ولم يرد في الرواية التي تذهب إلى أن شيثا بنى الكعبة، شيء من التفصيل، وإنما قيل: إن طوفان نوح أغرق البيت وغير مكانه حتى بوأ الله لإبراهيم مكان البيت فأقام قواعده مع ابنه إسماعيل، على ما ورد في الذكر الحكيم.
وهذه الروايات الشعرية عن بناء الملائكة وآدم وأبنائه ممن سبقوا إبراهيم الكعبة يعتبرها أكثر العلماء من الإسرائيليات التي دست على الإسلام، فليس لها في كتاب قديم سبق نزول القرآن سند، والقرآن لا يشير إليها بما يسوغ استنباطها، وما يذهب إليه الذين ذكروها من ألوان التفسير لا يثبت صحتها، والقرائن كلها على أن وادي مكة كان غير ذي زرع حين جاء إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إليه، فلو أن هيكلا للعبادة، أو أثرا لهذا الهيكل كان قائما به، لأقام في جواره كهان وسدنة ينالون من قاصديه رزقهم، ولقد ظلت هاجر مع ابنها بهذا الوادي إلى أن شب إسماعيل فتزوج من جرهم.
ولقد دس على الإسلام من الإسرائيليات الشيء الكثير، ولم يفتأ بنو إسرائيل مذ كانوا يحاربون النبي بالمدينة يحاولون أن يشوهوا صفاء التوحيد في الإسلام، وأن يحيلوا روحانيته مادية ليضعفوا من نفوس الآخذين به، فليس أدعى إلى ضعف النفس من أن يصبح العالم أمامها مادة بدل أن يكون فكرة معنوية سامية؛ وليبلغوا من ذلك غايتهم دسوا الكثير من الأحاديث، ونسبوها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وحركوا الفتن على أساس ما دسوا، بأن جعلوا مطامع المسلمين مادية غايتها الحكم أو المال أو ما إلى ذلك من متاع الغرور الإنساني في هذه الحياة الدنيا، وإن العالم ليعاني اليوم من آثار هذا التفكير في أقطاره الإسلامية والمسيحية جميعا ما ترى مظاهره في هذه المذاهب الاقتصادية المختلفة، وفي الثورات الدامية التي تقوم بسببها فتحرق الأخضر واليابس وتأتي على خير مخلفات الإنسانية من علم وفن بيد التخريب، يحركها الجهل والتعصب والطمع المادي الأحمق الوضيع.
فأما بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة فقد ورد نبؤه في القرآن، ولكنه ورد موجزا في قوله - تعالى:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وما روي بعد ذلك من تفصيل فمرجع أكثره أحاديث أفراد أو روايات لا تستند إلى سند تاريخي يقره العلم، فقد ذهبت رواية إلى أن جبريل أمر إبراهيم فصحب هاجر وابنها - وإسماعيل ما يزال طفلا - وركبوا البراق ليبلغوا موضع البيت لبنائه، وكان إبراهيم كلما مر بقرية سأل جبريل: أهي التي اختارها الله لبناء بيته؟ وكذلك ظلوا حتى بلغوا مكة، وذهبت رواية أخرى إلى أن ملكا من الملائكة جاء إلى هاجر أم إسماعيل حين أنزلهما إبراهيم مكة قبل أن يقام البيت فأشار لها إليه، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، وأعلمها أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه، وفي رواية ثالثة أن إبراهيم جاء إلى مكة بعد سنوات من مقام إسماعيل وأمه بها، وبعد أن شب إسماعيل وتزوج وقوي ساعده، فوجد إسماعيل يبري نباله تحت دوحة قريبة من زمزم، وتبادلا تحية الأبوة والبنوة، ثم قال إبراهيم لابنه: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، وعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يجيء بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء.
وهذه الرواية الأخيرة أدنى إلى تصور عقلنا الإنساني، يضاف إليها أن البناء لما ارتفع طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجيء بحجر، فجيء بالحجر الأسود، والروايات في الحجر الأسود وأصله تختلف قيل: إن إسماعيل ذهب إلى الوادي يطلب حجرا يضعه أبوه في البناء وعاد فألفى عند أبيه حجرا أسود فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟ قال إبراهيم: من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك، وكان جبريل هو الذي جاء بالحجر الأسود من السماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض، وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود من الهند حيث هبط به آدم من الجنة؛ وكان أبيض ناصعا، فاسود من خطايا الناس، وقيل: بل كان الله - عز وجل - استودعه جبل أبي قبيس حين طوفان نوح، فجاء به جبريل ووضعه في مكانه وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نورا حتى لقد أضاء بنوره شرقا وغربا وشمالا ويمينا إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنما سودته أنجاس الجاهلية وأرجاسها.
وذكرت الروايات أن إبراهيم بنى الكعبة من الجبال الخمسة التي ذكرها من تحدثوا عن بناء الملائكة البيت.
يقول مؤلف «تاريخ الكعبة المعظمة»:
فتحصل من عموم ما رويناه عن صفة بناء إبراهيم الخليل
Halaman tidak diketahui