1
مقدرين الخصائص الفطرية التي حبتها الطبيعة إياها، ومازتها بها عن سواها؛ فتأثر بها قاطنوها، وتأثرت جوانب حياتهم المعنوية بتلك المزايا. ثم بغيرها من جوار، ونقلة، واتصال، وأخذ ووراثة ... إلى آخر تلك المؤثرات على نواحي النشاط المعنوية للجماعة الإنسانية. ويكون ما عرفه أصحاب أولئك البيئات سبيلا لمعرفتهم، ما نال حياة العربية في منزلها بينهم، حين طرأت على ذلك القديم المستقر والميراث المتلقى.
وسيدرك هؤلاء الأدباء بهذا الدرس أن اللغة من حيث هي مادة القول، قد أخذت من لغات الحديث ولهجاته التي خالطتها، وكان لها معها صراع يختلف في كل موطن ومنزل عنه في غيره من المواطن والمنازل، باختلاف القوى الحيوية التي تسير حياة هذه الجماعة، إذ كانت معنوية البيئة المغربية غير معنوية البيئة العراقية والمصرية ... إلخ.
وسيرون أن العربية بذلك قد ماتت فيها كلمات وأهملت فيها كلمات أخرى، وحببت إلى المتكلمين كلمات غير أولئك. وأن العربية في مصر قد تخلفت عنها بفعل الزمن ونواميس الحياة اللغوية لغة عامية خاصة. وسيدرك هؤلاء الأدباء أن أصحاب العربية أنفسهم قد اختلفت قبائلهم وأنسابهم، فيما نزلوه من تلك المنازل؛ فكانت في مصر قبائل، وفي الشام قبائل، وفي المغرب قبائل؛ فغلبت بهذه الكثرة والقلة لهجات من العربية دون لهجات، وكلمات دون كلمات، إذ تبعت أهلها وناطقيها طبعا.
وسيدرك هؤلاء الأدباء حين يدرسون بيئتهم الخاصة أن أساليب بعينها قد تقبلها ذوق الإقليم دون أساليب، وأن فنونا من القول الأدبي شعره ونثره، قد راجت دون فنون أخرى من ذلك، حين تبع هذا ولا مراء، مزاج أهل الإقليم، وأصحاب البيئة، سواء في ذلك الأوائل الأصليون، أو من سكنوا تلك البيئة من الوافدين الطراء عليهم.
وسيكون أهل كل بيئة أقدر - كما بينا - على تتبع ذلك وتلمسه، واستشفاف الخفي الغامض منه، حين يحتاج تفطنه إلى قوة نفسية، ومقدرة وجدانية، هم ورثتها وحملتها.
وسيدرك هؤلاء الأدباء حين يدرسون منطقتهم - في العصر الإسلامي نفسه - أن نصيبها من النشاط الديني والعقلي والأدبي في الإسلام قد تفاوت - ولا بد - عن نصيب غيرها من الولايات أو الأقاليم الإسلامية الأخرى؛ إذا كانت تلك حاضرة دولة عصرا ما، وتلك لم تكن، وكانت هذه جارة قريبة لمستقر السلطان والحكم، حين كانت تلك جارة بعيدة نائية، وهكذا.
وما إن ننكر أن لهذه الحضارة الإسلامية أنماطا موحدة، وأصولا عامة كبرى، قد تأثرت بها تلك البيئات المتعددة المتباعدة تأثرا متشابها ومتحدا، يمكن من تعميم القول، وإطلاق الحكم. ولكن ذلك هو ما لا نقبل أن يكون مصدر انخداع، يصرفنا عن إدراك الزائد الخاص الذي تفردت به كل بيئة تفردا ليس هينا ولا يسيرا في حساب البحث الدقيق والنظر المتمعن. •••
وبالذي وصفنا من دراسة كل قبيل لموطنهم، مع ما تلتقي فيه تلك المواطن من تأثر بالأصول العامة المشتركة، يمكن أن يكون بين أصحاب البيئات المختلفة ألوانا من التعاون والتفاهم، وتبادل الفوائد الثقافية والنتائج الدراسية، تبادلا تتوثق به الصلة بين تلك الأقطار المتجاورة، والجماعات المتحابة، على أساس من الفهم الصحيح للواقع، لا عن ضرب من الدعوة الساذجة لصلة مبهمة متوسعة.
ومن هنا يمكن أن تكون الموضوعات الإنسانية، والمعاني الأدبية العامة، التي عرفها الأدب العربي في تلك المنازل المتعددة، موضع الدراسة المتعاونة بين أصحاب البيئات العربية الإسلامية المختلفة، يبينها كل منهم، ويتحدث بها من عرفها إلى غيره من بني عمومته، فيفهم عنه ويستفيد بدرسه.
Halaman tidak diketahui