ثقافة الجماهير
«ثقافة الجماهير» عبارة تتردد على الألسنة والأقلام، وترصد من أجلها الأموال، وتقام الإدارات وتخطط المشروعات، كأنما هي عبارة محددة المعنى لا اختلاف على مدلولها، وإنني لأشهد بأنني إذ حصرت ذهني في مفهومها لأرسم لنفسي حدودها، ألفيتها من تلك العبارات المبهمة المراوغة التي لا تكاد تمسك من حقيقتها بطرف حتى يفلت منك طرف آخر، ولكن تحديد ما نريده بهذه العبارة أمر لا مفر منه، وإذا لم يكن مثل هذا التحديد الحاسم لمعناها ممكنا، فلا أقل من الوصول به إلى درجة من التقريب، تتناسب مع أهميتها وخطورتها، حتى نبذل الجهود في سبيلها ونحن على شيء من الهدى.
وأولى المشاكل التي تعترضك في هذا الصدد، هي هذه: أنريد بثقافة الجماهير شيئا خاصا نوجهه إلى أكثرية الشعب التي لم تظفر بحظ موفور من التعليم المدرسي وما يشبهه، أم نريد بها تلك الثقافة التي تتمتع بها الأقلية المتعلمة نفسها، وكل ما علينا عندئذ هو أن نشق لها قنوات التوصيل التي توصلها إلى جمهرة الناس في حقولهم ومصانعهم وبيوتهم، بعد أن كانت تلك القنوات مسدودة مقفلة دونهم؟! بعبارة أخرى ربما كانت أوضح، هل نجعل بين أيدينا ثقافتين؛ أحداهما للقلة المتعلمة، والأخرى لجمهور الناس، أم نجعل بين أيدينا ثقافة واحدة هي التي تظفر بها الأقلية في مراحل تعلمها، وهي نفسها كذلك التي نوجهها - مع اختلاف في الأسلوب - نحو الجماهير؟
وإجابتي السريعة عن هذا السؤال، هي أن فكرة الثقافتين مرفوضة من الوجهة النظرية ومن الوجهة العملية على السواء؛ فمن الوجهة النظرية نريد رأيا عاما موحدا في مزاجه وفي منحاه، وإن لم يكن موحدا في تفصيلات أفراده، ومثل هذا الرأي العام الموحد المتجانس لا ينتج لنا إلا ثقافة واحدة، ومن الوجهة العملية لا يعقل أن يكتب الأدباء قصصا ومسرحيات للقلة، وقصصا أخرى ومسرحيات أخرى للكثرة، ولا يعقل أن يرسم الفنان أو أن ينحت المثال صورا وتماثيل للقلة، وأخرى للكثرة، وقل شيئا كهذا في سائر العناصر التي تتكون منها البنية الثقافية.
تلك إذن مسألة تعترضك في أول الطريق، وتجيء بعدها مسألة أخرى تتصل بالجانب أو الجوانب التي قد نقصد إليها عندما نتحدث عن «ثقافة الجماهير»؛ فربما كان البناء الثقافي واحدا للقلة وللكثرة معا، غير أن لكل منهما جوانب خاصة يقتصر عليها في حياته الثقافية؛ ذلك أننا نستطيع أن نتصور للبناء الثقافي الواحد أربعة جوانب على الأقل: أحدها هو المهنة التي ينتهي إليها التعليم والتدريب، وثانيها هو الإحاطة بحقيقة ما يجري من الأحداث، وهو ما يسمى بالإعلام، وثالثها هو المتعة الفنية التي نصيبها من مطالعة الفن والأدب، ورابعها هو الإحساس العام بالقيم. فهل نريد للجماهير بعض هذه الجوانب دون بعض، أم نريد لهم أن يظفروا من كل هذه الجوانب بنصيب لتجيء الحصيلة منسقة متكاملة ؟ كأن نزيد الفلاح - مثلا - تدريبا على الفلاحة المؤسسة على العلم، ثم نزوده في أوقات فراغه بمعلومات عما يجري حوله من أحداث، ونقدم له من وسائط الفن من سينما ومسرح ومعارض نحت وتصوير ما يرهف ذوقه الفني، ونعمل من خلال ذلك كله على أن نبث في نفسه إحساسا بالقيم العليا التي يراد له أن يعيش على منوالها، لو كان
الشعب - قلة وكثرة على السواء - يلتقون على ساحات ثقافية واحدة، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك إلا في الدرجة وحدها.
على أنه لا ينبغي، لاختلاف الدرجة بين أبناء الشعب الواحد، أن ينقص من قوة وحدته الثقافية، فمن هذه الوحدة يأتلف الشعب في وجهة نظر واحدة، في إحساس واحد، في مجموعة من القيم واحدة، ومثل هذه الوحدة هو الذي تفجرت به روح الشعب في حرب أكتوبر، فأين - إذن - يكون الملتقى الذي يلتقي عنده الجميع، برغم ما يختلفون فيه من ارتفاع الدرجة الثقافية أو انخفاضها؟ إن هذا الملتقى لا يكون - بالطبع - في نوع المهنة أو في طرائق الحياة الخاصة التي قد يتميز بها فرد عن فرد، وأسرة عن أسرة، بل يكون الملتقى عند نقطة الوعي بمعنى الحياة التي نعيشها؛ فقد يحيا الإنسان حياته على دروب مكررة مألوفة، كما يفعل النحل أو النمل في مسالك حياته، وعندئذ يكون إنسانا بلا «ثقافة»، برغم أنه إنسان عامل ومنتج، وإنما يكتسب صفته الثقافية في اللحظة التي ينتقل عندها من الحركة الآلية إلى إدراك هدفها وما تنطوي عليه من معان وقيم ومبادئ. الثقافة هي الفرق بين مجرد الوجود - حتى وإن كان وجودا مليئا بالعمل، لكنه لا يعي قيمه وأهدافه - وبين الوجود الواعي بهذه القيم والأهداف.
ف «ثقافة الجماهير»، أو إن شئت فقل «تثقيف الجماهير»، هو أن نطلع الناس على أشياء من شأنها آخر الأمر أن تبين لهم على أي المبادئ نسير، وإلى أي الأهداف نتجه، بشرط أن يجيء ذلك كله إخراجا لما استقر في نفوسهم هم من آمال ولم يستطيعوا التعبير عنه، فجاءتهم القلة القادرة - وهي منهم - بمثل ذلك التعبير، في قصة وفي مسرحية، وفي شعر وفن، وفي قطعة من التاريخ تروى، وفي فكرة تضيء الطريق.
فهل هذا هو ما نصنعه فيما نسميه «ثقافة الجماهير»؟ إن الانطباع العام الذي أمكنني استخلاصه من كل ما أراه وما أسمعه، هو أن تلك «الجماهير» تتلقى ما تتلقاه وهي على شعور - في أغلب الحالات - بأنها تتلقى ما هو أقرب إلى الوعظ منه إلى التعبير الصادق عما تحسه في بواطن نفوسها؛ وبذلك تضيع الثمرة، ولا يبقى سوى الأعواد الجافة التي سرعان ما تتحول إلى هشيم، ولو كانت العلاقة وثيقة وحميمة بين السامع وما يسمعه، أو بين الرائي وما يراه، لتحول إدراكه لما سمع وما رأى إلى سلوك يغير به حياته على الوجه الذي نريد له أن يتغير، لكننا نلحظ فقدان الرابطة بين الإدراك والسلوك؛ فالمادة الثقافية المعروضة تذهب مع الريح، وتظل حياة الناس العملية سائرة على دروبها، وإلى أن يتغير هذا السلوك وفق المادة الثقافية المعروضة، لا يحق لنا حديث عن «ثقافة الجماهير».
أهي نكسة ثقافية؟
Halaman tidak diketahui