Dalam Waktu Lapang
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genre-genre
من يوم سافرت من مصر ودخلت البيت هنا لم أخرج إلا مرة واحدة رغما عما كنت أؤمل من أن أجد حرية أوسع تسمح لي أن أمرح في الهواء والفضاء؛ ولهذا قد بدأت أمل الريف وسكنى الريف مع ما أجد من وداعة الناس الذين أعيش بينهم والفلاحات اللاتي يترددن علي من وقت لآخر. فكل ما رضي به عمي أن أصحبه مرة إلى جرن قريب منا، وأن نبقى فيه معا حتى منتصف الليل. وهي هاته المرة التي تجعلني أتردد في التصميم على الرجوع لمصر ثانيا، أو أن أبقى هنا أسبوعا آخر، عل المصادفة تحقق أملي وأخرج مرة أخرى ولو إلى هذا الجرن القريب.
ولقد كانت أكبر آمالي في هذه المرة الأولى التي خرجت فيها أن أجدك إلى جانبي؛ لنتمتع معا بما كنت أشاهد. وأما الذي أود أن يكون معي في المرة الثانية، فهو شخص لا أعرفه ولكني أتمثله أمامي في كل ساعة من ساعات وحدتي وخلوتي.
إنني أريد أن أشركك معي في السرور الذي نالني من وراء هذه الفسحة الصغيرة. غير أني آسف لعدم استطاعتي أن أصل مهما جاهدت إلا إلى قليل لا يكاد يذكر مما رأيت. وعلى كل حال فأحسب من واجبي أن أقول لك كل شيء كما اتفقنا ليلة سفري.
خرجنا بعد العشاء فإذا السماء منثورة فيها النجوم ولا بدر بينها، تلبس الجو رداء من الليل والظلمة، وتدعنا نجد الصعوبة في تلمس الطريق، خصوصا أنا التي لم أعتد هذه الأماكن ولا مشت قدماي في هاته السكك من زمان طويل مضى. ولكن عمي لم يجد وقتا أنسب من هذا لنخرج فيه خيفة أن يرانا أحد أو تقع علينا عين إنسان. واتخذ بنا جانبا من الطريق يدل ما فيه من التراب، على أنه غير الجانب الذي يمشي الناس منه ويدقونه بأقدامهم. وسرنا وكأن على رؤوسنا الطير لا ننبس بكلمة ولا نحدث صوتا حتى خرجنا من بين جدران البلد الواطئة التي تزيد بسوادها سواد الليل ولا تنم عن شيء مما في جوفها. ولقد هالني الصمت المطلق الذي بقي محيطا بنا حتى كنا على مقربة من غايتنا. وأحيى الصرصار بصفيره السكون الأخرس.
برغم الظلمة المحيطة بنا تبينت على مقربة شيئا أشد من الليل سوادا، وهو قائم كأنه ينتظرنا. فعرتني لمرآه قشعريرة الخوف، ولم أتمالك أن قطعت سكوتنا بسؤال عمي عنه. فأجابني أننا صرنا عند الجرن، وأن هذا الأسود عرمة من تبن القمح لم يذر بعد. ثم رجع السكون والسكوت إلى ما كانا عليه، وجعلنا نسمع في صمتنا صفير الصرصار ونقيق الضفدع.
ولما وصلنا وجدنا نوارج الدراس مفرقة في نواح مختلفة قد تركها العمال بعد أن انتهى عملها. فاتخذناها مقاعد، وجلس عمي وابن عمي على أحدها، وجلست وفتاة ريفية على آخر، وتفرق الباقون حيث أرادوا. فلما أحسست بها إلى جانبي ووجدتها ساكتة لا تتكلم أردت أن أفاتحها الحديث. ولكن ابن عمي لم يمهلني أن أتى فوقف إلى جانبنا، وسألني إن كنت أريد شيئا فالحديقة قريبة. فإذا كنت أفضلها ذهبنا إليها. فأجبته أني راضية بمكاني مسرورة بجارتي. هنالك شعرت بالفتاة تضم نفسها إلي كأنها لم تجد ما تشكرني به إلا هذا. ووجدني ابن عمي قد سكت فلم يجد جديدا يقوله، وتركنا وانصرف.
رأيت السماء تبهت، وحدقت إلى جهة القرية فإذا الشرق يلمع بشيء من النور، وإذا القمر من فوق أبنيتها يحبو مبطئا وكأنه منهوك متعب. واجتليته فإذا نحوله قد قضى على بعضه. ولكنه مع ذلك أرسل على هذه الأكمات من التبن إلى جانبنا نورا انجلت فيه لمعتها، وملأ الجو من شعاعه بلجة تركته وكله أحلام هادئة. والنسيم العذب يبعث في النفوس من لذته ما يتركها نشوى خادرة.
اعتلى القمر وثبت بين النجوم، وكلما حددت النظر نحوه رنا إلي بعين ساهية، وخيل لي من شدة نحوله أنه سيقع بين أحضاني. ولا أدري لعلي فتحت ذراعي أريد أن أستقبله. فقد أحسست مرة واحدة بالفتاة تطوقني بذراعيها وتجذبني نحوها، ثم ابن عمي يجري نحوي ويمسكني بين يديه كأنما خافا أن أقع من مكاني ... وهل أقدر أن أخبرك عن السرور الذي شعرت به لهذه الضجة بعد أن وصلت إلى أعماق فؤادي نظرات القمر؟ ... وتركوني أحدق لمحبوبي في السماء؛ حتى ظن عمي أن السكة انقطعت من عليها الرجل. حينذاك دخلنا.
ولكني من يومها مشتتة البال أريد بدل محبوب السماء محبوبا على الأرض، محبوبا من بين بني آدم. إنسانا أحبه ويحبني.
من أجل ذلك أخبرتك أني أود أن يكون معي في المرة الثانية شخص لم أعرفه بعد، ولكنني أتمثله أمامي ... أود أن يكون ذلك المحبوب إلى جانبي، فينظر إلينا القمر نظرة مهنئ أو حاسد، لا نظرة مشفق ولا متألم.
Halaman tidak diketahui