Dalam Dunia Visi
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Genre-genre
في تلك الأزقة القذرة حيث يختمر الهواء بأنفاس الموت. بين تلك المنازل البالية حيث يرتكب الأشرار جرائمهم مختبئين بستائر الظلمة في تلك المنعطفات الملتوية إلى اليمين وإلى الشمال التواء الأفاعي، كنت أشعر بخوف وتهيب وراء صبي له من حداثته ونقاوة قلبه شجاعة لا يشعر بها من كان خبيرا بمكايد أجلاف القوم في مدينة يدعوها الشرقيون عروس سوريا ودرة تاج السلاطين. حتى إذا ما بلغنا أذيال الحي دخل الصبي بيتا حقيرا لم تبق منه السنون غير جانب متداع، فدخلت خلفه وطرقات قلبي تتسارع كلما اقتربت حتى صرت في وسط غرفة رطبة الهواء، ليس فيها من الأثاث غير سراج ضعيف يغالب الظلمة بسهام أشعته الصفراء، وسرير حقير يدل على عوز مبرح وفقر مدقع، منطرحة عليه امرأة نائمة قد حولت وجهها نحو الحائط كأنها تحتمي به من مظالم العالم، أو كأنها وجدت بين حجارته قلبا أرق وألين من قلوب البشر. ولما اقترب الصبي منهما مناديا: يا أماه، التفتت إليه فرأته يومئ نحوي، فتحركت إذ ذاك بين اللحف الرثة، وبصوت موجع يلاحقه ألم النفس والتنهيدات المرة قالت: «ماذا تريد يا رجل؟ هل جئت لتبتاع حياتي الأخيرة وتجعلها دنسة بشهوتك؟ اذهب عني فالأزقة مشحونة بالنساء اللواتي يبعنك أجسادهن ونفوسهن بأبخس الأثمان، أما أنا فلم يبق لي ما أبيعه غير فضلات أنفاس متقطعة عما قريب يشتريها الموت براحة القبر.»
فاقتربت من سريرها وقد آلمت كلماتها قلبي؛ لأنها مختصر حكايتها التعيسة، وقلت لها متمنيا لو كانت عواطف تسيل مع الكلام: «لا تخافي يا مرتا، فأنا لم أجئ إليك كحيوان جائع، بل كإنسان متوجع. أنا لبناني، وقد عشت زمنا في تلك الأودية والقرى القريبة من غابة الأرز. لا تخافي مني يا مرتا.»
سمعت كلماتي وشعرت بأنها صادرة من أعماق نفس تتألم معها، فاهتزت على مضجعها مثل القضبان العارية أمام رياح الشتاء، ووضعت يديها على وجهها كأنها تريد أن تستر ذاتها من أمام الذكرى الهائلة بحلاوتها المرة بجمالها، وبعد سكينة ممزوجة بالتأوه ظهر وجهها من بين كفيها المرتجفتين، فرأيت عينين غائرتين محدقتين بشيء غير منظور منتصب في فضاء الغرفة، وشفتين يابستين تحركهما ارتعاشات اليأس، وعنقا تتردد فيه حشرجة النزع المصحوبة بأنين عميق منقطع. وبصوت يبثه الالتماس والاستعطاف ويسترجعه الضعف والألم قالت: «جئت محسنا مشفقا. فلتجزك السماء عني إن كان الإحسان على الخطأة برا والشفقة على المرذولين صلاحا. ولكني أطلب إليك أن تعود من حيث أتيت؛ لأن وقوفك في هذا يكسبك عارا ومذمة، وحنانك علي يثمر لك عيبا ومهانة. ارجع قبل أن يراك أحد في هذه الغرفة الدنسة المملوءة بأقذار الخنازير، وسر مسرعا ساترا وجهك بأثوابك كي لا يعرفك عابر الطريق. إن الشفقة التي تملأ نفسك لا تعيد إلي طهارتي ولا تمحو عيوبي، ولا تزيل يد الموت القوية عن قلبي. أنا منفية بحكم تعاستي وذنوبي إلى هذه الأعماق المظلمة، فلا تدع شفقتك تدنيك من العيوب، أنا كالبرص الساكن بين القبور، فلا تقترب مني لأن الجامعة تحسبك دنسا وتقصيك عنها إن فعلت. ارجع الآن، ولا تذكر اسمي في تلك الأودية المقوسة؛ لأن النعجة الجرباء ينكرها راعيها خوفا على قطيعه، وإذا ذكرتني قل قد ماتت مرتا البانية ولا تقل غير ذلك.» ثم أخذت يدي ابنها الصغيرتين وقبلتهما بلهفة وقالت متنهدة: «سوف ينظر الناس إلى ولدي بعين السخرية والاحتقار قائلين: هذا ثمرة الإثم. هذا ابن مرتا الزانية. هذا ابن العار. هذا ابن الصدف. سوف يقولون عنه أكثر من ذلك؛ لأنهم عميان لا يبصرون، وجهلاء لا يدرون بأن أمه قد طهرت طفوليته بأوجاعها ودموعها، وكفرت عن حياته بتعاسته وشقائها. سوف أموت وأتركه يتيما بين صبيان الأزقة، وحيدا في هذه الحياة القاسية، غير تاركة له سوى ذكرى هائلة تخجله إن كان جبانا خاملا، وتهيج دمه إن كان شجاعا عادلا. فإن حفظته السماء وشب رجلا قويا ساعد السماء على الذي جنى عليه وعلى أمه، وإن مات وتملص من شبكة السنين وجدني مترقبة قدومه هناك حيث النور والراحة.»
فقلت وقلبي يوحي إلي: «لست كالأبرص يا مرتا وإن سكنت بين القبور، ولست دنسة وإن وضعتك الحياة بين أيدي الدنسين. وإن أدران الجسد لا تلامس النفس النقية، والثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحية، وما هذه الحياة سوى بيدر أحزان تدرس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطى غلتها، ولكن ويل للسنابل المتروكة خارج البيدر؛ لأن تمل الأرض بحملها وطيور السماء تلتقطها فلا تدخل أهراء رب الحقل. أنت مظلومة يا مرتا، وظالمك هو ابن القصور ذو المال الكثير والنفس الصغيرة. أنت مظلومة ومحتقرة.»
صفحات مطوية
من دفاتر حفار القبور
في هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التي أحبها قلبي.
إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقت رأسها الجميل، ومن هذه الكأس البلورية قد شربت جرعة من الخمر ممزوجة بقطرة من العطر.
كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت المرأة التي أحبها قلبي إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان.
إن آثار أصابع المرأة التي أحبها قلبي لم تزل ظاهرة على بلور مرآتي، وعطر أنفاسها ما برح متضوعا بين طيات أثوابي، وصدى صوتها لم يضمحل بعد من زوايا منزلي، ولكن المرأة نفسها - المرأة التي أحبها قلبي - قد رحلت إلى مكان قصي يدعى وادي الهجر والسلوان، أما آثار أصابعها وعطر لهاثها وأشباح روحها فستبقى في هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلي لتدخل أمواج الهواء وتجرف بتيارها كل ما تركته لي تلك الساحرة الحسناء.
Halaman tidak diketahui