Dalam Waktu Lapang
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genre-genre
ولم يقف أناتول فرانس عند قرض الشعر، بل ظل بحكم نشأته بين الكتب في مكتبة أبيه مغرما بالكتب عظيم الشغف بها والمحبة لها. وكما يود المحب أن يقدم لمحبوبه أجمل الهدايا، كان هو يود أن يهدي الكتب ما يعجبها ويلذها. فشارك في وضع فهرس نشر تحت اسم
Bibliophil illustrè . ثم نشر لمحبي الكتب مؤلفات راسين وكتاب العفريت الأعرج للساج ومؤلفات موليير وغيرها من الكتب، بعد إذ علق عليها جميعا بشروح جليلة الفائدة.
وفي سنة 1887م تولى قسم النقد الأدبي في جريدة الطان. فلم يقف نقده عند ما كان يظهر من الكتب. بل كثيرا ما كان يتناول كتبا قديمة، وكثيرا ما رجع إلى شعراء الرومان واليونان وكتابهم يتحدث عنهم إلى قارئيه، ويتحدث وإياهم عن زمانهم ويشرك قارئيه معهم في الحديث. وكان حديثه يخلق من مقالاته في النقد «صالون» أدب، يأوي إليه الكتاب والفلاسفة قدماء ومحدثين.
ومن ذلك التاريخ بدأ أناتول فرانس يهجر الشعر ويظهر في ثوب جديد. وكان ثوبه هذا أكثر جمالا وبهاء من شعره، ومن ذلك التاريخ قيل عنه: «مهما يكن من فضله كشاعر فقد عقد له لواء المجد عن حق كمتحدث ذي ظرف وكياسة.» لبس ثوب المحدث في كتبه وفي قصصه وفي رواياته، وظل مرتديا إياه لم يخلعه إلا أمس حين عقل الموت قلمه ولسانه. •••
كان فرانس إذن باريسي المولد والنشأة. وكان في مكتبة أبيه يقلب ما يشاء من كتب ونقوش وصور. وباريس عالم يموج بكل صور الحياة؛ ماضيها وحاضرها. اجتمع فيها جلال القديم وبهاء الحديث؛ تتحدث إليك مدارسها ومتاحفها؛ تناجيك طرقها وبساتينها بكل ما قد يجول بنفسك من حديث أو نجوى. كل سؤال لك فيها له جواب. أتريد أن ترى الملك وعظمته؟ إذن فاقصد إلى فرساي فناج هذه التماثيل المنتشرة في كل مكان محدثة عن جلال الملك وسلطانه. أتحب الديمقراطية والجمهورية؟ هذه الحياة هناك فيها كل مظاهر الديمقراطية من حرية ونشاط. وكل مظهر للملك وكل أثر للحرية تجد منه ما تحب في هذه المدينة. والكتب عالم أوسع من باريس وأطول من الحياة. أليس قد اجتمع في صحفها ميراث الماضي جميعا! هذا الماضي الذي لا نعرف أوله وكلما كشفنا منه عن جديد أودعناه بطون الكتب. فكيف يكون حال رجل نشأ في هذين العالمين - باريس والكتب - إذا كان القدر قد وهبه نفسا تتسع لهما وتفيض عنهما، ووهبه قلبا شاعرا يحبهما ويشغف بكل ما فيهما.
تلك كانت حال فرانس. أحب ما في باريس وما في الكتب من حياة الماضي والحاضر؛ وكان حبه لهذه الحياة أول شبابه قويا ينبض به قلبه. لكن قلبه كان رفيقا وإن نبض؛ لأن قلبه كان في حكم عقله وتحت سلطانه. فلما آن للشاعر أن يضع قيثارته ليترك المكان للمحدث الكيس الظريف كان حب فرانس قد شمل الحياة جميعا. والحب إذا اتسعت دائرته كان لطيفا رقيقا؛ كان حبا يزنه العقل ولا تلهبه الشهوة؛ كان حب الأب لأبنائه الكثيرين لا حب الأم لطفلها الوحيد: هذا الأب الذي يبتسم مغتبطا لابنه المجد، ويبتسم مسرورا لابنه الثاني حاضر البديهة، ويبتسم فرحا بالطفل الصغير يتعثر حين يجري يريد أن يمسك فراشة أمامه. لا تلك الأم التي تخاف على صحة ابنها إن جد، وتخاف عليه الحسد إن بدا ذكاؤه، وتخشى عليه الخطر إذا تعثر. وهل كان لفرانس أن يرى في الحياة خيرا أو شرا؟! وما حكمة الحكيم إذا ظل يخضع للشهوة خضوع الجاهل لها؟!
كانت حكمة فرانس إذن باسمة؛ لأنها كانت محيطة بحياة العالم بل بحياة العوالم؛ وكانت ترى في كل شيء عذره؛ وكانت لا تعرف شيئين متناقضين: أليس الخير والشر جميعهما أعمالا لبني الإنسان؟ وهل بينها من فرق إلا ما بين الزيتون الأخضر والزيتون الأسود من فرق في اللون على تقاربهما في الطعم؟ لكن الخير يجب أن يكون، والشر يجب أن يكون، كما يكون الوجود والعدم والماضي والمستقبل. ويجب أن لا يعرف الناس أن الوجود والعدم لا فرق بينهما؛ وأن الماضي والمستقبل لا وجود لهما. بل فليعرفوا فلن تغني عنهم معرفتهم شيئا.
على أن هذه الحكمة الباسمة إلى حد السخر بما في الحياة لم تدفع صاحبها يوما إلى التخلي عن الحياة والزهد في الناس. بل لقد كان فرانس يحب الإنسانية حبا جما. وكانت قاعدة الحياة عنده العبث بالناس والإشفاق عليهم. لكن عبثه بهم كان بريئا وإشفاقه عليهم كان عظيما. نكبت روسيا بالمجاعة بعد قيام الحكومة البلشفية فيها، وأعطي فرانس جائزة نوبل وقدرها اثنا عشر ألف جنيه فوهبها لمنكوبي المجاعة من الروس. وكثيرا ما دعاه إشفاقه على طبقات العمال والبؤساء إلى أن يحتمل من أجلهم مشقة وعنتا.
لم يتخل فرانس عن الحياة ولم يزهد العمل، ولقد يدهشك أن تعرف أنه كتب أكثر من خمسين كتابا كلها حكمة بالغة. وقد يزيدك دهشة أن تعرف أنه لم يخط في هذه الكتب سطرا من غير أن يزنه أحكم الوزن ومن غير أن يختار له أسلس اللفظ وأفصحه وأمتنه. ذلك بأنه كان يرى النبوغ نتيجة جد وسعي متواصل لتنمية هبة تخلعها الطبيعة على مختاريها. فأما الذين يكتفون مما تهبهم الطبيعة ببريقه فأولئك لا ينبغون ولا يعرف الناس لهم قدرا. •••
واليوم ارتضى أناتول فرانس أن يموت بعد إذ خلف للإنسانية ميراثا يبقى جديدا على كل زمان جديد. واليوم ينتقل فرانس من بين ذويه وأهله ليبقى خالدا بين الناس جميعا. واليوم تتبادل عوالم العلم والفن والأدب والحكمة التعازي فيعزيها: إن فرانس خلدت حكمته، ومن خلدت حكمته لا يموت.
Halaman tidak diketahui