وكان ذلك كله - في الشعوب الحرة - لا يحرم الأفراد من هامش عريض يترك للفرد ليحيا في رحابه مطلقا من القيود، فيكون حرا في فكره، حرا في توجيه مشاعره، حرا في إرادته فيفعل ما يحلو له أن يفعل، فهو إن تجانس مع سائر الأفراد في أمور حيوية تقتضيها الوحدة القومية، يظل له جانب من حياته ينفرد بنفسه فيه، فيتميز عن سواه بفكره وبعاطفته وبطرائق سلوكه، حتى أخرج لنا عصرنا هذا السيل من أجهزته التي هي نعمته ونقمته في آن معا، وأخص بالذكر من تلك الأجهزة جهازين لو تركناهما يسيران في طريقهما بلا وعي منا، لأجهزا على كثير جدا من حرية الإنسان، وأعني بهما الراديو والتليفزيون.
هما نعمة - كما قلت - أنعم بهما الله على بني آدم، فمن ذا في العصور السابقة كانت أحلامه تستطيع أن تشطح في تهاويم الخيال، حتى تبلغ بها حدا يظن عنده الحالم أن الإنسان - كل إنسان - سيمسك بين أصابعه بجهاز صغير، فإذا العالم كله في قبضة يده، يغمزه بطرف أصابعه هنا، فهو في أمريكا يستمع إلى أهلها، ثم يغمزه أخرى هناك، فهو في روسيا أو ما شاء من أطراف الأرض، أين من هذا خاتم سليمان ومصباح علاء الدين؟ أين منه قمقم الجن الذي ينبثق أمام المحظوظ ليقول له: شبيك، لبيك، أنا عبد بين يديك؟ هي نعمة أنعم الله بها على بني آدم في هذا العصر، عن طريق علمائه، ثم زادت الأعجوبة عجبا حين جاء الجهاز الآخر: التليفزيون، فأضاف اللون ... اللون! اقرص على أذنيك لتصحو وتتنبه ... إنه اللون ينتقل إليك عابرا آلاف الأميال، لترى ما تراه ملونا بالأخضر والأحمر والأزرق! فلماذا - إذن - نستكثر من أولدس هكسلي أن يتنبأ بيوم تنتقل فيه الرائحة، فتجيئك الزهور بأريجها؟ هي نعمة كبرى أنعم بها الله على الإنسان في هذا العصر عن طريق علمائه، وقل ما شئت فيما نتج عن هذين الجهازين من معلومات تكدست بها رءوس الناس، من القابع في خيمته هناك في جوف الصحراء، إلى ساكن المدينة.
لكنها نعمة لم يشأ لها الإنسان أن تكون له نعمة خالصة، يزداد بها الناس علما ومعرفة وثقافة وتهذيبا، فمزجها بشر من طبعه حتى صارت على يديه، في بعض حالاتها، نقمة تضيع معها تلك البقية التي كانت بقيت للفرد من حرية، ليفكر كيف شاء، ويشعر كيف أراد، ويسلك كيف استطاب، فإذا كان للعلم في عصرنا فضل النعمة، فقد كان للسياسة في عصرنا أيضا إثم النقمة، وذلك حين تخطط السياسة لنا ما تريدنا أن نراه وأن نسمعه، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، وإذا إرادات الناس قد «صنعت» لهم، وإذا أفكار الناس قد حفظت في علب جاهزة، وإذا مشاعر الناس قد رسم لها الطريق، وإذا الجميع آلات تدور كما يراد لها أن تدور.
أهي محض مصادفة عمياء ضلت طريقها في ظلمة عماها، أن نرى في هذا العصر ما لم يشهده التاريخ كله، ولا شهد مثقال ذرة منه، أن يشهد هذا التقارب الذي جمع أطراف الدنيا في جهاز صغير يمسك به الإنسان - كل إنسان وأي إنسان - وأن يشهد التقارب كذلك، بين شعوب الأرض جميعا، وهي مجتمعة في هيئة الأمم المتحدة وفروعها وفي مؤتمرات تعقد كل يوم هنا وهناك، على «القمم» تارة، وفوق السفوح طورا، حتى لقد قيل - بحق - إن الكوكب الأرضي قد أصبح قرية ذرية، أقول: أهي مصادفة عمياء أن يشهد عصرنا هذا التقارب الشديد بين أجزائه وأطرافه، ثم يشهد في الوقت نفسه، ما لم يشهده في أي عصر مضى من عصور التاريخ من التنافر بين أبنائه؟ إنه ليحدث كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة ، أن تفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر، غيلة وغدرا، بالقنابل، وبالحرائق، وبالخطف، وبكل ما يسع الخيال أن يتصوره من وسائل، لماذا؟ لأن السياسة قد أرادت، أو لأن ألوان الجلود قد اختلفت، أو لأن العقائد الدينية قد تباينت، أو من يدري؟ لعل يوما قريبا سيأتي لتفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر؛ لأنهم لم يتفقوا مزاجا في ألوان الثياب وفي صنوف الطعام!
لا، لم يكن اجتماع هذين النقيضين في عصر واحد مصادفة عمياء، وإنما هي أجهزة الإعلام وما تفعله بالرءوس، فإذا كان التقارب المعاصر بين شعوب الأرض ظاهرة أملاها «العقل» ويرحب بها العقل، ويتمنى لها المزيد، فإن التنافر الذي يبث كل تلك العداوة بين الشعوب، بل وبين أجزاء الشعب الواحد أحيانا، إنما هو ظاهرة أخرى تمليها النزوات والأهواء والغرائز الحيوانية، وجاءت أجهزة الإعلام لتخدمها بتوجيه من رجال السياسة، فهذه الأجهزة تعبأ بمواد مختارة، لتعبئ بدورها أدمغة الناس بما يشعل فيهم التحزب والتعصب وضيق الأفق، ولا عجب أن القابض على هذه الأجهزة، قابض في الوقت نفسه على عقولهم وقلوبهم وعزائمهم وكل ما هو حيوي في كيانهم، لذلك نرى أنه إذا حدث انقلاب في بلد ما، أول ما يفكر فيه المنتصرون هو أن يحتلوا الإذاعة والتليفزيون؛ لن ذلك معناه الإمساك بزمام الجمهور فكرا ووجدانا.
إنه لا حيلة للمتلقي من هذين الجهازين، إلا أن يتلقى، فالآذان مفتوحة لتسمع والأعين مفتوحة لترى، إنه لا مناقشة ولا حوار، فحركة مرور الأفكار والمؤثرات النفسية تشبه حركة المرور في اتجاه واحد، فالاتجاه واحد من الجهاز إلى العين أو إلى الأذن، ثم لا رجوع ولا مراجعة، بل ولا مهلة للتفكير والتدبر، الأصوات والألوان تنزل على المتلقي كما ينزل المطر على السائر في فلاة، ليس هنالك ما يحميه من شجر أو جدران أو أي ضرب من ضروب العمران.
أول أركان الحرية هو النقد، أن تكون أمام المتلقي فرصة الفحص والتمحيص لما يتلقاه، لتكون له - بالتالي - مبررات القبول ومبررات الرفض، أما أن تجيئنا البضاعة مغلفة بأغلفة عازلة، تحول دون التحليل والتركيب والتقليب ، ليتبين الجيد من الرديء، فمعناه أننا لا نلبث أن نكون كالدمى في مسرح العرائس، يحركها من يحركها وهو في الخفاء، ومن هنا نلحظ الفرق الكبير في تكوين الإنسان بين أن يكون مصدره الكتاب، وأن يكون مصدره هذه الأجهزة، فالقارئ يتفاعل مع الكاتب، يسرع تقليب الصفحات، أو يقف ويتمهل عند جملة واحدة بضع ساعات يناقش محتواها. إنه في الكتاب يملك زمام فكره وشعوره. أما والمصدر جهاز من هذه الأجهزة، يصب في أذنك الصوت، وفي عينك الضوء، صبا متلاحقا، لا تملك له إيقافا ولا إسراعا ولا إبطاء، ومحتوم عليك أن تقبل الجمل بما حمل، جيده مع رديئه، فمصير ذلك تبعية وعبودية وتمزق وفراغ.
بدأت حديثي بتلك المقالة التي طرح فيها صاحبها مشكلة المسئولية الأخلاقية ماذا يكون مداها عند من تعرض لعملية غسل المخ، بحيث أصبح إرادة غيره لا إرادة نفسه. أيظل مسئولا عما يفعل؟ ثم استطرد معي الحديث، فرأيت أن الأثر المتروك في مخ مغسول بالمعنى الحديث، يشبه الأثر المتروك في حالات أخرى كثيرة، وآخرها حالة المتلقي من الراديو ومن التليفزيون سيلهما المنهمر. دون أن يكون له فيما يتلقاه حول أو قوة، فالنتيجة واحدة، وهي أن ينتهي هو الآخر بمخ مغسول، ويصدق عليه السؤال نفسه الذي طرحه الباحث: هل تظل لمثل ذلك المتلقي مسئوليته الأخلاقية كاملة كما كانت؟ فإذا سأل سائل: لماذا جعلت المتلقي أمام الراديو أو التليفزيون مفقود الإرادة، وفي وسعه أن يبدل قناة بقناة، وموجة بموجة، أو أن يغلق الجهاز ويستريح؟ والجواب على ذلك هو أن الانتقال من قناة إلى غيرها، ومن موجة إلى موجة، إنما هو بمثابة استبدال سيد بسيد آخر، وأما إغلاق الجهاز فليس شبيها بإغلاق الكتاب؛ لأنك تغلق الكتاب لتأتي بكتاب آخر، على حين أنه لا آخر نلوذ به في حالة الإذاعة والتليفزيون.
وماذا تريد لنا أن نصنع؟ أريد أن نبقي لهذه الأجهزة على نعمتها وأن نلتمس وجها للخلاص من نقمتها، ونقمتها أساسا هي تلك الحرية السلبية، وطريق الخلاص موجود، يتلخص في أن نسمح لكل ضروب الفكر والاتجاه أن تعلن عن نفسها، فبدل أن تكون الخطة مرسومة على أساس وحدانية الخط والهدف، ترسم على أساس تعدد الخطوط وتعدد الأهداف القريبة، التي تلتقي جميعا عند هدف قومي واحد بعيد المرمى.
وهذا يستلزم أمرين: أولهما أن يكون المجلس الأعلى، المشرف على هيئة الإذاعة والتليفزيون مستقلا في قراراته عن الحكومة استقلالا حقيقيا، لا استقلالا شكليا يكتفي فيه بأنه مكتوب على ورق، فإذا هو استقل على هذا النحو، كانت هنالك فرصة أن يكون محايدا، لا في مجال السياسة وحده، بل محايدا في شتى مجالات الرأي، وعندئذ لا يكون للحكومة حق استخدام تلك الأجهزة أكثر مما يكون لأي مواطن ذي رأي فيه رجاحة الوزن التي تبرر أن يظفر بحق التعبير عن رأيه عن هذا الطريق، وأما الأمر الثاني فهو عندي بمثابة المبدأ الأساسي الذي تقام، أو ينبغي أن تقام عليه أجهزة الإعلام، وهو ألا تعرض المادة التي تقدم في تلك الأجهزة على أنها هي وحدها الاتجاه الفكري الصحيح، وأما ما عداها فضلال باطل؛ لأنها لو عرضت بهذه الروح، كانت بمثابة غسل لمخ المتلقي، غسلا يثير السؤال الأخلاقي الذي أوردناه في أول هذا المقال، وهو: هل يكون صاحب المخ المغسول مسئولا من الناحية الأخلاقية عما يقوله أو يفعله بعد ذلك طالما هو قد أصبح مصنوع الإرادة، أي إن الفكر عنده هو فكر غيره، والإرادة عنده هي إرادة غيره؟ وإنما الطريقة الصحيحة والعادلة، هي أن تعرض المادة التي تقدمها أجهزة الإعلام عرضا لا يوحي إلى المتلقي بأن يقول: هذا صحيح، بل يوحي له أن يقول: هل هذا صحيح؟ فإذا ترك المتلقي مكانه من الجهاز الإعلامي، ومثل هذا السؤال هو الذي يشغل ذهنه، كان بهذا قد وضع عقله ووجدانه وإرادته على أول الطريق الذي ينتهي به إلى أن يكون حرا في فكره وفي اتجاه وجدانه، وفي إرادته التي يختار بها بعد ذلك ما يفعله وما يرفض فعله.
Halaman tidak diketahui