الزبائن، بل إني أقرب إلى الطبيب الذي لا يبالي أن يسقي مريضه الدواء المر إذا وجد فيه شفاءه من علته؛ لا، بل إني أكثر من ذلك، لأنه إذا كان الطبيب لا يطب إلا للمرضى، فصاحب الفكرة حين يعرضها على الناس، إنما يطب للأصحاء، فمن هو صحيح تظل أمامه الفرصة بأن يكون أصح مما هو عليه، وذلك هو طريق الارتقاء؛ وقديما قال «إخوان الصفا» في «رسائلهم» - في الصفحات الأولى من تلك الرسائل - حين أرادوا المقارنة بين الشريعة والفلسفة، إن الشريعة تطب للمرضى، أي للذين بهم ميل إلى الانحراف عن جادة السلوك الصحيح فيصححوه؛ وأما الفلسفة فتطب للأصحاء الذين يتطلعون إلى ما هو أسمى.
ولقد كتبت بالأمس القريب عما أراه من نكوص على الأعقاب في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته، بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي؛ فجاءني بريد تحمل رسائله خلجات الغضب؛ وقرأت تلك الرسائل، بكل الاحترام، وبكل الحب وبكل الإنصات العاطف والفكر المتأني؛ وكيف لا أفعل، وأصحاب الرسائل هم وهن إخوتي وأخواتي، إنهم أهلي، أسرتي، عشيرتي ... لكنني أقولها بكل الصدق، وبكل الإخلاص، وبكل الاحترام والحب، إنني لم أجد في تلك الرسائل جميعا ما يحملني على أن أغير حرفا مما كتبته، ولو أعدت الكتابة لكررت ما قلته كلمة كلمة.
ولست أنوي هنا الدخول في تفصيلات أناقشها وأجادل فيها، فقد قلت ما عندي ولا أرغب في أن أضيف إليه شيئا، ولا أن أحذف منه شيئا، لكنني أريد التعليق بملاحظات عامة عن البريد الغاضب الذي تلقيته؛ لأنه - فيما أرى - تعليق واجب ومفيد:
أولا:
رضيت نفسي كل الرضا حين جاءت الكثرة الغالبة من الرسائل في أدب حميد، لا يعتدي بسباب، ولا يخدش بسخرية، وذلك برغم المعارضة؛ وهكذا في الحق ينبغي أن يكون الحوار في شعب هذبته ستون قرنا من حضارة رفيعة؛ ولم يشذ عن ذلك إلا عدد أقل من القليل، استباحوا لأنفسهم ما لم يكن يجوز لهم أن يقولوه؛ فلو تريث أي ممن كتبوا لي لتبين كم كان الأجدر به أن يفكر أكثر من مرتين قبل أن يهاجم بالشتم أو بالسخرية؛ لأنه لو كان للمهاجم أو الساخر أستاذ علمه، فالأرجح جدا أني كنت ذات يوم أستاذا لأستاذه، إما بالفعل وإما بالإمكان؛ وماذا تقول عن رجل، لو طرح من عمره العشرة الأعوام الأولى على أنها طفولة لاهية، والعشرة الأعوام الثانية على أنها مراهقة حالمة، لبقي له نحو ستين عاما، لو استثنينا منها ساعات النوم، لقلت فيما يقرب من الصدق الكامل، إنه لم يضيع أسبوعا واحدا بغير دراسة وتحصيل وكتابة وضع فيها ملاحظاته ومقارناته وتحليلاته عما درس وحصل؟ إنه لم يخطف العلم والمعرفة خطفا، بل قضى السنين بين درس فيه الأناة والصبر، وتدريس فيه الإخلاص والجد؛ ثم هو لم يسرع إلى الوثوق بعلمه قبل أوانه، بل لبث أعواما وأعواما يتوارى وراء جدران التواضع لا يجرؤ أن يقول: هاكم ما فكرت فيه، بل يقول هذا ما نقلته عن فلان؟ حتى شاء له الله أن ينضج له عقل، ويتولد منه فكر، ولو كان لا بد للزاعم أن يقدم «الشهادات» المؤيدة لزعمه، لتكاثرت الظباء على خراش - كما قال الشاعر - فلا يدري خراش ما يصيد.
نعم، لو تمهل أي ممن هاجم وسخر، حتى يرى المسافة بينه وبين من يهاجمه؛ لعرف أن أقل ما يمكن قوله على سبيل المقارنة، هو أنه إذا قال الأصغر منهما قولا - في الموضوع المطروح - فهو خطأ يحتمل الصواب، وأما إذا قال الأكبر والأعلم منهما قولا، فهو صواب يحتمل الخطأ.
ثانيا:
Halaman tidak diketahui