2
من السمات الملحوظة في تاريخ الفكر أن الأفكار النظرية وتنفيذها العملي يتناوبان الظهور؛ ففترة طابعها الغالب هو الإنتاج الفكري، وفترة تليها يكون طابعها تحويل ذلك الفكر إلى عمل وفاعلية ونشاط. ويقول «بريستلي» إن القرن التاسع عشر في أوروبا هو الذي خلق الأفكار التي تناولها هذا القرن العشرون بالشرح والبسط والتحليل والنقد، فشاعت هذه الأفكار شيوعا جعلها جزءا أصيلا من الحياة العملية كما يعيشها الناس.
ونستطيع من ناحيتنا أن نقول قولا كهذا عن تعاقب فترات الفكر والعمل في إقليمنا العربي، فانظر إلى هذه التواريخ الآتية: 1798م، 1882م، 1919م ، 1952م. انظر إليها في تاريخنا الحديث تجدها كمعالم الطريق، تفصل فترات من الزمن تتوالى فيها التعبئة الفكرية والتطبيق العملي؛ فثورة عرابي عام 1882م هي الفعل الذي استمد قوته من الشحنة الفكرية التي امتلأت بها العقول منذ قدوم الحملة الفرنسية سنة 1798م، وثورة عام 1919م هي الفعل الذي أخرج الشحنة الفكرية التي اعتملت في نفوس الناس منذ الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، ثم ثورة عام 1952م هي التعبير بالعمل عما اختزنته الصدور في الفترة السابقة عليها.
وأول ما يلاحظه «بريستلي» على خصائص عصرنا هذا من الناحية الفكرية، هو أن الأساس الفلسفي الذي نبني عليه في مجال الأدب وغيره من مجالات التعبير، لم يكن - على وجه الإجمال - من نتاج هذا القرن، بل كان وليد القرن التاسع عشر، بمن شهدهم من أعلام الفلاسفة: «هيجل» و«شوبنهور»، و«نيتشه».
وإن هذا ليصدق علينا - في الشرق العربي - بصورة أوضح وأجلى؛ فليس في أبناء القرن العشرين رجل واحد تستطيع أن تقول عنه إنه قد أنتج في الفلسفة إنتاجا أصيلا، بحيث يصادف عند الناس استجابة الرضا لما يجدونه فيه من إشباع لحاجاتهم، فلم يكن أمام أدبائنا بد من الارتداد إلى فلاسفة الماضي؛ فحركة النقل الفلسفي - بالترجمة عن الغرب وبالنشر عن المسلمين الأولين - قد اشتدت حتى أصبحت الأفكار الفلسفية في متناول الأدباء، حتى الأوساط من بينهم، على أن بيننا وبين الغرب اختلافا جوهريا في هذا المجال؛ فبينما أدباؤهم يجترون فلسفة القرن التاسع عشر عندهم، فإن أدباءنا قد وجدوا أنفسهم إزاء فلسفتين؛ إحداهما نقلت إليهم عن الغرب قديمه وحديثه، والأخرى نشرت عليهم من تراث العرب الأقدمين، فكان من أثر ذلك أن ازدوجت صورة الإنسان الحديث عندنا، على حين لم تزدوج هذه الصورة عندهم، فأصبح للأدب عندنا وجهان: وجه يساير الملامح الأوروبية، وآخر يستقي من الماضي العربي، وهنالك بطبيعة الحال من تمتزج في أدبه الصورتان معا. فمن الطراز الأول «توفيق الحكيم» و«محمود تيمور» و«نجيب محفوظ»، ومن الطراز الثاني «الرافعي» و«البشري» و«الزيات»، ومن الطراز الذي جمع بين الصورتين في أدب واحد «طه حسين» و«العقاد».
كانت فكرة التطور من بين الأفكار الرئيسية التي أنتجها القرن التاسع عشر، فتسربت منه إلى أدب القرن العشرين - في الغرب بصفة أصيلة وعندنا بنسبة أقل - لا سيما إذا نظرنا إلى فكرة التطور كما جاءت في فلسفة «برجسون» - بمعنى وجود دافع حيوي خلاق يدفع الكون إلى غاية، لا بمعنى الانتخاب الطبيعي الذي يجيء نتيجة لظروف عمياء - والحق أن برجسون وإن لم يكن ذا اتباع في المجال الفلسفي الصرف، فهو عميق الأثر في أدباء هذا القرن؛ فكثيرون هم الأدباء الذين يديرون أدبهم حول مبدأ حيوي يسدد خطى العالم في تطوره، من هؤلاء - مثلا - «جورج سورل» في فرنسا، و«برنارد شو» في إنجلترا، ولا حاجة بنا إلى القول بأن أدباءنا في الشرق العربي يصدرون عن مبدأ كهذا؛ لا لأنهم على علم بفلسفة «برجسون» فحسب (وقد كتب عن برجسون في العربية كثيرا حتى شاع العلم به)، بل لأنهم أساسا يصدرون عن عقيدة دينية تضع القصد والتدبير مكان المصادفة العشواء.
وإذا قلنا إن فكرة التطور أساسية في أدب هذا العصر (ومن أهم من يرجع إليهم الفضل في شيوعها عندنا سلامة موسى وإسماعيل مظهر)، فقد قلنا بالتالي إن العالم كما يتصوره الإنسان الحديث - عندهم بصفة جوهرية وعندنا بنسبة أقل - هو عالم في صيرورة دائبة، وليس هو بالعالم السكوني الجامد، فتيار التغير دافق سيال، وليس هناك من وضع معين يجوز أن يقال عنه - كما كان يقال في العصور السابقة - إنه هو الوضع الطبيعي للأمور، خصوصا فيما يتصل بالأوضاع الاجتماعية للإنسان، والوسيلة التي في مستطاعك أن تدرك بها حقيقة هذا التيار الدافق من مجرى الحياة، ليست هي أن تنظر إلى الأشياء بحواسك، ولا هي أن تنظر إليها بعقلك المنطقي الذي من طبيعته أن يجزئ الأشياء ويحللها، بل الوسيلة الصحيحة للإدراك هي وسيلة المتصوف، وأعني بها الاتصال المباشر بالحقيقة المدركة، فانظر إلى نفسك من داخل تجدها تيارا متدفقا ناميا متطورا، فما حاجتك بعد ذلك إلى حاسة أو إلى عقل تقيم به البرهان؟
لكن إن صدق هذا فالأمر جد خطير في تصورنا للإنسان وفي تصويرنا له؛ لأننا عندئذ سنتصوره وسنصوره كائنا لا يهتدي في حياته ب «العقل»، بل يسترشد بملكة أخرى، هي «الحدس الصادق» - كما يسميه الفلاسفة - وهو أقرب شيء إلى غريزة الحيوان بعد أن هذبت؛ فالإنسان كائن «لا عاقل»، دافعه في حياته العملية هو «وجدانه»، أو هو - بلغة «فرويد» التي جرت بها الألسنة والأقلام - «لا شعوره»، أو هو - إذا شئت لفظة أكثر توقيرا - «إيمانه». فاستعرض ما شئت من شخصيات الأدب في القصص والمسرحيات (وفي هذه الشخصيات ما يصور لنا إنسان العصر) تجد كثرتها الغالبة مدفوعة في مسالكها بقوة الحب، أو الكراهية، أو الوطنية، أو الانتقام، أو غيرها مما يجري مجراها من الدوافع الوجدانية، ولا عجب أن ترى «الإرادة» لا «العقل» هي عند فلاسفة القرن التاسع عشر مثل «شوبنهور» و«نيتشه»، المبدأ الأول. وقد يأخذنا في هذا الموضع شيء من العجب؛ إذ كيف نصف إنسان العصر الراهن باللاعقل، على حين أن أوضح ما يميز عصرنا هو العلم، والعلم قائم على المنهج العقلي المنطقي الصرف؟ لكن العجب يزول إذا تذكرنا حقيقة هامة، وهي أن الصورة الثقافية في عصرنا تميل دائما نحو إيجاد التوازن بين عناصرها، فإن مال الجانب العلمي نحو العقل أكثر مما ينبغي، نهضت الفلسفة، ونهض معها الأدب والفن ليزيدا من عنصر الوجدان، وتلك هي حالنا اليوم.
ومن أهم ظواهر «اللاعقل» في عصرنا الفكري، هذه الفلسفة البراجماتية التي تسود الولايات المتحدة الأمريكية، وأعلامها الثلاثة الكبار هم «بيرس» و«وليم جيمس» و«جون ديوي»؛ ف «الحق» عند البراجماتيين هو ما يراه الإنسان كذلك في ممارسته لمشكلاته العلمية والعملية، ومن الضلال أن يبحث الإنسان عن «حق» موضوعي مستقل عنه وعن حياته هو، وأهدافه هو.
ولسنا هنا بصدد الفكرة الفلسفية في حد ذاتها، لكننا نتلمس آثارها في أدبنا المعاصر وفي صورة الإنسان الحديث، فإذا هي فكرة قد تسمو على أيدي أصحابها إلى الحد الذي يبيح لأحدهم (وهو «وليم جيمس») أن يكتب كتابه الرائع الذي يفوح بعطر الإيمان الديني (وأعني كتابه «صنوف الخبرة الدينية»)، ولكنها أيضا فكرة قد تتدهور حتى تصبح على أيدي كثيرين في أسوأ صورها، وهي أن يجعلوا «الحق» و«الدعاية» لفظين مترادفين، أفليس الحق هو ما ينفعك ويحقق لك أهدافك؟ إذن فكل ما ييسر لك سبل المنفعة وتحقيق الهدف هو الحق عندك، ولا شك أن هذا الجانب الضعيف من البراجماتية هو طابع يميز إنسان العصر كما يتبدى على صفحات الأدب، عندنا وعندهم على حد سواء.
Halaman tidak diketahui