فإذا تعادلت كفاءات العقل واللسان وكفاءات العزم والعمل، فليس في الميزان الإنساني أصدق من وزنة الإيثار للمفاضلة بين المتقاربين في الأعمال والأقدار.
قال صاحبي متعجبا: ومحمد عبده الذي تسنم المناصب، ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثارا من جمال الدين؟
قلت: قد تكون العزوبة مزيدا من الاعتداد ب «الشخصية»، وقد تكون الأبوة مزيدا من الإيثار.
قال: عليهم سلام الله أجمعين، سابقين ولاحقين، وراجحين ومرجوحين، فليس بالمرجوح من له الرجحان على الألوف وألوف الألوف، وإن سبقه بالرجحان أستاذ أو مريد.
وتحول صاحبي إلى صورتي، فقال وهو يردد النظر بيني وبينها: لقد سألتك عن صور غيرك، فما لي لا أسألك عن صورتك؟ كيف ترى صديقك الفنان قد مثلك في هذه الأصباغ والألوان؟
قلت: على شرطي في كل تمثيل.
وشرطي في الممثل القدير - على المسرح - أنه هو الممثل الذي يمثل لك ما لا يقال، أو هو الممثل الذي يشغل فراغ القول بين عبارة وعبارة من كلمات المؤلفين؛ لأن مصاحبة الكلمة الضاحكة بالمنظر الضاحك، أو مصاحبة الكلمة الباكية بالمنظر المحزن فن لا يعسر على الكثيرين، وإنما يعسر عليهم أن يمثلوا لك ما لا يقال بين الكلمتين أو بين المنظرين، يصعب عليهم أن يمثلوا لك ما تدركه أنت، ولا يقوله المؤلف بلسانه ولا تسمعه أنت بأذنيك.
وكذلك أرى صورتي كما صورها صديقنا الأستاذ صلاح؛ لأنه يمثل القابليات، قبل تمثيل الملامح والمحسوسات، فليس في الصورة حالة محسوسة عني بها دون غيرها، ولكن ما من حالة قد تطرأ على النفس إلا نظرت إلى الصورة، فرأيتها قابلة لها موافقة للتعبير عنها، وهذه هي ملكة الإيحاء التي تشترط في جميع الفنون، فما تحسبه الكلمات والأصباغ من المعاني أو الملامح أقل في العمل الفني مما ينطق به الخيال، أو يسترسل فيه تداعي الخواطر والأفكار.
وكان آخر ما ودعه صاحبي من المكتبة نخبة من الكتب في فن الغذاء وأقوال المحدثين عن وحدات الحرارة والفيتامينات، وأول ما استقبله وهو منصرف عنها باب المطبخ على اليمين، فنظر فيه ضاحكا، وبادرته سائلا: إنك الآن تضحك؛ لأنك في حل من المقارنة بين طعام العقول وطعام الجسوم!
قال: غير هذا قد خطر ببالي حين ضحكت، وإنما ذكرت قولة لصديق لي كان يستعيدها في مناسباتها كما تستعاد الحكم المحفوظة، ولست أدري كيف أطبقها في هذا البيت، فإنها غير قابلة فيه للتطبيق.
Halaman tidak diketahui