هكذا يكون الأدب الرفيع تربية للقارئ في فهمه لنفسه (ويكون الأدب الرديء تربية له في سوء فهمه لنفسه)، فلئن كان داعية الأخلاق يغري الناس أن يأتوا الفضيلة ويجتنبوا الرذيلة، فالأديب الحق يفتح أعيننا على منابع الفضيلة والرذيلة في أنفسنا. على أنك تستطيع أن تقول إن الأديب الحق بفتحه لأعيننا على حقائق النفس كما هي واقعة، فهو إنما يفعل خيرا بأكمل معاني هذه الكلمة؛ لأن مجرد وعي الإنسان بما هو حق هو في ذاته خير، لا سيما إن نتج عن هذا الوعي تطوير لشخصيته، وتعميق لإدراكه، وتسديد لخطاه.
الأدب الرفيع محايد، يلقي الضوء على جوانب الخير والشر معا، يصور العبقري والأبله على السواء؛ فهو كالشمس تشرق على الأشياء بغير تمييز. وخذ مسرحية من مسرحيات شيكسبير، خذ مثلا مسرحية «ترويلس وكرسيدا» تجد حشدا من الأشخاص مختلفي النزعة ، فلا تدري أيهم يلقى القبول عند الشاعر وأيهم يثير فيه السخط؛ أهو ترويلس العاطفي الساذج، أم هو هكتور الفارس الأريحي، أم هو يولسيز الواضح الفكر والخبير بشئون الحياة، أم هي كاسندرا التي ترى الكون مليئا بالقسوة خاليا من الرحمة، تسيره دوافع القدر الذي لا يعبأ بالقيم، أم هما هلين وكرسيدا اللتان كانتا في ربيع الحياة فلم تريا في الكون إلا الحب؟ إن شيكسبير لا ينصر أحدا على أحد في وجهة نظره، ولا ينتهي إلى حكم يقول فيه إن هذا أصاب وذلك أخطأ؛ لأنه لم يكتب ليدعو إلى شيء، إنما كتب ليكون شاعرا؛ أي ليرتاد ويستكشف ويسجل في حياد ما هو كائن. إنه لا ينادي بما ينبغي أن يكون، ولا يحاول إغراء القارئ بقبول هذا دون ذاك من ضروب الفعل الإنساني؛ إذ يكفيه أن يضع أمام أبصارنا ما قد لاحظه في نفسه، ونتائج تحليلاته للذات الإنسانية، ثم يتركنا أحرارا فنتولى تربية أنفسنا على ضوء ما قد عرفناه من أسرار النفس البشرية بالطريقة التي نريد.
ولكن ماذا نعني بقولنا إن الأديب هو ذلك الذي يخبر ذات نفسه ليراها على حقيقتها؟ إننا نعني بذلك أنه يغوص إلى ما هو كائن تحت مستوى التعبير اللفظي؛ فهنالك دائما حالات لم تجد بعد طريقها من عالم اللالفظ - وهو ما قد يسمى باللاشعور - إلى اللفظ، وهو عالم الوعي والشعور الذي ندركه بالعقل، والذي نصوغ مدركاته وتصوراته بألفاظ محددة المعنى إلى حد كبير. ولما كان اللفظ هو الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن نخرج ما هو دفين في النفس البشرية، كان لا بد للأديب من أن يتصيد العبارة الدقيقة التي تلائم الحالة التي عثر عليها كامنة بين جوانحه، وإنها لحالة تتصف بكثير من اللطافة وانبهاهم الحدود؛ ولذلك كانت مهمة الأديب في صياغتها لفظا مهمة عسيرة. فنحن لا نحتاج إلى قصاص أو إلى شاعر ليخبرنا كيف يكون الشعور بوجع الضرس، وكيف يكون شعورنا بالخوف إذا ما دهمنا وحش كاسر في الفلاة؛ لأنها حالات قد تكون مما يعيه العقل الواعي ، ومما يسهل وجود اللفظ الذي يعبر عنه، لكننا بحاجة إلى القصاص وإلى الشاعر ليعبر لنا باللفظ عن الحالات التي هي أكثر تعقدا وأقل وضوحا، كحالة الحب - مثلا - أو حالات الخجل والإحساس بالذنب؛ فتلك حالات ذات أضواء وظلال لطيفة، ولا بد لنا من أديب نافذ البصيرة ليفتح أعيننا على حقيقة انفعالاتنا في حالات الخبرات المبهمة الغامضة؛ فما أكثر ما تكون الدوافع النفسية عندنا أخلاطا عجيبة بين المشاعر المتناقضة، فيختلط شعورنا بالرأفة بشعورنا بالنفور، ويختلط الإعجاب بالحقد أو الحسد، ويختلط الحب بالكراهية، ولا أحد سوى الأديب يستطيع أن يحل هذا المركب المعقد، حتى إذا ما بسط خيوطه أمامنا جاءت عبارته وكأنها المفتاح الذي يفتح لنا مجاهل الجانب اللاشعوري اللالفظي من أعماق النفس، وليس المقصود بمعرفة الإنسان لنفسه إلا معرفة هذا الجانب اللالفظي العميق. على أن الطريق إلى الجانب اللالفظي هو اللفظ، ولكن ذلك لا يكون إلا على أيدي الأدباء.
هكذا يعيننا الأدب على إدراك أنفسنا وفهم خبراتنا، لكننا لا بد أن نتنبه إلى أن خبرات النفس هذه إنما تتوقف إلى حد ما على بنية الشخص الخابر ومزاجه الموروثين وإلى حد ما على طبيعة البيئة التي تحيط به؛ فرجل قوي البنية لا يخبر الحياة من حوله كما يخبرها رجل ضعيف البنية، والمتفائل الضحوك لا يتأثر بما حوله كما يتأثر به المتشائم العابس؛ وإذن فالحياة تؤثر في الأدب بتأثيرها أولا في أشخاص الأدباء الذين ينتجون ذلك الأدب، وهؤلاء الأدباء إنما يستجيبون للضغوط والمثيرات المحيطة بهم؛ ولذلك فلا يجمل بنا أن نعمم القول عن «الأدب المعاصر» وعن «الحياة المعاصرة» كأنما هذه أو ذلك كل واحد متجانس؛ فالأدباء في مجتمعاتنا «أفراد»، ولكل فرد منهم خصائصه الفريدة؛ وبالتالي فله طرقه الخاصة في الاستجابة للحياة التي تحيط به.
وبهذا الحذر فلنتحدث عن الطرق التي تؤثر بها البيئة المعاصرة المتغيرة على الأدب المعاصر.
فما هي الخبرات الجديدة المفروضة علينا بحكم البيئة الجديدة التي نعيش فيها اليوم؟ ها هي ذي بعض النتائج السيكولوجية التي ترتبت على كون الإنسان يعيش في القرن العشرين، لا في القرن الثامن عشر مثلا، وأولها: الحالة النفسية التي نتجت عن كون الإنسان معاصرا للقنبلة الهيدروجينية ، ومعاصرا للحرب الباردة؛ فالنفس يملؤها قلق مبهم مقيم، يصاحبه عادة إحساس بعبث الحياة، وانعدام المسوغ لبذل الجهد وللتدبر وللطموح في عالم قد يباغته الدمار.
وثانيتها: هي الحالة النفسية التي نتجت عن كون الإنسان معاصرا لطرائق الإنتاج والتوزيع على النطاق الواسع في عالم الصناعة الحديث؛ فكل تقدم في التقنيات (الوسائل الفنية) يسايره حتما تقدم مماثل في التنظيم الاجتماعي، وإن جوانب كثيرة من النظم الاجتماعية الحديثة قد وجدت أولا لتلائم طرائق الإنتاج والتوزيع الحديثين، وكان على الإنسان بعدئذ أن يوائم بين نفسه وبينها؛ ولذلك فإن الشعور النفسي عند الفرد بقلة حيلته وضعف حوله - من حيث هو شخص واحد فرد - يزداد اتساعا وعمقا.
وثالثتها: هي الحالة النفسية التي نتجت عن زيادة سكان العالم زيادة كبيرة مفاجئة؛ فقد كان سكان العالم في القرن الأول الميلادي يقدرون بمائتين وخمسين مليونا، ثم ضوعف هذا العدد في ستة عشر قرنا، على حين أن عدد السكان اليوم - وهو ثلاثة آلاف مليون نسمة - يقدر له أن يضاعف في أربعين عاما فقط، وترتب على هذا التفجر البشري الهائل نمو فظيع في كبريات المدن؛ ومعنى ذلك أن عددا كبيرا من الناس أصبحوا يعيشون في بيئة حضرية بعد أن كان العدد الأكبر من أسلافنا يعيشون في بيئة ريفية طبيعية، وكان من نتائج ذلك أن ملايين وملايين من أطفالنا لا يعلمون شيئا عن الطبيعة؛ لا يعرفون كيف يكون القمح في حقوله، ولا كيف تكون شجرة الفاكهة، بل إن ملايين منهم لم يروا في حياتهم بقرة إلا في الصور.
فما النتائج النفسية لهذا كله؟ أولا: تضيق دائرة الخبرة بالطبيعة ضيقا شديدا. وثانيا: يفقد الإنسان شعوره بالانتماء، فيحس بالضياع؛ لأنه دائما في زحمة المدن بغير روابط عميقة الجذور؛ ولذا فهو يحس بالعزلة رغم تكاثر الناس من حوله. وثالثا: قد يضطر الإنسان إلى ضبط النسل ليحد من زيادة السكان؛ فعلى مر الزمن ينفصل الحب بين الجنسين عن عملية الإنسال؛ ولذلك فقد تتغير وتتحول الخبرة النفسية بين الجنسين التي كانت معينا لأدب ذي طابع خاص، وقد يكون التغير إلى أحسن، ولكنه تغير على كل حال.
كل هذه النتائج لا بد من ارتيادها، والكشف عن خفاياها النفسية، ثم تحويلها إلى أدب؛ فالحياة الحديثة تؤثر في صانعي الأدب، ثم يجيء الأدب الحديث بدوره فيعين قراءه على تبين ما لم يكونوا يتبينونه من عوامل القلق، والإحساس بالعبث، وضعف الحيلة بالنسبة للفرد الواحد، والشعور بالمرارة تبعا لذلك، وانعدام الروابط الانتمائية، والشعور بالعزلة رغم تكاثر الناس. •••
Halaman tidak diketahui