185

Di Rumah Wahyu

في منزل الوحي

Genre-genre

وهذا تقسيم يتفق مع مباحث العلم الحديث وما يقره، فهذا العلم يرى ميادين المعرفة الإنسانية فسيحة لا يكاد يحدها أفق، وأنها مع ذلك ضيقة محصورة بالقياس إلى الكون وما يترامى إليه إلهامنا من مداه الذي يتجاوز الزمان والمكان، وأنا لن نستطيع، وإن بلغنا من العلم أبعد المدى، أن نظفر بهذا الغيب الذي تتمثله أرواحنا وتتمثله أرواح البعض وتعجز أرواح الكثرة عن امتثاله؛ لذلك فرق العلم بين ما تقع عليه المعرفة العلمية وما لا تقع عليه، وجعل ما وراء المادة مما لا تقع عليه هذه المعرفة العلمية، على أنه لم يحدد المادة التي تقع عليها المعرفة وإن قسم العلوم إلى بسيطة مستقلة بذاتها، ومركبة تحتاج إلى ما تقرره العلوم التي تسبقها من قواعد وسنن، وهو كذلك لم ييأس من أن يمتد يوما إلى بعض أنحاء الحياة النفسية، بل إلى بعض أنحاء الحياة الروحية، مع التسليم بأن ما سيظل غيبا لا يخضع لقواعده سيظل أفسح أمدا بمقدار لا سبيل إلى الإحاطة به عن طريق الإدراك، وإن سبق إليه الإلهام الإنساني في حرصه على أن يعرف مكان الإنسان من هذا العالم في فسحة مداه؛ إذ لا يعرف للزمان ولا للمكان بدء ولا نهاية.

وكانت النظرية السائدة في العلم إلى ومن غير بعيد تنكر حاجة الإنسان إلى ما وراء مقررات العلم، وترى فيما لا يمتد العلم إليه خيالا لا يستقيم مع تنظيم العلم الحياة، لكن أكثر العلماء في هذا العصر قد عدلوا عن هذا الرأي وأصبحوا يرون في مقررات الإلهام مما لم يصل العلم بعد إليه ما لا غنى للإنسان عنه؛ ذلك بأنهم رأوا الحياة المادية وحدها أقصر من أن تبلغ بالإنسان غاية ما تصبو الإنسانية إليه من كمال ونعيم، فالحياة المادية وثنية بطبعها، والوثنية أنانية يغلب لذلك فيها الخوف والفزع، الوثني يخشى صنمه وهو يملكه، ويخاله قديرا على نفعه وضره وهو قادر على تحطيمه وإبادته، وإنما يمسكه الوهم والخوف وتقعد به الأنانية فلا يفعل، والوثنية لا تقف عند عبادة الصنم الذي تصوره أيدينا، بل تتناول كل عبادة المادة في أي مظهر من مظاهرها، فعبادة المال وثنية، وعبادة السلطان وثنية، وعبادة القوة المادية وثنية، وما تجر إليه الوثنية من أنانية ومن خوف وفزع قد كان مصدر شقاء العالم ومصدر الحروب المدمرة التي تنشب فيه بين حين وحين، فما لم تلتمس الإنسانية في غير الحياة المادية وفيما وراء ما يقع عليه الحس وإدراكه مثلا أعلى تصبو إليه، فستظل فيها الحروب المدمرة وسيظل نصيبها الشقاء.

أما ولم يبق في ذلك ريب فلا مفر من تضافر مقررات العلم ومقررات الإلهام لتنظيم الحياة، ولا مفر من الإحاطة عن طريق العلم والإلهام جميعا بحياة الكون إلى غاية ما ندركه من مدى الزمان والمكان؛ لنعرف موضع الإنسانية منهما وما تطيقه من نشاط فيهما؛ لتؤدي رسالتها في الكون على خير وجه، بأن تبذل في الإنتاج العقلي والروحي أخصب مجهود وأحكمه وأعظمه؛ ولتؤدي هذه الرسالة عن إيمان بها هو الحافز الصحيح للعمل المثمر، وتعاليم الإسلام تقتضي صاحبها أن ينظر في خلق الله ليكمل بهذا النظر إيمانه، فواجب علينا أن نقف على كل ما بلغه العلم وأن نحيط به إحاطة معرفة وتدقيق؛ لنرشد الناس عن بينة ولنميط لهم عن وجه الحق، حتى يؤمنوا على علم؛ وليكون علمهم هاديا لهم إلى هذا الإيمان، أما أن نقول لهم: إن الله أمر أن تؤمنوا به فآمنوا وليس لكم أن تناقشوا أو تجادلوا، فذلك ما لا يتفق مع ما قام الإسلام على أساسه من النظر في الكون ومشاهدة آيات الله فيه وتأملها والوصول من ذلك إلى الإيمان به - جل شأنه.

والإسلام صريح في هذا، فهو يقتضي الناس جميعا أن ينظروا في الكون ليؤمنوا عن بينة ومن غير إكراه، لم يفرق في هذا الأمر بين الرجل والمرأة، ولا بين العربي والأعجمي، ولا بين العبد والحر، ولم يجعل لأحد فضلا في ذلك على غيره إلا بمقدار ما أوتي من العلم، وما يطوع العلم من إرشاد إلى الحق والهدى، ولا يعرف الإسلام نظام الكنيسة، ولا يعرف الرؤساء الروحانيين، ولا يعلق إيمان أحد على كلمة غيره، ولا يجعل المغفرة لغير الله، وهل كأبي بكر الصديق في حسن إيمانه ودقة معرفته بما جاء الرسول من عند الله به، وهو يقول للمسلمين يوم اختاروه خليفة رسول الله: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!»

الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله، ذلك سبيل الهدى إلى الإيمان الحق، وذلك سبيل الحياة الروحية الصحيحة، فالروح تنكر العقل إذا قيد النظر وقيد العقل معه؛ من ثم كان الجمود العقلي عدو الحياة الروحية؛ لأن هذه الحياة لا تتفتح لتمتثل الكون إذا فرض عليها قيد أيا كان نوعه، وهي لا تستطيع أن تمتثل الكون إلا أن يكون العقل حرا والحواس حرة في الإلمام بكل ما فيه، وملاك حرية الحواس سلامتها، والحواس المريضة يضطرب ما تقع عليه، فتنتقل منه إلى العقل صورة فاسدة، فإذا أسلمت الحواس السليمة ما تلم به إلى عقل سليم ينتظمه ليبلغ منه غاية ما نستطيع لمعرفة سنة الكون، كان ذلك خير معوان للحياة الروحية في تطلعها إلى آفاق أسمى من هذه التي تحد حواسنا وإحساسنا، عند ذلك يتضافر العقل والقلب والوجدان وكل ما في الإنسان من قوة مدركة ليمد الروح بعرفانه، وليستمد من الروح ضياءه.

وضياء الروح يهدينا إلى وحدة الكون ووحدة الحياة فيه، وإن تعددت المظاهر التي نحسبها مستقلة لنسبية إدراكنا، من ثم كانت الحياة الروحية السليمة في تطلعها إلى الحق تصبو دائما إلى الوحدة؛ إلى الوحدة بالحب، والوحدة بالرجاء في الله ونوره الذي يضيء الكون كله، وإلى وحدة الزمان والمكان، وهذه الصبوة الروحية هي التي تصور لنا وحدة الخالق - جل شأنه - وتجعلها أمامنا حقيقة ملموسة نؤمن بها عن يقين إيمان كل إنسان بما يقع عليه حسه، أما الحياة المادية فانفصالية بطبيعتها، ومهما يعمل قانون الجاذبية لضمها وحدة مؤتلفة الأجزاء، فما فيها من طبيعة التوالد يدعوها إلى الانقسام والتقسيم؛ ولذلك جعل التفكير المادي وجعلت الحياة المادية من الانقسام والتقسيم أساس الحياة وأساس السعي فيها، وعلى هذا الأساس صورت المثل الأعلى للطوائف والأمم والشعوب، والانقسام داعية النضال والحرب؛ وهو من ثم سبب الشقاء.

فأما صبوة الحياة الروحية إلى الوحدة فتجعل المثل الأعلى مثل تعاون وتضامن ومحبة، وهذا المثل لا يعرف النضال ولا الحرب، وكيف يعرفهما والغاية التي يتوجه إليها - وهي رضا الله - تسع الجميع وتفيض عنهم على تعاقب أممهم وأجيالهم؟! لا خوف من أن يضيق هذا الرضا بمن هو أهله، كما تضيق الأرض بسكانها، وكما تضيق المواد الأولية دون إمداد الصناعة، وكما تضيق أسباب الترف في العالم بمتاع أهله جميعا بهذا الترف؛ ولذلك يدعو الداعي إلى الحياة الروحية الناس كافة بلا تفاوت بينهم ، ويدعوهم إليها في حمى السلام والإسلام والرضا، لا فرق بين شرقي وغربي، ولا فرق بين أبيض وأسود وملون، ولا فرق بين أمة وأمة، بل هم في هذا الحمى سواسية، جزاؤهم بعملهم وعملهم بنيتهم، وأحبهم إلى الله أشدهم حبا للناس، وأمتنهم إيمانا أكثرهم معرفة لخلق الله وعرفانا لسنته في الكون، وعلما بكل ما يهيئ الله لنا أسباب العلم به.

والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية؛ لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمد لهم فيه دعاة المادة من أسباب الضلال - إذ يغرونهم بمتع الحياة ولذاتها - لانهارت فوارق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال، ولآمن كل بأن واجبه الأول أن يهدي غيره طريق الحق، ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى الإسلام بدل أن تجعل من نذر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خطا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلا، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنعموا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم لا يزالون بعد في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصرا دون هداهم، والعلم الناقص داعية ضلال.

وحسبك لتدرك الحق في ذلك أن تصور لنفسك أن المسلمين الأولين لم يختلفوا بينهم شيعا، وأنهم تابعوا وثبتهم الأولى إلى غايتها، وأنهم نشروا التوحيد في ربوع العالم كله على أساس من النظر في خلق الله ومن معرفة سنته، وأن الناس جميعا التمسوا العلم في حمى التوحيد ليزدادوا إيمانا، وأن هذه الاثني عشر قرنا التي انقضت منذ خلافهم قضتها الإنسانية في التماس حقيقة الكون ومعرفة أسراره، أية إنسانية كانت تعمر الأرض اليوم لو أن ذلك حدث؟ إنسانية بالغة من السمو ما لا أحسبنا ندرك مداه ونحن فيما نحن فيه من فرقة وتنازع على أسباب العيش، ومن حروب لا تهدأ ثائرتها، منشؤها هذه الفرقة وهذا التنازع.

أليس جديرا بنا - وذلك ما تدعونا الحياة الروحية إليه وما بلغه سلفنا في ظلالها - أن ننهل من وردها، وأن نشهد من آثارها في بلاد النبي العربي ومنزل الوحي إليه - عليه السلام، لعلنا نعود سيرة السلف فنثب وثبتهم هدى لإخواننا بني الإنسان؟ لقد شهدت من ذلك ما سطرته في هذا الكتاب، ويعلم الله أني أود لو أنهل من هذا الورد في كل حين، وأن أقف حيث وقف الرسول وأن أسير حيث سار، ملتمسا في سيرته وفي مواقفه الأسوة والعبرة، فإنني لعلى يقين من أن التأمل في السيرة ومواقفها، وفي التعاليم التي جاء بها الرسول، خير ما يهدي الإنسانية سبيل الحق والخير والجمال، وما ينهض بها من درك أمسكتها المادية فيه عن السمو إلى مراقي الروح حيث العيش إخاء ومحبة وحرص على العلم بما في الكون؛ ليضيء العلم بنوره إخاءنا ومحبتنا، ويزيدهما إنسانية وسموا، ويصل بنا في ظلهما إلى حمى السلام.

Halaman tidak diketahui