وعكاظ من المواضع التي عفتها الثورات فصار من المتعذر تحقيق موضعها، وكل ما ترويه الكتب عنها أنها كانت تعقد في مكان بين نخلة والطائف، فأما موضع هذا المكان على التحقيق فيقع عليه اليوم خلاف عظيم وترد فيه روايات تزيد على الخمس، كما قدمنا، أفلا يستطيع الإنسان ترجيح واحدة من هذه الروايات على الأخرى؟ أو لا يستطيع أن يصل من ترجيحه إلى القطع بصحة رواية ونفي ما سواها؛ وبذلك يتسنى أن يقوم في هذا المكان أثر لعل إقامته تعيد إلى عكاظ مكانتها الأولى؟!
دار ذلك بخاطري حين مقامي بالطائف، وفكرت في القيام ببعض البحث أثناء عودي منها إلى مكة لعلي أهتدي إلى شيء تطمئن له النفس، لقد ذكروا أن عكاظا تقع بين نخلة والطائف على يوم من الطائف وثلاثة أيام من مكة، يجب إذن تقسيم الطريق أربعة أقسام، وأن يكون ما بين مكة وعكاظ منه ثلاثة أمثال ما بين الطائف وعكاظ، إذا صح هذا فقد وجب أن نستبعد القول: بأنها بوادي عقرب شرق الطائف بعد قليل من أم الحمض، فأم الحمض لا يزيد ما بينها وبين الطائف على خمسة عشر ميلا، والطريق من الطائف إلى مكة طوله مائة وثلاثون، فما بين الطائف وأم الحمض دون الثمن من الطريق، ومهما يبعد وادي عقرب عن أم الحمض، ووادي عقرب هو الذي يقولون: إن عكاظا كانت تقام به، فهو لا يبعد عنها خمسة أميال فنحن إذن لا نزال دون السدس من الطريق، وهذا المكان ليس بعد ملتقى لطرق القوافل من أنحاء شبه الجزيرة بما يدعو الإنسان إلى التجاوز عن الدقة في تقدير الأبعاد، فلنلتمس عكاظا إذن في مكان آخر بين نخلة والطائف.
ويجب أن نستبعد كذلك ما يقال من أن عكاظا كانت تعقد على حدود وادي ركبة عند اتصاله بوادي عشيرة، فالعشيرة لا تقع بين الطائف ومكة على الطريق الذي سلكنا أو على طريق غيره، بل تقع شمال الطائف على مسافة تزيد على ستين ميلا، وتقع شمال السيل الكبير الواقع على طريق ما بين مكة والطائف بنصف هذه المسافة، إذ يتوسط مفرق عشيرة الواقع في جوار السيل الكبير ما بين الطائف وعشيرة.
لاحظت ذلك كله على إحدى الخرائط التي أهداها إلي المستر فلبي يوم رحيلي من مكة إلى البادية، لكنني لاحظت كذلك أن عشيرة تقع على طريق نجد، وتقع على أحد طرق القوافل إلى المدينة حين اتجاه هذه القوافل إلى اودي العقيق بدل أن تتجه إلى ذي الحليفة أو إلى قباء، إذ ذاك أزمعت الذهاب إليها لعلي أرى عندها ما يرجح قيام عكاظ بها، وزاد في إغرائي بهذا الذهاب ما دونته كتب السيرة من أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
ذهب إلى العشيرة في إحدى غزواته، أما وقد عزمت على السير في أثر الرسول فلتكن العشيرة بعض ما أتجه إليه تنفيذا لهذا العزم.
وذكرت هذا السبب الآخر لصاحبي، فأبدى من الشك في ذهاب النبي إلى العشيرة ما أثار عجبي، فأنا جد واثق من ذهابه إليها في إحدى غزواته، ورجعت إلى كتب السيرة أحقق، فألفيتني غير مخطئ، وألفيت صاحبي غير مخطئ، لكنه مع ذلك أدنى إلى الحق مني، فقد ذهب النبي إلى العشيرة من بطن ينبع في السنة الثانية من الهجرة في أكثر من مائتين من المسلمين، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الثانية «أكتوبر سنة 633» ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته، وإن لم يفته أن وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة المقيمين على طريق التجارة بين مكة والشام، ليست هذه العشيرة إذن هي القريبة من الطائف والمتصلة بوادي ركبة، والتي يقال: إن عكاظا كانت تعقد عندها، وإنما هي من بطن ينبع على مقربة من البحر الأحمر؛ فشتان ما بينها وبين عشيرة وادي ركبة!
وشكرت لصاحبي ما أبدى من ريب كان له فضل رجوعي إلى كتب السيرة والأخبار، ولقد وقفت فيها على عشيرة أخرى ذكرها الأزرقي في آخر «تاريخ مكة» حين كلامه عن «شق مسفلة مكة الشامي وما فيه مما يعرف اسمه من المواضع والجبال والشعاب مما أحاط به الحرم»، فقد ذكر أن «العشيرة» حذاء أرض ابن أبي مليكة إذا جاوزت طرف الحديبية على يسار الطريق، فهذه العشيرة الثالثة مما يدخل إذن في حرم مكة، ولعل هذا الحوار بيني وبين صاحبي ما كان يقع لو أن العامية لم تجعل أهل الحجاز ينطقون العشيرة والعشيرة جميعا على أنها العشيرة، وهذا التشابه في الأسماء كثير في شبه الجزيرة، وأنت واجد وادي العقيق ببادية الطائف، وبهذه العشيرة الواقعة على مقربة منها، وبالمدينة، كما أنك واجد الاسم الواحد تشترك فيه أمكنة كثيرة غير العشيرة ووادي العقيق على نحو ما يشترك في الاسم الواحد أشخاص كثيرون.
لم يصدني ما عرفت أن العشيرة القريبة من الطائف ليست العشيرة التي نزلها النبي من ينبع عن عزم الذهاب إليها لتحقيق ما يقال عن قيام عكاظ عندها، فلما كنا عشية العود من الطائف إلى مكة اجتمعت كلمتنا على أن نسير بكرة الصباح من الطائف إلى العشيرة، ثم نرتد منها إلى السيل الكبير فالبهيتاء فاليمانية فالشرائع فمكة، والطريق إلى العشيرة هو بعينه الطريق إلى السيل الصغير، لكنه ينفصل عنه قبل الوصول إلى هذا السيل وبعد المرور بالمليساء ووادي لقيم وأم الحمض؛ لذلك أتيح لي حين اجتازت السيارة هذا الجزء من البادية صبح يوم الجمعة المتمم للعشرين من شهر مارس أن أرى هذا القدر من طريق الطائف، وكان الليل قد حجبه عني حين مجيئنا إليه، وأشهد أني لم أفد برؤيته شيئا جديدا.
ودعت الطائف ومن فيها، وانطلقت السيارة أثناءها يتبعها «البكس» فلم نر حولنا غير الوادي تقوم الجبال عن جانبيه عند مرمى النظر أكثر الأمر، والوادي خلاء أجرد قل أن تجد فيه للأشجار التي غرستها يد الإنسان أثرا، وطريق السيارة منخفض بعض الشيء متعرج لا يستقيم، فلما استوينا على طريق العشيرة استوى الوادي وانفسح واختفت الجبال كأنما ابتلعها الأفق، واخترقت أشعة الشمس الرقيقة هواء الصبح المنعش وانبسطت على البادية فكستها جميعا ضوءا ودفئا، والسيارة منبعثة في انطلاقها تطوي هذه المسافات المترامية من الأرض وليس يهدي سائقها الطريق أثناءها إلا حسه المرهف وعلمه بأنه يجب أن يسير دائما صوب الشمال في دروب من أثر دروب السيارات التي سبقته في هذا المهمه المترامي إلى ما وراء الخيال من آفاق النظر، واختلط الأمر على صاحبي لما رأى الدرب يتشعب أمامه طريقين، يتيامن أحدهما ويظل الآخر في استقامة انطلاقه، وأشار على السائق أن يتيامن، لكن الشيخ صالح القزاز أمره أن يتابع الدرب المستقيم، واتبع السائق مشورة الشيخ صالح؛ لأنه أدرى بدروب هذه المنطقة، ولأن السائق يذكر يوما منذ سنوات سار فيه في هذا الطريق إلى عشيرة ولم يتيامن.
Halaman tidak diketahui