ويخرج الناس من البقيع بعد موت إبراهيم فإذا الشمس تكسف، وإذا آية النهار تمحى، فيحسبون ذلك معجزة شارك الكون بها رسول الله في حزنه، لكنه
صلى الله عليه وسلم
ما يلبث حين يسمعهم يتهامسون بذلك أن يقول لهم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» ويهرع المسلمون إلى المسجد يصلون وقد زادتهم كلمة رسول الله إيمانا بأن الله - جل شأنه - لا يغير سنته، وأن كل ما يقع في الحياة إنما هو من أمره.
وقفت على كل قبر بالبقيع وصليت على صاحبه واستغفرت الله له، وكذلك كان يفعل الذين رأيتهم يزورونه ساعة زيارتي إياه، على أني عجبت لقوم رأيتهم يطيلون الوقوف عند قبور أهل البيت ويبكون أحر البكاء، فإذا مروا بقبر عثمان استحثوا الخطا فلم يقفوا عنده، قال أصحابي حين سألتهم في ذلك: أولئك جماعة الشيعة، فهم ما يزالون يذكرون أن دم عثمان هو الذي أذكى الفتنة بين علي ومعاوية، وبين بني أمية وآل البيت، وأنه الذي أدى إلى مقتل علي والحسين؛ وهم لذلك يمرون بهذا القبر سراعا لا يصلون على صاحبه ولا يستغفرون الله له، وزاد في عجبي أن أهل بيت النبي أنفسهم لم يبلغوا من الموجدة على عثمان بعد موته هذا المبلغ، لقد رأيت كيف أراد الحسن بن زيد أن ينتقم من بني أمية لإدخالهم حجرات أزاوج النبي في رقعة المسجد، فكتب إلى المنصور أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل الحجرة النبوية في وسطه لتدخل دار عثمان في رقعته، وكيف أجابه المنصور: إني قد عرفت الذي أردت فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان، ولم يخالف أحد من العباسيين المنصور في تفكيره هذا على طول ملكهم، أفتبقى الموجدة في نفوس الشيعة أكثر مما بقيت في نفوس بني العباس وهم أقرب الناس إلى علي وإلى الحسين نسبا؟! أم أنها ليست الموجدة ولكنها العقيدة التي يتوارثها الأجيال من غير تفكير في سببها ومنشئها، والتي تنشأ أول أمرها متأثرة بأهواء شعوبية أو سياسية أغلب الأحيان؟!
ترى أفيبقى البقيع كما هو اليوم مسواة قبوره بالأرض لا يقوم على قبر منها قبة، ولا يقام للعظماء والصحابة المدفونين به أثر يذكرون به؟ لعلك تحسب الأمر يبقى كذلك ما بقي الوهابيون بالحجاز، وقد يكون في التاريخ ما يرجح ظنك، فقد غزا الوهابيون الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي فحطموا قباب البقيع كما حطموا غيرها من القباب بمكة والمدينة وغيرها من بلاد الحجاز، في هذا الوقت زار السويسري «برخارت» الحجاز ووصف البقيع بما رأيت، فلما أجلت جنود مصر الوهابيين عن الحجاز وعاد الأمر فيه إلى بني عثمان أعادوا بناء كثير من القباب وشادوها على صورة من الفن التي تتفق مع ذوق العصر، ولقد ذكر صاحب «مرآة الحرمين» من هذه القباب ما لأهل بيت النبي، والقبة التي بناها السلطان محمود سنة 1233 للهجرة على قبر عثمان، ونشر صورها الشمسية، فلما عاد الوهابيون إلى الحجاز بعد ذلك بأكثر من مائة سنة هدموا هذه القباب كرة أخرى، أفيعيد التاريخ نفسه، فإذا جلا الوهابيون من الحجاز ودخل في حكم أهله أو في حكم غيرهم ممن لا يرون بإقامة القباب في الدين بأسا أعادوا تشييدها، وإذا عاد الوهابيون بعد ذلك إلى الحجاز هدموها، أم يظل البقيع كما هو اليوم بقي الوهابيون في الحجاز أو جلوا عنه؟ أم ترى يبلغ الأمر بين الوهابيين وغيرهم من طوائف المسلمين إلى التفاهم على إقامة أثر يذكر به هؤلاء الأبطال الذين دفنوا بالبقيع، على ألا يكون هذا الأثر موضع تبرك وألا يتخذ إلى الله زلفى؟
ولا أريد أن أجازف بحكم، فأمر ذلك للمستقبل، والمستقبل غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، لكني مع ذلك أرجو ألا يظل هذا البقيع وليس به أثر يذكر به أصحابه، ويذكر به أعلام من دفنوا طي صحائفه، فلقد دفن به أكثر من عشرة آلاف من كرام الصحابة كان لهم في الإسلام وتاريخه وتعاليمه أثر أي أثر، وإن قلت: الإسلام وتاريخه وتعاليمه قلت : الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب، ونحن لا نقيم الآثار لمن سبقونا متاعا لهم بها، فمتاعهم في عالمهم بما قدموا من عمل صالح، وإنما نقيمها ذكرا ومعتبرا للأجيال في تعاقبها حثا لأبنائها على أن يجدوا في السابقين الأولين الأسوة والمثل، وأنا إذ ندخل «البانتيون» في باريس أو كنيسة «وستمنستر» في لندن، أو أيا غير هذين من مدافن العظماء لا تجول بخاطرنا عبادتهم، ولا يدور بخلدنا تقديسهم، إنما يدفعنا ذكرهم إلى الوقوف على أخبارهم وما خلفوا من أثر جليل وعمل صالح، وفي هذا خير مشجع على متابعة هذا العمل، وهو خير مظهر للصلة بين الحاضر والماضي صلة لا قيام لأمة ولا قيام للإنسانية إلا بتوثقها.
وما لنا نذكر باريس ولندن وبالمدينة من آثار الإسلام ما رأيت؟! ما أعظم الأثر الذي تثيره دار أبي أيوب الأنصاري في النفس! وما أعظم الموعظة في قبة خالد بن الوليد وشهادتها على ضيق رقعة داره! وما أشد ما تهتز مشاعرنا حين نقف على قبر حمزة عند سفح أحد! دع عنك موقفا كله الإجلال والعظة أمام قبر الرسول ومثوى صاحبيه أبي بكر وعمر في الحجرة النبوية، أية نفس لا تحس في هذه اللحظات الباقية الأثر على الحياة أصدق الرغبة في السمو إلى غاية ما تؤهلها ملكاتها أن تسمو إليه، تشبها بهؤلاء الذين تركوا على الحياة أثرا أخلد الأثر وأبقاه! وإذا صدقت الرغبة واستقر العزم وامتلأت به الإرادة لم يكن لقوة أن تصدنا عن بلوغ ما نبغي، فالإرادة الصادقة أعظم قوة في الحياة، ومن عرف كيف يريد قدر على بلوغ ما يريد.
وإنما قعد بالمسلمين عن إدراك هذه المعاني ودعاهم أن يتخذوا من القباب مواضع للزلفى إلى الله توسلا إليه بأصحابها ما هووا إليه من جهل حجب عنهم جلال ما صنع الذين تخلد القباب أو تخلد الآثار ذكرهم، وماذا يذكر سوادهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وماذا يذكر هذا السواد عن خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من أبطال المسلمين؟ ثم ماذا يذكر من عمل علمائهم وذوي الفضل والكرامة منهم؟ ليس يذكر من ذلك شيئا؛ لأنه يجهل ذلك كله، وغاية ما يتصوره أن هؤلاء رجال اصطفاهم الله بكرامته، أو نساء أكرمهن الله بمن أعقبن من ذرية صالحة، فهم بذلك أولياء الله؛ ومن ثم يتخذهم هذا السواد إلى الله زلفى ويسبغ عليهم من صفات ما فوق الإنسانية ما يسوغ عنده هذه الزلفى.
فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب ولا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها وما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب، وإنما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حجب الجهل وقبابه، وتفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف وما خلفوا من علم وفن وحضارة، فالعلم هو النور الكشاف الذي يهتك حجب الزمن ويرينا ما خلفه آباؤنا وأسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة، وما تؤدي إليه المعرفة من فضل وخير، وما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي وما تم فيه، يومئذ لا يعبد الإنسان الإنسان ولا يتخذه إلى الله زلفى، وإنما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له، ويتخذ من علمه ومن عمله ومن تقواه الزلفى إلى الله.
فكرت في هذا إذ عدت من البقيع مارا بدار عثمان، فأويت إلى غرفتي وجعلت أقلب في بعض كتب ألتمس فيها للبقيع وأهله ذكرا، ولم أجد من ذلك سوى أن الذين دفنوا به يزيدون على عشرة آلاف من كبار الصحابة، لا تعرف قبور أكثرهم وإنما يعرف من هذه القبور ما لإبراهيم ورقية وفاطمة أولاد النبي، وفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعد بن زرارة، وخنيس بن حذافة السهمي، والحسن بن علي، وابن أخيه زين العابدين بن علي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفر الصادق ابن الباقر، والعباس بن عبد المطلب، وأخته صفية، وابن أخيهما أبي سفيان بن الحارث، وعثمان بن عفان، وسعد بن معاذ الأشهلي، وأبي سعيد الخدري، وزوجات رسول الله - خلا خديجة التي دفنت بمكة وميمونة التي دفنت بسرف - وهؤلاء جميعا وألوف الصحابة الذين دفنوا معهم يثوون في بقعة ضيقة من الأرض لا يزيد مسطحها على مائة وخمسين مترا في الطول، ومائة متر في العرض، ترتفع عما حولها، ويحيط بها سور لا شيء من الجمال في بنائه.
Halaman tidak diketahui