وبعد صلاة الظهر تناولنا السمك الذي جاءوا به، ما أشهى الطعام على جوع وما أطيبه وأصحه! وملت بعد أن نلت شبعي فتمطيت على سجادة الصلاة أبتغي الراحة، فإذا بي أسرع إلى عالم النوم، واستيقظت وقد عاد لي نشاطي، والتمست الخريطة أقيس عليها ما قطعنا من جدة وما بقي لنا لنبلغ المدينة، قال صاحبي: «وما تجدي الخريطة في طريق شديد التفاوت بين الاستواء والوعث، وتستطيع السيارة أن تقطع عشرات الفراسخ كل ساعة في بعضه، وهي تعيا في البعض عن قطع فرسخ واحد في ساعة أو ساعات؟! وإنا لن نبلغ المدينة الليلة، والمسيجيد غاية ما نستطيع أن نبلغه إذا بلغ لطف الأقدار غايته، وقد نبيت بآبار بني حصان وقد لا ندركها، والأمر في ذلك كله لله، بيده تصريف الأمور.»
لم يثنني هذا الحديث عن الاطلاع على الخريطة، يا عجبا! كيف نسيت أن الجحفة على عهد النبي هي رابغ اليوم، أو أنهما تتجاوران؟ ومذ رأيت اسم رابغ نسيت حديث صاحبي وعدت بذاكرتي إلى عهد الرسول، وذكرت حديثا لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ يتشاور قومها من قريش قبيل خروجهم إلى غزوة أحد ويختلفون أتسير النسوة معهم، فتصيح هند بمن يعترض خروج النساء: «إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم! نخرج فنشهد القتال ولا يردنا أحد كما ردت الفتيات في سفرهم إلى بدر حين بلغوا الجحفة فقتلت الأحبة يومئذ.» نحن ها هنا إذن في الطريق الذي سلكته قريش إلى بدر وإلى أحد، ونحن ها هنا في الطريق الذي سلكه الرسول عام الفتح، فقد ترك العباس بن عبد المطلب قريشا وهي في جدل ماذا تصنع لاتقاء عدوة محمد على مكة، وسار يريد المدينة، فلقي جيش الفتح بالجحفة، هذا إذا كان الطريق المسلوك بين مكة ويثرب إلى الشام؛ وهذه الجحفة التي نقف الآن بها كانت موقعا ذا شهرة فيه، أما ولرابغ الشهرة اليوم فقد أنست الناس الجحفة وما وقع على عهد الرسول بها.
وقمنا بعد العصر، فانطلقت بنا السيارة إلى مستورة في طريق مستو يجاور البحر فهي تجري فيه تخطفه خطفا، وفي حذاء مستورة تيامنت السيارة مشرقة نحو بئر الشيخ، ومذ تيامنت بدأ الطريق يتعذر السير فيه؛ ذلك أننا كنا نبعد عن البحر إلى داخل تهامة، وكانت الرمال التي تسير السيارة عليها خلال هذه الصحراء غير مستقرة لكثرة ما تقلبها السيارات الثقيلة إذ يكثر مرورها بها في موسم الحج، وحيثما تعذر السير نبت المتسولون من جوف الأرض أو انحطوا من المرتفعات.
وبلغنا بئر الشيخ بعد غروب الشمس فجلسنا إلى مقهى بها تناولنا فيه الشاي وأقمنا حتى سجا الليل، فليس يضيق سائقو السيارات بشيء ضيقهم بالسويعة التي تلي غروب الشمس حين تختلط موليات النهار بإقبال الليل فينبهم النور وتنبهم الظلمة ويضطرب ضوء السيارة بينهما، وسأل السائق عن الطريق بين بئر الشيخ وآبار بني حصان ومبلغ صلاحها للسير بها، فاختلف أهل المقهى رأيا، وأشار أحدهم إلى أن طريقا منها لا يزال صالحا للسير فيه، وأن الطريق الآخر أفسدته السيول فلم يبق السير فيه مستطاعا.
ولم يكن إلى المبيت ببئر الشيخ سبيل إلا أن نظل ليلتنا في هذا المقهى، وإن أطقت أنا هذا المبيت وغامرت به فما عسى أن يكون أثره في صحة والدتي؟ ولقد ذكر القوم أن بالمحلة التي تلينا، محلة آبار بني حصان، فندقا للمبيت فيه، في ذلك استخرنا الله وقمنا إلى سيارتنا، لكنها لم تسر بنا إلا قليلا حتى ساخت في الرمل ولم تستطع حراكا، وأضاء السائق فنارها فإذا أمامنا ثلاث سيارات أصابها ما أصاب سيارتنا، ولقد جعل سائقوها يتعاونون ويعاونهم ركابها على دفعها للمسير، واللوريات في مثل هذه المواقف أسعد حظا، لارتفاع جسمها فوق الأرض على عجلاتها الكبيرة، وسموها لذلك عن أن يغوص بطنها في الرمال، وأقمنا حيث نحن، وذهب أصحابي يعاونون الذين تعطلت سياراتهم أمامنا ليقابلونا بالمثل فيعاونوا سيارتنا على الخروج من ورطتها، وقد أقمنا ساعة أو نحوها، ثم أذن الله بالفرج وخرجت السيارات من هذه العسرة التي أصابتها، وسرنا منطلقين في طريقنا وكل رجائنا أن نبلغ آبار بني حصان قبل منتصف الليل لعل النوم بفندقها يعوضنا عن جهد هذا النهار.
وانقضت ساعة أخرى والسيارة تجري ونحن ننعم بنسيم ما أرقه وأعذبه! نسيم البيداء الطلق الجاف الصحيح الذي يبعث إلى النفس النشاط والغبطة، والذي ينسي المسافر كل نصب وكل مشقة، وفيما نتحدث عن المدينة ومتى نبلغها غدا إذ السيارة تغوص مرة أخرى في الرمال، وحاول السائق مذ شعر باللجة الخطرة تحت مزالق العجلات أن ينجو منها بتحريك عجلة القيادة يمنة ويسرة لعل في تحرك العجلات ما يجنبها الغوص العميق، لكن هذه المداورة لم تفلح، وساخت السيارة وجعلت عجلاتها تدور حول نفسها في حركة رحوية غير مجدية، ونزل أصحابي يحاولون دفع السيارة إلى الأمام لعلها تجاوز منطقة الخطر، ومع ما بذلوا في ذلك من جهد شاق لقد ذهب جهدهم عبثا، وخيل إلي أني أستطيع معاونتهم، ودفعت معهم ولكن على غير جدوى، وبعد ساعتين ذوى فيهما الرجاء وذهب ما أنفقنا خلالهما من جهد سدى رأيت أن أستريح إلى اليأس من السير هذه الليلة وأن أسلم الأمر لله وأن أنام فوق الرمل على مقربة من السيارة، وسحبت سجادة الصلاة فجعلتها فراشي، وجئت بغطاء من الصوف التحفته وتمطيت وتغطيت راجيا أن تعيننا يقظة النهار على اجتياز هذه العقبة، وطاب لي هذا المقام، وذكرت به عشية عرفة لولا غياب القمر وانتشار الظلمة، وإن آنستنا نجوم السماء ببريقها الجذاب.
وإني لفي أحلام ما قبل النوم، أحلام حلوة مسعدة زادها صفو السماء في هذه الساعة حلاوة وإسعادا، إذ جاء إلي من أصحابي من يخبرني أن السيارة خرجت من لجة الرمل وأنها وشيكة أن تسير، ولما رأى مني الريبة في قوله ذكر أن عربة كبرى بها مفتش للطرق أدركتهم، وأن بها أداة خاصة لإنقاذ العربات المنكوبة في لجة الرمل، وأنها ردت عربتنا إلى الحياة والسير، وقمت بين مصدق ومكذب، فلما رأيت السيارة انتقلت من مكانها أيقنت أنها خلصت من براثن هذه الرمال، وأنها وشيكة أن تسير حقا، فأسرعت إليها، وسارت بنا تقصد آبار بني حصان ونحن في أشد الخوف أن ينشب الرمل براثنه في عجلاتها كرة أخرى، ولم تهدأ ثائرة الخوف في نفوسنا حتى رأينا أنوار آبار بني حصان، فلما بلغناها نادى مناد أن نميل لننام عنده، ولكن عنده مقهى لا يفضل مقهى بئر الشيخ، ونحن نريد الفندق، فندق آبار بني حصان، وأهبنا بالسائق أن يقصد توا إليه، وأنا أصور لنفسي غرفتي به وما سأناله بها من نوم مريح.
ووقفت السيارة أمام بناء اشتملته الظلمة قيل: إنه «الأوتيل»، ودق أحد الرفاق بابه ونادى أهله وطال به الدق والنداء، ولئن كنا في الثلث الأخير من الليل لقد عجبت كيف ينام الموكلون بفندق يأوي إليه الناس ساعات الليل وقلما يقفون عنده بالنهار؟! قال صاحبي: لا تعجب؛ فالفندق للحكومة والموكلون به عمالها، وهم يقتضون منها لذلك مرتبا لا يزيد بزيادة من ينزلونه ولا ينقص بنقصهم، وفتح الباب رجل عليه أمارات النوم، فلما عرف أمرنا جاء بمصباح ضئيل النور وتقدم يهدينا إلى غرف المنزل، وخطوت في أثره من الفضاء الذي كنا به بين جدران البناء وغرفه، ووسوست لي نفسي أن أرجع أدراجي وأن ألتمس تحت العراء مبيتا، أين هذا الهواء الطلق اللذيذ السائغ، هواء البادية الجاف الجميل، من هواء حبيس راكد بين الجدران؟! ولكني رأيت أحد أصحابي ينادي الخادم ليجيء بالطعام من «البكس»، وأحسست الجوع الشديد، فأهبت بالقوم أن يفتحوا نوافذ الغرف جميعا، ومددت بصري خلال نور المصباح إلى داخل الغرف فارتد يدعوني أن أهم بالعودة إلى العراء وهوائه الحر الطليق، فهذه الغرف الخالية من كل أثاث وفراش إلا من رمل لا شك أن رمل العراء أنقى منه، لا تشجع على المكث ولا على المبيت، لكن الجوع والجهد وما خافه أصحابي من أثر العراء في الصحة، كل ذلك ثناني عن تنفيذ ما أردت، قال أحدهم: لو أن معنا خيمة نضربها لكان الخير فيما تشير به، وشقادف الجمال تغني عن الخيام، أما وليس معنا هذا ولا ذاك «فالأوتيل» خير مكان لمبيتنا.
وتناولنا طعامنا، وفرشت سجادتي على حصير أكرمنا القوم بإحضاره، وأغفيت السويعة التي تفصل بيننا وبين الفجر، فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قمنا جميعا إلى فرض الله، ثم تناولنا الشاي وبعض الطعام وخرجنا إلى الفضاء الطلق ننعم فيه بالهواء الحر والنور الوليد، وألفينا أمامنا واديا فسيحا تكتنفه الجبال وقد انحط بطنه عن الفندق بضعة أمتار، فالفندق يقع منه على أكمة تتحكم فيه، ورآني رجل من أهل الفندق أميل منظاري المقرب أهبط به إلى بطن الوادي تارة وأرتفع به إلى أعلى الجبل أخرى، وسمع أثناء ذلك حديث صاحبي عما لقينا من عنت أصابنا به غوص السيارة في الرمل، فقال: إنها سيول هذا العام أفسدت الطريق وكان من قبل صالحا، فقد انهمرت وبلغ انهمارها حدا لا عهد لنا به مذ عرفنا الحياة، وكات من ذلك أن ارتفعت المياه في هذا الوادي حتى غمرت سيارة من سيارات اللوري فمات بها اثنا عشر من راكبيها، وأن بلغت هذا الفندق وكادت توهن جدرانه لولا متانة بنائه.
عجبت لما سمعت وقلت: «وماذا كان يفعل آباؤكم الأولون وقد كان هذا طريقهم من مكة إلى يثرب وإلى الشام؟»
Halaman tidak diketahui