وواضح أن وجهة النظر هذه مهما يكن من أمر ما تنطوي عليه من مبادئ نظرية، قد جاءت مضادة للتيار التاريخي الذي كان يتجه بالناس نحو أن تكون السلطة للشعب لا للملك الذي يحكمه. وهنا قدم مفكر آخر عملاق، هو «جون لوك» كتابه «الحقوق المدنية» (وهو الكتاب الذي استوحاه في فرنسا جان جاك روسو بعد ذلك، كما استلهمته الثورة الأمريكية كذلك قبيل قيام الثورة الفرنسية بقليل)، وكان التحليل النظري الذي أروده هذا الكتاب، بحثا عن نشأة المجتمع كيف جاءت، قد انتهى إلى نتائج شبيهة في صورتها بما انتهى إليه كتاب «هوبز» وأعني افتراض «تعاقد» بين الأفراد الذين منهم نشأ المجتمع، إلا أن «لوك» بنى على فكرة التعاقد شيئا يختلف كل الاختلاف عما بناه «هوبز» على الفكرة نفسها؛ إذ وصل «لوك» إلى وجوب أن يكون الرأي للشعب في وجود الملك نفسه أو خلعه؛ لأن الشعب هو الذي اختار ملكه عند النشأة الأولى، فيظل للشعب حق الإبقاء عليه أو خلعه، وكانت فكرة «لوك» هي التي كتب لها بعد ذلك أن تكون أدوم بقاء وأعمق أثرا.
ثم شهدت إنجلترا بعد «لوك» فيلسوفا آخر، كانت له مشاركة في بحث المسألة نفسها، مسألة العلاقة بين الشعب وحاكمه كيف تكون صورتها، وهو «ديفيد هيوم» (في القرن الثامن عشر)، وهو الذي قد أورد في سياق كلامه عن «التعاقد الاجتماعي» التشبيه بالسفينة وركابها وربانها، فإذا كان ركاب السفينة قد ركبوها باختيارهم؛ فإنهم حين تصبح السفينة في عرض البحر ملزمون بأشياء لم يكونوا ملزمين بها قبل ركوبهم، فالربان ومعه طاقمه (وهذا هو ما يقابل الدولة) مسئولون عن تسيير السفينة إلى هدفها، وأما الهدف نفسه فقراره هو قرار المسافرين، وهو متضمن في اختيارهم إياها لتكون وسيلة تحقق لهم ما يرغبون في تحقيقه، وبهذه القسمة تتحدد العلاقة بين ربان السفينة وركابها، فلهؤلاء اختيار الهدف، واختيار الربان ضمنا حين اختاروا السفينة، بحيث يصبح لذلك الربان ومعاونيه إذا ما أقلعت السفينة قرار طريقة التسيير.
وأرى أن هذه الموازاة بين المجتمع - شعبا وحاكما - وبين السفينة - ركابا وربانا - موازاة نافعة في توضيح نقاط كثيرة، وإن كنت في الوقت نفسه أتحفظ في قبول التشابه المطلق بين الجانبين؛ فبينما الخط الفاصل بين المسافرين على السفينة من جهة، وربان تلك السفينة من جهة أخرى، هو خط حاسم في فصله بين طرفين، فالمسافرون قرروا لأنفسهم أهدافهم والربان ومعاونوه تعهدوا بتوصيلهم إلى تلك الأهداف، نجد الأمر بين الشعب والدولة ليس فيه هذا الفصل الحاد بين الطرفين؛ لأن الذين يضطلعون بالحكم هم أيضا مواطنون يشاركون سائر المواطنين في تحديد الأهداف، ثم ينفردون بعملية التخطيط والتنفيذ بغية تحقيق تلك الأهداف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الشعب ممثلا في نوابه، قد لا يتركون للهيئة الحاكمة أن تنفرد بعملية التخطيط والتنفيذ، دون مراجعتها خطوة خطوة، ليطمئن الشعب على سلامة السير.
لكن برغم وجود هذه الاختلافات بين طرفي التشبيه، فهو تشبيه يفيدنا كثيرا في التوضيح، ومن الخير أن نركز انتباهنا على هذه التفرقة في عمومها، وهي أن الشعب هو الذي يحدد ما الذي يريده، وأن الحاكم ومعاونيه (وهم من اختيار الشعب في معظم الحالات) هم الذين يحققون للشعب ما أراده لنفسه، عن طريق نوابه، فهذه التفرقة من شأنها أن تدلنا دلالة مؤكدة وسريعة إن كانت أمورنا تسير سيرا حسنا، أم هي مصابة بالعطب والعرج؛ إذ ما علينا إلا أن نتجه بأنظارنا إلى الشعب أولا، لنرى هل هو حقا محدد الأهداف؟
ثم نتجه بأنظارنا نحو الهيئة الحاكمة، لنرى إذا كانت تلك الأهداف في سبيلها حقا نحو التحقيق، فإذا عبرنا عن هذا المعنى نفسه بلغة السفينة ركابا وربانا، قلنا إنه يلزم توافر شيئين، وهما أولا أن يكون للركاب أهداف واضحة يريدون الوصول إليها، وثانيا أن يكون الربان سائرا بالسفينة نحو تلك الأهداف.
والآن فسؤالنا هو: أصحيح أن ركابا على سفينتنا قد اكتملت لهم صورة واضحة محددة ودقيقة إلى أن يريدون للسفينة أن تتجه بهم؟ فإذا نحن حللنا موقفهم في أمانة، فوجدناهم لا يعرفون لأنفسهم هدفا يتجهون إليه، علمنا أن هنالك انفصالا خطيرا بين الركاب والربان، وحق لنا أن نصيح به: أدرك السفينة يا ربانها.
أدركها يا ربانها، فراكبوها قد تناقضوا أهدافا وتعارضوا وسيلة واختلفت بينهم المعايير، والسفينة بين هذا وهذا وذاك، في أي اتجاه عساها أن تسير، إنها سفينة القرن العشرين بحديدها وخشبها ووقودها ودخانها، وأما المسافرون عليها ففيهم من كل قرن من قرون الزمان أبناء، إنه لا ضير في أن تتعدد الاهتمامات والاتجاهات بين الأفراد، بل لا بد لها أن تتعدد، وإلا انقلب هؤلاء الأفراد كالمصنوعات التي تخرجها المصانع مصبوبة في قالب واحد، كالسيارات والطائرات والجوارب والأقلام وهي من طراز واحد، فكل واحد منها يغني عن أي واحد، لكن اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم مهما تنوعت وتباينت، فلا بد لها - إذا كان المجتمع سويا سليما - أن تلتقي عند نقطة بعيدة، وتلك النقطة هي التي قد نطلق عليها روح العصر، أو هدفه، أو فلسفته، أو غير ذلك من الأسماء التي تشير إلى الرباط الخفي الذي يربط الكثرة الكثيرة التي تراها الأبصار عائمة على سطح الحياة اليومية الجارية، ولولا ذلك الرباط الذي يجمع الكثرة البادية من اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم في وحدة واحدة، لما استطاع مؤرخ أن يؤرخ لأمة من الأمم؛ إذ كيف يؤرخ ما لم يجد في العصور المتلاحقة ما يميز بعضها عن بعض؟ بل كيف يتاح له أن يشير إلى مرحلة زمنية معينة على أنها «عصر » من عصور التاريخ في حياة تلك الأمة، فالعصر المعين إنما يكون عصرا قائما بذاته، متميزا بصفاته، بالنسبة إلى ما سبقه وما لحقه، لكونه قد اشتمل على مبدأ تلتقي عنده مختلف الاتجاهات والاهتمامات والأفكار والمذاهب.
في العصر الواحد المعين هنالك ساسة ينشطون اتفاقا أو اختلافا بعضهم مع بعض، وهنالك رجال فكر يتجانسون أو يتعارضون، وهنالك رجال فن يبدعون فنا، كل في مجاله، لكنهم بحكم طبيعة الإبداع الفني ذاته، لا بد أن يتفرد كل فنان بما يميزه عن كل من عداه، وهنالك عمارات تقاوم وتجارة وصناعة وخدمات، هنالك تلك المناشط التي يأخذ كل فرد من أفراد الشعب بطرف منها، مما قد يوهم الرائي أن الأمر كله إنما هو أفراد لكل منهم حياته وشواغله وعمله ومزاجه وفكره، وليس ثمة ما يربط بينهم إلا رقعة جغرافية واحدة تجمعهم على أرضها، لكن لا، إن ذلك التنوع الشديد من شأنه في الحالات السوية السليمة أن يلتقي عند ينبوع واحد مبدأ واحد، هدف واحد، برغم أنه قد يكون هدفا بعيدا يجاوز الأهداف القريبة التي تختلف باختلاف الأفراد.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تسنى للمؤرخين أن يقولوا عن أوروبا في عمومها، إنها كانت في عصر النهضة إبان القرن السادس عشر، وفي عصر الإعلاء من شأن العقل إبان القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير بنشر المعرفة إبان القرن الثامن عشر وفي عصر سادته النزعة التطويرية الدينامية إبان القرن التاسع عشر، وفي عصر تغلب عليه نزعة التحليل في هذا القرن العشرين، بل انظر إلى مصر في تاريخها الفكري خلال القرون العشرة الأخيرة، ألا تستطيع أن تميز في وضوح ثلاث مراحل كبرى، لكل منها طابعها واتجاهها، وهي مرحلة دار نشاط العلماء فيها حول تجميع التراث وتبويبه وتنسيقه، وكانت نهايتها مع نهاية القرن الخامس عشر، تلتها مرحلة حفظ لما هو وارد في كتب الأقدمين وشرحه وتلخيصه وتعليمه وهي مرحلة انتهت مع بداية القرن التاسع عشر، ثم مرحلة ثالثة هي التي امتدت خلال القرنين الأخيرين، التاسع عشر والعشرين، وهي التي نحياها اليوم ، وفيها نلحظ التصدع الذي جعلنا أشتاتا تكاد لا تجد رباطا ثقافيا في كيان واحد ذي رؤية واحدة، على أن هذه المرحلة الأخيرة قد جاءت على موجات تتفاوت فيها ظاهرة التصدع الثقافي قوة وضعفا، وكانت الوحدة على أقواها في النصف الأول من هذا القرن، برغم الازدواجية التي كانت تكمن فيها، بين اتجاه سلفي في ناحية، واتجاه غربي في ناحية أخرى، وأما تلك الوحدة الثقافية، أو ما يشبه أن يكون وحدة ثقافية فهي على أضعف صورة لها في الفترة الراهنة التي نجتازها فبعد أن كان الاختلاف بيننا في الجيل الماضي لا يعدو أن يكون «ازدواجية» في الاتجاه والرؤية، أصبحنا اليوم موزعين على جميع أطياف الضوء؛ إذ تشقق كل فرع من ازدواجية الجيل الماضي قنوات، وكل قناة خرجت منها ترع، وكل ترعة انبثقت منها جداول، فالاتجاه السلفي اليوم عدة أشكال، والاتجاه الغربي عدة صنوف، فماذا أنت صانع بالسفينة يا ربانها؟
إن أول ما تمليه البديهة علينا في هذا الصدد هو أن نخطط لتربية أبنائنا خطة تجمع ناشئة الأمة جميعا تحت مظلة ثقافية واحدة لفترة من أعمارهم تطول أو تقصر بحسب قدراتنا المالية، ولنفترض أننا قادرون على إقامة هذه التربية المشتركة حتى يبلغ أبناؤنا وبناتنا سن الخامسة عشرة من أعمارهم، فإلى تلك السن يستقي كل الدارسين من ينبوع واحد وبطريقة واحدة، ثم بعد ذلك تتفرع الدراسة بمن أردنا له أن يتابع دراسته، فروعا مختلفة في المرحلة الثانوية، يكون بينها فرع يؤدي بأصحابه إلى الجامعات، وفرع يتخصص استعدادا لجامعة الأزهر، وفروع للدراسة الثانوية التجارية، أو الصناعية أو الزراعية، فمهما تنوعت بهم سبل الدراسة الجامعية، أو سبل العمل، فقد ضمنوا قبل ذلك اشتراكهم في جانب هام من مكونات الرؤية الثقافية الموحدة.
Halaman tidak diketahui