وينقضي عامان من يومئذ، فيسلك محمد هذا الطريق على رأس عشرة آلاف من المسلمين ليفتحوا مكة، أين مسيرته اليوم من مسيرته صغيرا، ومن مسيرته صبيا، ومن مسيرته تاجرا، ومن مجيئه حاجا؟! لقد دانت له العرب وبقيت مكة على عنادها، لكنها اليوم على أهبة أن تدين وأن تسلم مفاتحها وأن تؤمن بالله ورسوله وأن يطهر بيتها من الأوثان وأن تعود إليه قداسة التوحيد والإيمان.
فأما المرة الأخيرة التي سلك محمد هذا الطريق فيها فهي حجة الوداع، حين سار من المدينة على رأس مائة ألف من المسلمين الذين جاءوا من أنحاء شبه الجزيرة رجالا وعلى كل ضامر ينسلون من كل حدب، وأقاموا ليلتهم بذي الحليفة؛ فلما أصبحوا أحرموا وانطلقوا جميعا ينادون: «لبيك اللهم لبيك.» وتتصل روح الرسول بأرواحهم جميعا وهو يلبي على رأسهم فيزدادون إمعانا في توجههم إلى ربهم وسموا إليه، أين من هذا الرجل الذي أكمل الله له وللمسلمين جميعا دينهم وأتم عليهم نعمته ذلك الطفل مع أمه، وذلك الصبي مع عمه، يسير في هذا الطريق لا يعرف في المرة الأولى أنه ذاهب إلى قبر أبيه يزوره، ويسائل رفاقه في المرة الثانية عن كل ما يرى؟! أين من هذا الرسول الذي نقل العالم من الضلال إلى الهدى ومن الوثنية إلى التوحيد ذلك الصغير الذي كانت تنظر إليه أمه نظرة الحب والإعزاز لوحيدها اليتيم الذي فقد أباه، وغاية ما ترجو أن يكون كهذا الأب أيدا وكرما ورجولة؟! ويصل هذا الجمع الزاخر مكة فيشاركه أهلها في الإحرام بالحج وأداء مناسكه متأسيا في ذلك بمثل الرسول، سائرا في خطاه، داعيا دعاءه، مستغفرا استغفاره ... ألا إنها الحياة الإنسانية بلغت غاية السمو من إنسانيتها، ثم سمت فوق الإنسانية إلى حيث رفعتها مراتب النبوة والرسالة، وبقيت مثلا تحاول الأجيال أن تجعل منه أسوتها؛ وهيهات هيهات أن تبلغ من ذلك إلا يسيرا!
قال صاحبي: «ما أعظم العبرة وأبلغ الموعظة فيما تذكر! ولو أن المسلمين الذين يسيرون كل عام في هذا الطريق ذكروا من ذلك بعض ما ذكرت لازدادت نفوسهم بالحج طهرا، وإنه في الحق لطريق لو حدثت رماله وحدثت هضابه بما شهدت لأنصت العالم كله بأرضه وبحاره لأروع ما شهد على التاريخ من جلال الحق وانتصاره.»
كان رجالنا قد أعادوا رحالنا إلى «البكس» وإلى السيارة حين أتم صاحبي عبارته، وشكرنا لأهل «أوتيل آبار بني حصان» ظرفهم، وانطلقنا في طريقنا نبغي المسيجيد، آخر محلة نقف بها قبل أن نبلغ المدينة، وبلغناها، ونزلنا فندقا بها يشبه فندق الآبار، فأخبرنا رجاله أن السيد عبد العزيز الخريجي مضيفنا بالمدينة بعث مساء أمس وصبح اليوم من ينتظرنا، وأقمنا بالفندق ريثما تناولنا الشاي والقهوة، وشكرنا أصحابه ثم انطلقنا كرة أخرى في طريقنا إلى غايتنا، يا عجبا! لقد اختلفت طبيعة البيداء كرة أخرى، لقد كنا نسير من جدة إلى رابغ وإلى مستورة على رمال شدت مياه البحر بعضها إلى بعض فهي صلبة متينة، فلما استدرنا من مستورة مشرقين إلى بئر الشيخ وآبار بني حصان تفككت الرمال ولم تبق لها صلابتها؛ لذلك غاصت عجلات السيارة، وغاص بطن السيارة فيها غير مرة، واطرد الطريق على هذا النحو من الآبار إلى المسيجيد، فأما بعد المسيجيد فقد انقلبت البيداء صخرية على رغم ما يكسوها من الرمال، واطمأن السائق إلى أنا لن نغوص في الرمل، فأطلق العنان لسيارته، فلما قضينا بعض الساعة إذا الطبيعة تختلف من جديد، وإذا جبال سود تقف منا عند مرمى النظر، وأدركت السيارة سفوح الجبال وتخطت خلالها مرتقية حينا منحدرة آخر، ثم انطلقت من جديد في بيداء تكتنفها الجبال.
ووقفنا عند محلة أناخت بها قوافل للحجاج الذين يقصدون المدينة، وجاء حسن بماء للسيارة احتياطا للجبال القريبة منا، وأثار منظر القوافل في نفسي حنينا وذكرى: حنينا لأيام الطفولة حين كنت أمتطي الجمل مع جدتي وأسير في القافلة الذاهبة في صحبة جدي إلى السيد البدوي بطنطا، أو إلى مولد ابن العاص القريب من قريتنا، وذكرى أولئك الذين سبقونا من آبائنا وأهلينا إلى هذه الديار قبل أن تغير السيارة على الجمل فيها، وحين كان الجمل سفينة الصحراء، وفكرت حين ألح بي الحنين وألحت الذكرى فيما يكتبه الغربيون عن القاهرة وعن الآستانة وعن غيرها من بلاد الشرق، وما يبدون من أسف أشد الأسف أن أضاعت هذه البلاد طابعها الشرقي القديم الجميل، وتحدثت إلى نفسي أسائلها: كم أضاع الحجاز وأضاعت بلاد العرب بغزو السيارة إياها من طابعها، وكم يضيع منه غدا حين تغزوها الطيارة، فنجيء على متنها من مكة إلى المدينة في ساعتين كما فعلت الأميرة خديجة حليم هذا العام؟! ترى ماذا كانت تترك في نفسي رحلة القافلة من مكة إلى المدينة في الدرب الطويل أقضي فيها أسبوعين كاملين؟!
لقد قرأت ما كتبه كثيرون عن مثل هذه الرحلة في مختلف الدروب التي تنساب في البادية، قرأت ما كتبه برتن الإنجليزي، وبورخارت السويسري، وإبراهيم باشا رفعت، وقرأت رحلة البتانوني، إنهم جميعا قد أتيح لهم أن يدرسوا من طبيعة البادية ونفسية أهلها ما لا يتسنى لراكب السيارة أن يعرف إلا القليل منه، وهم قد استمتعوا من حياة الصحراء وواحاتها ومن صحبة أهلها بما لم أستمتع أنا بشيء منه، اللهم إلا حين نزلت رابغا، وحين قضيت الليل بآبار بني حصان، أما راكب الطيارة فلن يرى من ذلك كله إلا ما يراه الطائر من علية سمواته، ولن يستمتع منه بغير المنظر السريع التغير، السريع إلى الزوال، ومن الحق إذن أن غزو السيارة للجمل وتعريضها إياه للزوال وحلولها محله سفينة للصحراء خسارة يأسف لها رب الفن الحريص أن ينعم على هون بكل ما في البادية من حياة ومعنى وجمال.
أوليس من الحق كذلك أن غزو الطيارة للسيارة يعرض الإنسانية من ناحية الفن لمثل هذه الخسارة؟ أم أنا يجب علينا في سبيل ما نسميه التقدم ألا نقيم لهذه الخسارة وزنا، وأن نغتبط أن عوضنا الله خيرا منها وأعظم جدوى، وإذا انقرض الجمل وبقيت السيارة دابة الحمل واختصت الطيارة بالسفر، فلا خسارة في ذلك على الإنسانية ولا على الفن؟ ولم أجد جوابا على ذلك كله إلا أن محاولة الجواب لهو وعبث ما أشبههما بالأسف! لأن الطفل صار رجلا؛ أو لأن الهرم الفاني مات ليخلفه غيره، مع أن هذا وذاك سنة الطبيعة، فما حدث اليوم لا مفر منه وهو لا بد كائن.
ورجل الفن الصادق العاطفة والموهبة لا يأسف على ما فات، ويجد من آثار الفن فيما حوله خير منزل لوحيه وإلهامه، وميراثنا مما خلفه الأولون من آثار الفن بعض ما هو كائن، شأنه في ذلك شأن ما حولنا من آثار العلم، فإذا نحن أسفنا على ما فات فلن يجدي أسفنا شيئا، ولئن دل على شيء لعلى أنا كسالى في الفن، نريد أن ننهج نهج من سبقونا ونتأثر خطاهم، بدل أن نبدع جديدا من إلهام الحاضر وحياته، فأما الذين يريدون أن يبقى الشرق الحي متحفا لصور الماضي فأولئك يجهلون ما في النفس الشرقية من توثب ونزوع إلى الطفرة، وما تحرص عليه مع ذلك من توثيق عرى الحاضر بالماضي؛ لأن الحاضر والماضي والمستقبل مرتسم فيها منذ الأزل، مصور في أطوائها على أنه وحدة تتطور حياتها كما تتطور حياة الكائن الحي، لا على أنه أجزاء منفصل بعضها عن بعض، لا تتسق في كل ولا تربطها وحدة الزمان والمكان.
وانطلقنا، ولم يطل بنا السير حتى كنا ندور في الجبال مصعدين نسلك طريقا لا بأس بفسحتها ، وإنا لفي إحدى استدارات السيارة إذ انطلق إلى السماء أمامنا جبلان عن اليمين وعن الشمال لفت انطلاقهما النظر، قال صاحبي: «هذه جبال المفرحات، وهي طلائع المدينة المنورة.» هنالك اتجهت بكل ذهني وجناني إلى ناحية مدينة الرسول - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وجعلت أحدق بنظري وحده تارة، وأستعين بالمنظار المقرب أخرى، أريد أن أجتلي بشائرها، وكأنما شعر السائق بأنا نستعجل بلوغها والدخول إليها، فدفع بالسيارة في طريق استقام حتى كأنه قد نحت في الجبل نحتا، ورصف فيه رصفا، فلما أوفى على غاية هذا الطريق استدار إلى طريق آخر، ثم وقف فجأة بعد استدارته فيه ومد إصبعه إلى ناحية الشرق مشيرا، وقال: هذه القبة الخضراء.
الله أكبر ولله الحمد! بلغنا إذن مقصدنا، فالقبة الخضراء قبة الحرم النبوي، وهي الآن أمامي وعلى مرمى نظري، فليسرع حسن إذن حتى نقوم بزيارة الحجرة التي صارت قبر الرسول الكريم بعد أن كانت سكنه في الحياة، والمكان العزيز عليه في دار عائشة، وليسرع حتى نمتع النفس والقلب بالوقوف خشعا أمام هذه الحجرة ونسلم على صاحبها، ونشهد أنه بلغ رسالة ربه، ونحاول أن يتصل روحنا الضعيف الرازح تحت أعباء الحياة ومادتها في عالم الدنيا بروحه القوي الأمين الذي سما بفضل من الله ومغفرة إلى مقام الرسالة الأسنى، فكان صاحبها الأسوة والمثل في حياته، وكان بعد مماته نور الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة والضياء الوضاء الذي غمر العالم فأنار له السبل وهداه محجة الحق، وليسرع فالنفس مشوقة والقلب يود أن يطير إلى هذا الموقف يشهد عن كثب منبع هذا النور، وأن يمتلئ من إشراق سناه، هذه لذة كبرى بدأت أشعر بها وأريد أن أنهل منها وأبلغ الري الروحي ريا لا أظمأ بعده أبدا.
Halaman tidak diketahui