ولقد رأيت الموت بعيني غير مرة، وها أنا ذا مع ذلك أضرب في الحياة وما أزال أجاهدها؛ سقطت من أعلى دارنا بالريف في سنة 1901، فلولا قدر عفا عني لكنت اليوم في جوار الله، ومرضت في سنة 1924 مرضا خيف منه على حياتي، وصدمتني سيارة في سنة 1928 صدمة قضى مثلها على حياة كثيرين غيري، وانقلبت بي السيارة في سنة 1932 فلم يؤذني انقلابها، وتصادمت ومعي أولادي في سنة 1935 تصادما أزعجنا ولم ينلنا بأذى، ودون هذا وما إليه ما يودي بالحياة إذا حم الأجل، وكم مات أقوياء أصحاء فجأة بلا مرض ولا حادث، فليكن بعض إيماننا بالله أن نقبل على أداء واجبنا في الحياة مطمئنين غير هيابين ولا وجلين؛ فإن بلغنا من أدائه ما نرجو فذلك فضل الله وحسن تيسيره، وذلك هو الفوز العظيم، وإن اخترمتنا المنون أثناء قيامنا به مخلصين، فذلك مجدنا في الحياة ورجاؤنا في الله، وأي مجد في الحياة كأداء ما نؤمن بأنه الواجب؟ وأي رجاء في الله أكبر من الاستشهاد في سبيل الواجب؟
وخجلت وأنا أحاسب نفسي حين ذكرت ما تخيلت من مشقة الحياة بالحجاز، فما المشقة؟ ثم ما قيمة عيش لا مشقة فيه؟! وأين المتاع بالحياة وجمالها إذا نحن قضيناها على نسق مطرد يشابه فيه كل يوم ما قبله، لا يهزنا فيها جديد ولا تفجؤنا فيها فجاءة سارة أو ممضة؟! وكيف نروض أنفسنا على ما قد يمر بنا في الحياة من شدة، وكيف نعرف الصبر في البأساء وفي الضراء وحين البأس إذا أفزعنا شبح المشقة وانخلعت قلوبنا هلعا لتصورها؟ أولسنا نقبل عن طواعية واختيار على فنون من الرياضة فيها من الجهد والمشقة ما لا يقاس إليه كل ما في بلاد العرب مما نتصوره من جهد ومشقة؟ أولا يتسلق جماعة منا جبال الألب بسويسرا معرضين أنفسهم لقسوة الزمهرير في قننها ولأخطار السقوط أثناء تسلقهم إياها؟ بل إننا لنحمل أنفسنا أحيانا على ألوان من الرياضة أشد إجهادا للقوى وأشد تعريضا للخطر من تسلق الألب، ومتاعنا بهذه الألوان من الرياضة خير ما يلذنا من أيام حياتنا، حتى لنجد في ذكره من العذوبة ما يجعل العود إليه حلوا سائغا.
وإني لأذكر من مخاطرات الصبا ومن جولاته بأوروبا وغير أوروبا أياما قضيتها في مثل نسك الزاهد وخشونة صومعته، فأجد لهذه الذكرى لذة ونشوة لا يشبهها في شيء ذكر أيام الدعة والنعيم، وأستعيد بها صورة مشاهد في الطبيعة مما خلق الله أو نظم الإنسان قل لمن لم يعرف الخشونة أن يشهد مثلها، فما لي لا أغتبط لما عسى أن يكون بالحجاز من مشقة أثاب عنها بما أستمتع به بعدها من جمال ذكرياتها العذاب؟ وهل الحياة بنعيمها وبؤسها إلا ذكرى؟ وما لي لا أسارع إلى طلب هذه المشقة أستعيد بها ما عرفت في ماضي حياتي من شئون العيش، وقد كان التقشف خير أستاذ يدرك مريدوه مغزى هذه الكلمة القوية العميقة: «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.»
نضوت إذن ترددي، ولم أرتب لحظة في أن الله عزم لي بحديث «بودابست» وعمدت منذ الغداة أستشير السابقين في الحج من أهلي وأصحابي في أهبة سفري، وهون بعضهم الأمر، وهوله آخرون، هونه الشيوخ والذين ينعمون بالضراء ابتغاء مغفرة الله لمن حج بيته، وهوله من ليسوا أقل إيمانا وإن كانوا أشد على طمأنينتهم وصحتهم حرصا، كان من رأي هؤلاء أن المياه في موسم الحج مخوفة، وأخوفها ماء منى، وأن الاحتياط لقسوة البرد أثناء الإحرام يقضي بلباس خاص مع مئزريه، وسألت بعض الأطباء رأيهم في ماء الحجاز ووسيلة اتقاء تلوثه، وهون بعض الأطباء الأمر وهوله آخرون، وكان ما يلائم جو الحجاز وتقاليد العيش فيه من أمر الملبس موضع خلاف كذلك، وقدم لي صديق من الأطباء جعبة من الدواء لإسعاف المسافر، وأكملتها بما يتفق وحالي الخاصة، وانتهى بي التفكير في الاحتياط الطبي إلى الاكتفاء بهذه الجعبة تاركا ما سواها مما نصح به الأطباء إلى موجبات الحاجة أثناء السفر، ولعله السأم لاضطراب رأي الأطباء هو الذي حملني على هذا الاكتفاء، أما اللباس فأخذت من ألوانه كل ما نصح الناصحون به، وقد شغل ما يقتضيه الإحرام وحده من عياب المتاع حيزا عظيما.
لست أذكر أني ساورتني مثل هذه الحيرة في أهبة السفر إلا صدر الشباب حين كنت مسافرا في سنة 1909 لإتمام دراسة الحقوق بأوروبا، فقد صحبت منها يوم ذاك ما عرفت من بعد أني في غير حاجة إليه، فأما في هذه الفترة التي انقضت بين سفري الأول إلى أوروبا وسفري الأول إلى الحجاز، والتي تزيد على ربع قرن من الدهر، فقد كنت أتخفف من الأهبة أثناء أسفاري ما استطعت، وما أسفت يوما على هذا التخفف، سافرت مرات إلى أوروبا، وسافرت إلى لبنان والشام، وسافرت إلى السودان، ولم أكن في أسفاري هذه جميعا أحمل من الثقل إلا ما أشعر بمسيس الحاجة إليه، ثقة مني بأني واجد ما ينقصني حيث أنزل، وكيف لا أجده وأهله يعيشون ويجدون حاجاتهم فيه؟ وكان حتما علي أن أصنع هذا الصنيع في السفر إلى الحجاز، وأن أذكر أني واجد في كل بلد ما تقضي به حاجات العيش فيه، لكني نسيت هذا الأمر، وما أنسانيه إلا كثرة ما سمعت ممن استشرتهم، ولعلي إنما طاوعتني نفسي إلى سماع الكثير مما قالوا لقلة من يسافرون لأداء فريضة الحج من الطبقات المستنيرة من المسلمين، ولكثرة ما يقال عن الحجاز والحالة الصحية فيه، وأغلب ظني أنني لو قمت بهذه الرحلة في غير موسم الحج لجريت على عادتي، ولتخففت من أهبة سفري ما استطعت.
ونزلت على حكم الإجراءات الرسمية التي تجب على من يفرض الحج، فقدمت بذلك طلبا إلى الحكومة ودفعت نفقات السفر، وأسلمت نفسي للتطعيم ضد الجدري والحقن ضد الكوليرا والتيفود، وحددت موعد سفري على الباخرة «كوثر» التي تبرح السويس يوم الثلاثاء 25 من فبراير سنة 1936، من يومئذ اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في ترحالي وما سأشهده بالبلد الحرام والبلاد المقدسة، أما أصحابي الذين حاولوا من قبل أن يصرفوني عن سفري، فقد جعلوا يسألونني عن شعوري إزاء هذه الرحلة وإزاء فريضة الحج، مشفوعا سؤالهم بأصدق الرجاء أن أتم الفريضة والرحلة وأن أعود إليهم بخير ما يرجونه لي من صحة وعافية.
وهرع آخرون من أصدقائي ومعارفي يهنئونني بما عزمت، ويؤكدون لي أنه آية فضل الله علي ورضاه عني، وشكرت لهم تأكيدهم مغتبطا به ثقة مني بإخلاصه وصدق النية فيه، وكيف ترقى إلى إخلاصه شبهة وأصحابه من أشد المسلمين تمسكا بدينهم واطمئنانا إليه، وأكثرهم ضليعون في علومه واقفون منه على ما لا يتسنى لغيرهم الوقوف عليه بعد إذ قضوا السنين الطوال في دراسته وتمحيصه والتدقيق في متونه وشروحه؟ وغاية ما رجوت أن يجيب الله دعاءهم فيقبل مني حجي وعمرتي، وييسر لي ما قصدت إليه من سفري.
اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في هذه المناسك وما أنا مشاهده في البلد الحرام، وسرعان أن ملأ هذا التفكير نفسي هيبة ورهبة؛ فقد عدت بذاكرتي إلى حجة الوداع، وتخيلت أمامي النبي العربي يؤديها على رأس مائة ألف أو يزيدون، فطأطأت رأسي لهذا المشهد إكبارا وإجلالا، ما أعظم الفرق بين ما كان يومئذ وما نحن عليه اليوم! كان المسلمون يتحرقون شوقا إلى أداء الفريضة وهم لا يعلمون متى كتب لهم أن يؤدوها مع رسول الله، فلما أذن مؤذنه في الناس بالحج أقبلوا إليه من كل فج وهرعوا من كل حدب ينسلون، وأقاموا بالخيام التي ضربت حول المدينة ينتظرون يوم الرحيل وقلوبهم فياضة بالبشر، وكلهم الغبطة والمسرة، واستفزهم المنادي، فقام جمعهم وراء الرسول الكريم إلى ذي الحليفة بظاهر المدينة، وقد امتلأت من خشية الله قلوبهم، وقد فاضت من هيبته عبراتهم، وكلهم إلى بيت الله هوى، وفي سبيل دينه الحق اندفاع ومحبة.
ونزلوا ذا الحليفة وباتوا ليلتهم بها، ثم أصبحوا فتطهروا وأحرموا وأعلنوا إلى الله أنهم نسوا الدنيا في سبيله، وأنهم نووا الحج إلى بيته يبتغون وجهه، وسوى الإحرام بينهم جميعا، فلم يبق منهم غني وفقير، ولا قوي وضعيف، ولم يبق منهم من يفكر إلا في رضا بائه جل شأنه تعنو له الجباه، ولعظمته يخر من في السموات ومن في الأرض إلى الأذقان سجدا، وانطلقوا من ذي الحليفة في طريق مكة يفكر كل منهم فيما قدم من عمل صالح، وينادون جميعا بصوت رجل واحد ملبين: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وتجاوبت الأودية بصدى هذا النداء فحملته إلى بقاع البادية وإلى فسحة الصحراء، ونزل الجميع حين جن الليل؛ فلما تبسم الفجر عن تباشير الصباح صلوا ولبوا ثم انتشروا وساروا يحدوهم الإيمان، ويدفعهم إلى بيت الله شوق ومحبة، وظلوا في طريقهم إلى مكة اثني عشر يوما، إذا جنهم الليل نزلوا، فإذا أضاء لهم الصبح قاموا متوجهين بقلوبهم إلى الله مصلين ملبين، ناسين عرض الدنيا، مؤمنين بأن لا فضل لأحدهم على صاحبه إلا بالتقوى، فلما بلغوا مكة دخلوا المسجد الحرام يؤمهم محمد، وطافوا سبعا بالبيت العتيق، ثم سعوا سبعا بين الصفا والمروة، طافوا جميعا معا، وسعوا جميعا معا، وهم جميعا في إمامة محمد تسري إليهم من قدس روحه نفحات روحية، لم يعرفوا، ولم يعرف أحد قبلهم، ما يشابهها سموا وقوة.
وآن لهم أن يرتقوا إلى عرفات ليتموا حجهم، فاتبعوا النبي إلى منى يوم التروية ثم ارتقوا الجبل معه، وأقاموا فوق عرفات في مساواة الإحرام يهللون ويكبرون ويلبون حتى مالت الشمس إلى المغيب، إذ ذاك استمعوا إلى خطاب النبي، ثم أفاضوا إلى المشعر الحرام فذكروا الله عنده، وهبطوا منى فأتموا بها المناسك، وعادوا وقد طهر الحج قلوبهم إلى حياة جديدة بقلوب أكثر طهرا، ونفوس أجابت داعي الحق، وعاهدت الله أن تجيبه كلما دعاها.
Halaman tidak diketahui