Dalam Dunia Visi
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Genre-genre
فقال الزعيم محتارا: «إذا فالشيطان هو عم البشر وخالهم.»
فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس: «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر، ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة ولياليهم بالأحلام المخيفة. فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالقيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم. هو إله قوي، شرير، خبيث، يضحك لشقائنا، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه لنبتعد عن سبيل احتياله.»
فأسند الزعيم رأسه إلى نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن فيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله.»
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله. أما الزعيم ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.»
ووقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينيه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها. وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا، لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع. ففي بابل كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعازيمه. وفي نينوى كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر. وفي ثيب كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر. وفي بابلس وأفسس وأنطاكية كانوا يضحون أبناءهم وبناتهم إرضاء لخصمي. وفي أورشليم ورومة كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي. في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس، كان اسمي محورا لدوائر الدين، والعلم، والفن والفلسفة؛ فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي؛ فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس. أنا الشيطان الأزلي الأبدي. أنا الشيطان الذي يحاربه الناس ليظلوا عائشين، فإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا عاصفة هوجاء خرساء أهب في أدمغة الرجال وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة والصوامع؛ ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة؛ ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي؛ فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل لكي أبتعد عن مضجعه هو كالمومسة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا باني الأديرة والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة، فإن زال كياني زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري، فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة، كقيثارة الأوتار مكسرة الجوانب. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب، والنميمة، والاغتياب، والغش، والسخرية، فإذا انقرضت هذه العناصر في العالم أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور، لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا ما زالت الخطيئة زال محاربوها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك وأحفادك وزملاؤك ورصفاؤك. أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحى المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية الخالية؟ أجبني أيها اللاهوتي: هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟»
وبسط الشيطان ذراعيه وألوى عنقه إلى الأمام وتنهد طويلا، فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل. ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج، وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي وأنا جريح منازع أن لا أطيل معك الحديث. ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني، وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي. أما الآن فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان لأنازع وأموت.»
وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش ويفرك يدا بيد. وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك قال: «أنا أعرف الآن ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي. أنا أعلم بأنك موجود في العالم لكي تجرب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها. أنا أعلم الآن بأنك إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أو يكون متحذرا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة والصوم والعبادة. يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت وعرف الناس يزول خوفهم من الجحيم، فيبطلون العبادة ثم يتمرغون بالإثم؛ من أجل ذلك يجب أن تحيا؛ لأن بحياتك خلاص الجنس البشري من الرذيلة. أما أنا فسوف أضحي كرهي لك على مذبح محبتي للجنس البشري.»
فضحك الشيطان ضحكة تشابه انفجار بركان، ثم قال: «ما أذكاك وما أبرعك يا حضرة الأب! بل وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية! فها قد أوجدت بقوة إدراكك سببا لوجودي لم أكن أعرفه من قبل. والآن وقد فهم كل منا الأسباب الوضعية واللاهوتية التي أوجدتنا في البدء وتوجدنا الآن، يجب أن نترك هذا المكان. اقترب يا أخي، تعال واحملني إلى بيتك، فأنا لست بثقيل الجسم. ها قد غمر الليل البطاح بعد أن أهرقت نصف دمي على حصباء هذا الوادي.»
فاقترب الخوري سمعان من الشيطان، وقد شمر عن ساعديه، وشكل أطراف عباءته بحزامه، ورفع الشيطان فوق ظهره ومشي نحو الطريق.
Halaman tidak diketahui