مدلول هذه العبارة من كلام الدكتور «ديم» أن تبادل الغزو بين أبناء نجد وأبناء الحجاز قد مهد الطريق لوحدة في شبه الجزيرة أدنى إلى الاتصال بحياة العالم الحاضر، وأدنى كذلك إلى انتشار قوة جديدة في حياة هذا العالم لم تكن معروفة من قبل.
وابن السعود هو الذي مهد لهذه الوحدة، وهو الذي لفت أنظار المسلمين في مختلف أنحاء العالم إلى البلاد العربية وأهلها، ولم يكن يفكر أحد فيها من قبل إلا من جهة أنها البلاد المقدسة.
ترى هل لهذا البعث من مغزى في حياة العالم الإسلامي؟ لا يزال الجواب عن هذا السؤال مطويا في ضمير الأيام.
الجمعة في الحرم
المسجد الحرام مثابة المسلمين الذين يفدون إلى مكة من أقطار الأرض جميعا في أشهر الحج؛ وهو مثابتهم ما أقاموا بأم القرى؛ يفدون إليه لصلاة الفجر وعند الظهيرة، ويعودون إليه لصلواتهم الأخرى، وللطواف بالبيت كلما هوت نفوسهم إلى التطوف به، وهم يقضون فيه الساعات الطوال يتحدثون أثناء النهار، ويستمعون إلى جماعة من الفقهاء يحدثونهم في الإسلام ويفقهونهم في الدين قطعا من الليل، وإن منهم لمن يقضي فيه يومه يجاور البيت، ومنهم من ينصرف نهاره إلى شئون الحياة، فإذا أقبل الظلام قضى بالمسجد ليله يقوم إلا قليلا، يذكر الله كثيرا، ولا ينال من النوم إلا القدر الذي يكفيه لسعي النهار وتهجد الليل.
لذلك قل أن يصلي بغير المسجد الحرام أحد من المقيمين بمكة على كثرة مساجدها، وما رأيت أحدا قام بهذه المساجد مصليا على كثرة مروري بها ووقوفي عندها، ولا تقام بها صلاة الجمعة مطلقا، ومن ذا الذي تطاوعه نفسه وهو بمكة على أن يصلي بمسجد غير المسجد الحرام والإجماع منعقد على أن مثوبة الصلاة به تزيد على مثوبة الصلاة بغيره أضعافا مضاعفة؟ وهذا الإجماع صحيح أساسه، فالإسلام دين جماعة ودعوة للجماعة، ولا شيء يمقته الإسلام كالخروج على الجماعة في غير حق، ولا تجد الجماعة بمكة مكانا كالمسجد الحرام مقام بيت الله لتقوم بفروض الله فيه.
وصلاة الجمعة بالحرم من أروع مظاهر الإيمان في الجماعة الإسلامية، هذا الإيمان القوي في بساطته، البالغ في قوته، الذي يجمع بين الحرية والنظام جمعا لم أقف على ما يقرب من رفعته في أي من الملل والنحل الحديثة أو القديمة التي اطلعت عليها، ولقد رأيت في أسفاري الكثيرة ببلاد يدين أهلها بغير الإسلام من شعائر العبادة ومن نظم الجماعة ما فيه مهابة ورهبة ونظام، ولقد حضرت صلاة الجمعة في بلاد إسلامية شتى، ولكني لم أر في شيء من ذلك ما قد يقرب في جلال مظهره وقوة روعته، وفي جمعه بين الحرية والنظام، وبين الاعتداد بالذات والإسلام لله، مما رأيت في صلاة الجمعة بالمسجد الحرام، ولم يطبع شيء من ذلك كله من الأثر العميق في نفسي ما طبعته صلاة الجمعة بالمسجد الحرام من أثر بالغ في عمقه، فما أفتأ كلما أذكره أشعر به متغلغلا في أطواء روحي، يسمو بها إلى ذروة الإيمان، ويرقى بها إلى ما فوق مستوى الإنسانية الذي نألفه.
قصدت إلى المسجد ومعي صاحبي، ودخلنا وما يزال بيننا وبين أذان الظهر فسحة من الوقت تزيد على ربع الساعة، مع ذلك وجدنا الأماكن الظليلة حينما دخلنا صحن المسجد قد اكتظت بالذين سبقونا إليها، وبقي صحن المسجد خاليا إلا من حمام الحمى، وسرنا نتخطى الصفوف نلتمس لنا فرجة للصلاة، فلا تقع العين بين الجالسين على موضع لواقف، ثم رأيت صاحبي وقف على قوم وتحدث إليهم، ثم أشار إلي فدنوت منه، فتفسح القوم حتى استطعت أن أقف بينهم، وانطلق هو بين الصفوف يلتمس لنفسه مكانا آخر، وصليت ركعتين ثم جلست ما استطعت أن أجلس، وسرحت الطرف فيما حولي، وأسرع إلي جار يميني وجار يساري فمد كل منهما يده مسلما علي، بعد أن أتممت ركعتي، سلام تحية فيه مودة وفيه إخاء، وتفرست أثناء السلام في وجه كل منهما فلم تهدني سيما أيهما إلى جنسيته، ولا دلتني على شيء إلا أنه ليس من أهل هذه البلاد، وعدت أسرح طرفي ناحية صحن المسجد فإذا الناس يفدون إليه في سيل دافق، يحاول السابقون منهم أن يكون مجلسهم أدنى إلى منبر الخطيب أو إلى أحد المكبريات حول الكعبة، وامتلأ الصحن في دقائق حتى لم يبق موضع لواقف، وجعل الوافدون إليه يتخطون صفوفه يلتمسون لهم مكانا كما كنا نتخطى الصفوف في ظلال القباب نلتمس لنا مكانا، ومنهم من إذا تهيأ له المكان جلس فيه، ومنهم من يؤدي للمسجد تحيته بصلاة ركعتين، ولما لم يبق بالمسجد موضع أقام الناس خارجه يأتمون لصلاة الجمعة بإمامه، مكتفين بصلاة الجماعة وثوابها، وإن لم يكن لهم ولا لكثيرين ممن وصلوا المسجد رجاء في سماع خطبة الإمام.
وعلا صوت المؤذن بالنداء للصلاة: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ما أجمل هذا النداء وأعظم وقعه في النفس! إنها لتهتز له وتفيض حين سماعه إكبارا وتقديسا، والقلب والروح وكل جارحة وكل عضو تتجاوب لسماعه وتردد صداه في إيمان وإسلام، وكلما ألقى المؤذن مقطعا منه دوى المسجد بالجواب عليه صادرا من عاطفة قوية في صدق إيمانها بالله؛ فلا يكاد المؤذن ينادي : «الله أكبر، الله أكبر»، حتى يجيبه المسجد كله كتلة واحدة: «الله أعظم والعزة لله»، ولا يكاد ينتهي من ندائه: «حي على الصلاة، حي على الفلاح» حتى يدوي المسجد كله مجيبا: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ويربط هذا النداء وتربط هذه الإجابة بين قلوب المصلين برابطة تزيد إخاءهم في الله قوة على قوة، فتنهار الفوارق بينهم، ولا يبقى منهم قوي وضعيف، ولا غني وفقير، بل يصبحون رجلا واحدا وقلبا واحدا كله الإيمان بالله، والتوجه إلى جنابه - جل شأنه - توجه صدق وإخلاص.
وأتم المؤذن أذانه، فقام من شاء يصلي ركعتين لله تعالى، وأقام القوم بألوفهم المؤلفة ينتظرون خطبة الخطيب ليؤمهم بعد ذلك في صلاة الجمعة، وسكن كل من في المسجد وما فيه حين بدأ الخطيب يتكلم، أما نحن البعيدين عنه فلم نسمع مما قال شيئا، وما أحسب الأكثرين من الحاضرين كانوا خيرا منا في ذلك حظا، أنى لصوت رجل ينطلق في الفضاء فلا يحجزه جدار أن يصل إلى هؤلاء الذين جلسوا في مئات متلاصقة من الصفوف وكلهم متوجه إلى ناحية الكعبة من جهاتها الأربع؟ قلت في نفسي: أليس من الخير أن يستعين الخطيب بمكبر للصوت ينقل خطبته إلى جميع المصلين في المسجد وفيما وراء جدرانه؟ إن خطبة الجمعة ركن من أركانها، والغرض من خطبة الجمعة إرشاد الناس إلى ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم حسب الأحوال المحيطة بهم، وهي تتكرر في كل أسبوع؛ لأن الحوادث تتلاحق بما يحتاج الناس معه إلى من يرشدهم إلى الخير يسلكون سبيله، وأي رشد إذا لم يسمع الناس لقول المرشد؟ وما أحرى هذا المرشد أن يهون عليه أمر خطبته إذا علم أن الناس لا يسمعونها! وما أحراه أن يعيرها كل عناية متى علم أنهم جميعا يسمعونها ويفيدون منها! ولقد رأيت خطباء ذوي رأي وبصيرة يوجهون الناس في بعض مساجد القرى توجيها ينتظم حياة القرية كلها، فما أجدر خطيب المسجد الحرام أيام الحج أن يحيط خبرا بأمر المسلمين كافة، وأن يصل إلى المصلين صوته؛ ليكون لهم هداية ورشدا.
Halaman tidak diketahui