وقد تسألني أن أدلك على أطراف من هذه المهارات والشطارات، لعلك مجربها ذات يوم؛ فتقفز إلى ذهني مقالة قصيرة لفرانسيس بيكون، طولها صفحة ونصف صفحة من القطع الصغير، عنوانها «تظاهر الناس بالحكمة»، ألخصها لك قبل أن أضيف إليها حصيلة خبرتي.
يقول هذا الفيلسوف الأديب: لقد قيل إن الفرنسيين أحكم في حقيقتهم مما يبدون، وإن الإسبانيين يبدون أحكم مما هم على حقيقتهم، ومهما يكن من أمر بالنسبة إلى الأمم، فليس من شك في أن الظاهرة قائمة بين أفراد الناس، فهنالك منهم من هو أحكم مما يبدو، وهنالك من يبدو أحكم مما هو، فمن الناس من لا يفعل شيئا قط، أو قل إنه يفعل قليلا، لكنه يخلع على نفسه وقارا يوهم بأنه ذو حكمة وكفاية. وإنه لمما يدعو إلى الضحك، بل إلى السخرية، أن ننظر إلى الحيل التي يركن إليها هؤلاء «السطحيون» ليكسبوا «سطحيتهم» هذه تجسيما وعمقا؛ فمنهم من يلجأ إلى الصمت والتحفظ، كأنما هم حريصون على ألا يظهروا بضاعتهم النفيسة إلا في جنح الظلام، وهم إذا تكلموا فإنما يحرصون على إيهامك بأنهم لم يقولوا كل ما في صدورهم، وقد يعلمون في دخيلة أنفسهم أنهم قليلو المعرفة بما يحدثونك عنه، لكنهم عندئذ يظهرون كما لوكان هو القصور في التعبير عما يريدون التعبير عنه.
ومنهم طائفة تلجأ إلى ملامح وجوههم وقسماتها، فيجعلون من أنفسهم حكماء بالإشارات الجسدية، لا بالحصيلة العلمية، كما قال شيشرون عن بيزون، إنه حين أراد أن يجيبه عن سؤاله (سؤال شيشرون) رفع أحد حاجبيه إلى جبهته وخفض الآخر إلى ذقنه. ومنهم طائفة تعالج المشكلة بلفظة ضخمة تنطق بها، أو بلباقة في الكلام وذرابة في اللسان، ويحدثونك عن أشياء يفرضون أنها حقائق مسلم بها، لا لأنها كذلك، بل لأنهم لا يعرفون كيف يقيمون عليها البرهان. وطائفة أخرى منهم تستخف بما لا تستطيع الوصول إليه، فيقلبون جهلهم مقدرة على الحكم! وطائفة تحاول ستر الجهل بستار من محاولة التفرقة بين الأشياء تفرقات كثيرا ما تنتهي بهم إلى موقف سلبي ينحصر في إثارة المشكلات، بدل أن يتقدموا بحلول للمشكلات.
تلك خلاصة وافية ومشروحة للعبارة المركزة التي استخدمها فرانسيس بيكون في مقالته التي حدثتك عنها، وقد سألتني: على أية صور تجيء مهارات القوم وشطاراتهم في كسبهم للصيت بالعلم وهم خلو منه؟ فأردت هدايتك بهذا التصنيف الذي أجراه ذلك الفيلسوف الأديب: الصمت الذي يوهم بأن وراءه أعماقا، والإشارة بالملامح والجوارح، والزعم بأنه يعرف لكن يخونه التعبير، والتستر بضخام الألفاظ، وادعاء الدقة التي تفرق بين المتشابهات، فإذا هو ادعاء يثير المشكلات ولا يحلها.
ولماذا لا أستميح القارئ عذرا، فأنقل إليه صفحة كتبتها سنة 1946م، ونشرتها عندئذ في كتاب صغير ذهبت به الأيام إلى أنقاض الذكريات، فلابد أن أكون يومئذ قد ضقت صدرا بتلك المهارات والشطارات التي عجزت عن تحصيلها، فلجأت إلى أيسر الطريقين، وأيسر الطريقين هو العمل، فكتبت أقول في سياق من الحديث: ... أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون، والمعلمون أحيانا يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون، فأوصونا أن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم، وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته؛ فكلاهما في أعينهم لامع لألاء. وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف، أما إن أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»، فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار». قال مكيافلي لأميره ناصحا: ليس المهم أن تكون رحيما بشعبك، إنما المهم أن يقال عنك إنك رحيم، فاقس ما شئت، وابطش بمن شئت، لكن ليكن لك في ذلك فن يخدع الناس عن حقيقة نفسك، فإذا أنت في ظنهم الأمير الذي يحنو على البائس ويعطف على المحروم. ألقى مكيافلي درسه على أميره، وكان درسا في سياسة الملك، فلقفه من فمه أصحاب الفطنة وجعلوه دستور الحياة؛ فليس المهم أن تكون ذا علم، وإنما المهم أن يعدك الناس بين العلماء، وكم من رجل رأيته يتربع على كرسيه رزينا رصينا، وعلى وجهه مخايل العلم والحكمة، وقد علق فوق رأسه قيثارة فخمة ضخمة مشدودة الأوتار، فتأتي إلهة الشهرة فتربت على كتفه وتمضي فخورة بابنها النجيب، ولا تني تنشر ذكره في طول البلاد وعرضها؛ لأنه «لو» عزف لكان خير العازفين؛ فلئن جمدت الألحان على أوتار قيثارته الآن، فما أيسر عليه أن يهذبها نغما شجيا طروبا إن أراد. وقد ضقت بغفلتها ذات يوم، فصحت بها: يا إلهة الشهرة لا تصدقيهم؛ إنهم لا يعزفون لأنهم لا يعرفون، لكنها ازورت عني وأدارت إلى قولي أذنا صماء، وما أكثر ما تحرج أولئك الإلهات صدري؛ لأنهن ينخدعن كما ينخدع البشر.
وحاشاي أن أقيس قولي إلى قول بيكون؛ فهذا قوله عقل هادئ، وأما قولي فوجدان ثائر، لكنني كنت بصدد المهارات والشطارات التي تغني أصحابها بالصيت في دنيا الثقافة والفكر، فتواردت الخواطر، ولو كان بيكون في مقالته القصيرة عن التظاهر بالحكمة ملما بالعربية العامية، لأضاف صنوفا أخرى إلى الطوائف التي ذكرها، ف «الفهلوة» و«الدردحة» كلمتان عاميتان معبرتان ودالتان على طرق موصلة إلى الصيت الذي يفضل الغنى، ولست أدعي القدرة على تحديدهما، لكنهما من قوة التعبير بما يغني عن التحديد، لكني أقول إن الفهلوة والدردحة في حياتنا الثقافية قد لا تكونان ذا أثر مباشر أحيانا - وأن تكونا مباشرتين في التأثير أحيانا أخرى - فبالفهلوة والدردحة قد تظفر بمنصب علمي مرموق، وعن طريق المنصب يأتيك الصيت بالعلم الغزير، أو قل إن غزارته تتفاوت في الدرجة بتفاوت ارتفاع المنصب في راتبه ونفوذه؛ فالوكيل أقل علما من المدير، والباحث من عامة الباحثين أقل علما من الوكيل، وهلم جرا. وهل يعقل - مثلا - إذا رشحنا لجوائز الدولة العلمية أن نسمح للباحث بالسبق على الوكيل، أو للوكيل بالسبق على المدير، أو إذا اخترنا أعضاء المجامع العلمية أو اللغوية أن نسمح للعالم اللغوي السبق على الوزير؟ تلك قاعدة مقررة كقواعد الجمع والطرح في علم الحساب، وهي أن يكون الاعتراف بعلمك على قدر العلو بمنصبك، وهي قاعدة لا يتنكر لها إلا العاجزون في مسالك الفهلوة والدردحة، ويريدون أن يروا في العنب - بمنظار عجزهم - حصرما.
تلك إذن هي الطريقة غير المباشرة لتأثير الفهلوة والدردحة في دنيا العلم والثقافة ، لكن لهما كذلك طريقة مباشرة؛ فبهما تعرف كيف تكتب ولا تقرأ؛ فلقد لبثت القراءة والكتابة مقرونتين في أذهاننا منذ عهد الكتاتيب، وربما تظلان مقترنتين في أذهان أولئك الذين أراد لهم عجزهم ألا يتقدموا مع الزمن، أما القادرون بالفهلوة والدردحة ففي وسعهم أن يفكوا هذا القيد السخيف الذي ربط القراءة إلى الكتابة، واستطاعوا أن يجعلوا الكتابة وحدها والقراءة وحدها، بحيث يجوز اختيار الأولى بغير الثانية، ولو اعترض عليهم عاجز، لأفحموه بأن الكتابة الحق إنما تغترف من الحياة لا من الكتب، وهي في الحق حجة لا أدري كيف أدحضها.
ومن الطرق المباشرة أيضا للفهلوة والدردحة أن تعرف من ذا تصاحب ومن ذا تجالس؛ فقل لي مع من تقضي فراغك وأين تقضيه، أقل لك ما تستحقه من درجات الصيت بالعلم والثقافة. وكان الجاهلون قبل ذلك يظنون أن درجات العلم والثقافة مرهونة بالجواب عن سؤال يسأل: من ذا تقرأ له وكيف تقرؤه؟ وقد فاتهم هذا الفارق الفسيح بين حيوية الحديث في ساعات السمر، وجمود المادة المقروءة تحت أضواء المصابيح. الأولى حياة، والثانية موت. الأولى حركة، والثانية سكون. الأولى وصول، والثانية قعود.
ولله في خلقه شئون.
شمشون العصر ودليلته
Halaman tidak diketahui