صلى الله عليه وسلم
ممتطيا ناقته القصواء يتقدمهم ومن فوقه غمامة تظله ... رحماك ربي! ماذا عسى أن أصنع؟ أأتقدم من هذه الناقة وأمسك بخطامها وألتمس من الرسول الكريم دعوة صالحة تشفع لي عند ربي؟ أأجثو أمامه ضارعا إليه أن يبارك علي؟ أأسرع إلى قدمه فأمسك بها وأوسعها تقبيلا؟
جالت هذه الخواطر برأسي وأنا مضطرب النفس شارد اللب لا أكاد أعي أين أنا؟ ولا من أنا؟ ثم استجمعت كل قوتي ورفعت بصري فحدقت في معالم هذا الوجه، فإذا نور ينبعث من عينيه الوضاءتين، وابتسامة عذبة راضية تطوق ثغره الجميل، وإذا أذناي تسمع في وضوح وجلاء:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، وإذا هو يلتفت إلي ويقول ما كان يقوله لأصحابه إذ يقومون حين يقدم عليهم: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، ولا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله.»
وإذا أصحابه من حوله ينظرون إليه نظرة حب وإجلال وتقديس وإكبار، لكنها نظرة أخوة خالية من كل عبودية، ونظرة إسلام لله وما يوحيه إلى عبده ورسوله، لا ترى على سيما أحدهم مذلة، ولا تلمح في نظر الذين ينظرون إلى النبي وجلا أو خوفا، بل ترى محبة دونها كل محبة، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، لا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وهم يتسابقون إلى ذلك أمامه كما يتسابق الأبناء البررة إلى محبة أبيهم البر الرحيم، هم إذن لا يقبلون قدمه، ولا يفعلون شيئا مما يفعل الأعاجم الذين اعتادوا النظر إلى كسرى وإلى عماله كأنهم آلهة الشر يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، بل يحبونه كما يحب أحدهم نفسه وأهله، وأكثر مما يحب نفسه وأهله، هنالك تراجعت ووقفت أحدق في هذا الجمع حول الرسول وأنتظر ما عساهم يصنعون.
وبدت آيات الغضب على سيما بعضهم والتفكير في منازلة قريش حتى يحكم الله بينها وبينهم، أما الرسول فاستمسك بخطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش وتستبيح حرمة مدينة السلام، وترسل قريش رسلها فيحاولون صرف المسلمين بالحسنى عن دخول مكة، ثم يعودون وقد رأوا بأعينهم أن المسلمين إنما جاءوا زائرين للبيت معظمين لحرمته، ثم يحاولون إقناع قريش بأن يخلوا بين هؤلاء المسلمين والبيت العتيق.
ولم ترض قريش رأي رسلها، فبعث محمد إليها برسول من عنده ، فأساءت إليه وعقرت بعيره، ولم ييأس محمد مما صنعوا ، فبعث إليهم عثمان بن عفان يفاوضهم، وطال احتباس عثمان عن المسلمين، فظنوا أن قريشا غدرت به في الشهر الحرام عند المسلمين وعند العرب جميعا، ودخل في روع النبي ما دار بأخلاد القوم جميعا فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ونادى فيهم ليبايعوه على ذلك.
انظر إنهم يتزاحفون إليه يريد كل أن يسبق صاحبه إلى البيعة، لقد امتلأت نفوسهم حماسة ونظراتهم حدة وعزما، وهو واقف تحت الشجرة يتلقى بيعتهم مغتبط النفس مطمئن القلب مما يرى، ها هم أولاء فرغوا من البيعة، وها هو ذا يضرب بإحدى يديه على اليد الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم، والآن انصرف القوم ينظمون صفوفهم ويعدون للقتال عدتهم، يا لهم من جنود بواسل في سبيل الله! ما أعذب ابتسامة أبي بكر! وما أحد نظرة عمر! ما هذا؟ إنهم يحدقون إلى ناحية مكة كأنما يريدون أن يحرقوا أهلها بلهب نظراتهم، أم تراهم يلمحون عند الأفق شيئا أو شبحا؟ نعم! إنه رجل ... إنه عثمان بن عفان مقبلا، لم تقتله قريش إذن، بل هو يبلغ للنبي رسالتهم أنهم أيقنوا أنه وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظمين للبيت، وأنهم لا يملكون منع أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم، ولكن ما حدث من مناوشات بينهم وبينه يجعل العرب تتحدث إذا خلت قريش بينه وبين مكة بأن قريشا انهزموا أمامه، وفي هذا من تهوين أمرهم في نظر العرب ما لا طاقة لهم باحتماله، فليرجع المسلمون هذا العام وليعودوا عامهم المقبل، فلن تحول قريش بينهم وبين البيت.
ويرضى النبي عن سفارة عثمان، وتوفد قريش سهيل بن عمرو للمفاوضة وتدوين شروط الصلح، وتقع محادثات طويلة يغيظ بعض المسلمين أمرها، ويبلغ من ذلك أن يقول عمر بن الخطاب لأبي بكر: «علام نعطي الدنية في ديننا؟!» ويجيبه أبو بكر: «يا عمر، الزم غرزك؛ فإني أشهد أنه رسول الله.» ويجيب عمر: «وأنا أشهد أنه رسول الله.» وهو لا يرضى عما يرى، ويتم عهد الحديبية ويوقعه الرسول ، ويعود المسلمون منصرفين إلى المدينة وأكثرهم لهذا الصلح كارهون ، وإنهم لفي طريقهم إذ نزل الوحي على الرسول بقول الله - تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا
Halaman tidak diketahui