وهذه الرواية الأخيرة هي التي تذهب إلى أن عكاظا كانت بالسيل الكبير أو على مقربة منه، ولم أقم لهذه الرواية كبير وزن حين سمعتها بعد الذي رأيته من تعدد الروايات السابقة وتهافت بعضها، غير أن الشيخ صالح القزاز كان يبدي من الميل لتصديقها ما جعلني أتطلع لتحقيق أمرها، وزاد في تطلعي ما قصه علينا، والسيارة تنطلق متجهة إلى ناحية السيل، من أنباء ترامت إليه عن وجود آثار باقية يذكر الذين رووها بأنها أبلغ دلالة على عكاظ من كل رواية أو نبأ، وبلغنا مفرق عشيرة عند ديار القمثة على مقربة من السيل الصغير، وانحدرنا من ريع ذات عرق، فاحتوتنا الجبال في ذلك المضيق الذي أعاد إلى ذاكرتي جبال أبواب الحديد على نهر الدانوب، وفي المضيق لقينا قطيع من الإبل قيل: إنه للأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، وإنه يقصد نجد، وما كان أشد عجبنا أن تروع سيارتنا قطيع ولي العهد حتى ليلقي بعير منها براكبه أرضا، وطالما مررنا بقوافل يملكها رجال البدو فلم ترعها السيارة ولم تزعجها عن اتئاد مسيرها، قال صاحبي: «لعل هذه الإبل الناعمة بمراعي نجد والحجاز لم تعود من يمر بها مقتحما طريقها، فهي تفزع لمرأى من تحسبه يغير عليها، مثلها في ذلك مثل المترفين الذين لم يروا في الحياة عنتا فهم يضطربون لأيسر ما يفاجئهم منه.» وانفرجت الجبال عن السيل الكبير فتخطت السيارة إليه ووقفت في موقفها يوم مجيئنا من مكة إلى الطائف.
وتناولنا الشاي و«البسكوت»، ثم تناولنا شربة من ماء وجلسنا نتحدث، في حين أخذ السيد صالح القزاز يسأل عن موقع عكاظ القريب من هذا السيل، وبعد لأي دله القوم على عربي من بني سعد اسمه بادي ويقيم بالسيل، ووعدناه رزقا حسنا، فانطلق معنا يدل السائق على الطريق الذي يسير فيه، واستدرنا بالسيارة فيما وراء الجبل ثم اعتدلنا نقطع بطنا من الأرض كله حسك العشر وما إليه من شجر البادية، حتى خاف حسن أن يصيب السيارة من الحسك أذى، ووقفنا بإشارة بادي في موضع يقال له: «الخر» من واد يقال له: «غسلة» وراء جبل يسمى «دما»، وهبطنا من السيارة وسرنا خطوات وراء بادي، ثم وقفنا عند آثار بناء في تخوم الأرض مستوية مع سطحها يدل وجودها على وجود عمارة قديمة في المكان تتألف من ثماني غرف حسنة البناء ليست في شيء من منازل البدو، قال صاحبي بعد أن زرنا هذه الآثار: أشهد أني أميل إلى ترجيح قيام عكاظ بهذا المكان، وأحسب هذه الغرف الفسيحة كانت مقام سادة السوق، قلت: لعلك تبالغ إذ رجحت، وإن كنت أوثر أن تقوم هيئة علمية بحفريات تحقق بها تاريخ هذه الآثار والغرض الذي أنشئت له.
عدنا نقصد إلى مكة وأنا أفكر في هذه الآثار؛ فهي أول ما شهدت من نوعها في هذه البلاد، بنيت من الآجر ومن حجر أحمر جيء به من هذه الجبال المجاورة بناء يشهد ما بقي منه بإتقانه وحسن نظامه، ترى في أي عصر كان تشييده؟ وأي بطن من بطون العرب أقامه ها هنا حيث لا يمر اليوم أحد؟ إنه يرجح عندي قيام عكاظ بهذا المكان وإن لم يقم سندا علميا على هذا الترجيح، أم لعله رسم درس لمدينة قديمة عفت الأنباء على ذكرها وظلمها التاريخ بنسيانها!
بلغنا حرم مكة وهذه الأنباء عن عكاظ وتاريخها وموقعها تداعب خيالي، فلما تخطينا الشرائع وبلغنا مفرق الطريق إلى الجعرانة ذكرنا مجنة وذا المجاز، ولم أنس حين ذكرتهما قول الكلبي: «كانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنة وذي المجاز قائمة في الإسلام حينا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة.» أين كانت تقع إذن مجنة؟ وأين كان يقع ذو المجاز؟ نقل الأزرقي قول الكلبي: «ومجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي سوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة، وهي التي يقول فيها بلال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وشامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة، وذو المجاز سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريبة من كبكب على فرسخ من عرفة.»
سألت أصحابي عن مواقع هذين السوقين فيما نعرفه مما حول مكة، فلم يجدوا في تحديد موقع ذي المجاز مشقة، فهو على يمين الموقف من عرفة، وهو إذن في موضع سوق عرفة اليوم أو يكاد، أما مجنة فاختلف القوم في تحديدها، قال أحدهم: إنها تقع عند الجعرانة، وقال الآخر: إنها تقع فيما وراء التنعيم حيث الشهداء والزاهر اليوم.
Halaman tidak diketahui