وما الحياة في بيئة ما إلا وحدة لا تنفصم ، مهما تبد في نظر السذج، وإدراك الأغمار، مقطعة مبتورة، لا يتصل فيها سابق بلاحق، ولا يرتبط منها آخر بأول. ومهما تحمل العصبية الهوجاء، وفي إدراك معنى التدين وحقيقة الإيمان، وقوة أثر الإسلام على الاطمئنان إلى شيء من هذا والتمسك به، فإن هذا وشبهه لن ينفي حقائق الوجود الإنساني، ونظم ذلك الكون الدنيوي الثابتة المطردة.
بل إننا لنقول هنا - وإن يكن ذلك استطرادا - إن هذه الصلة قائمة معقودة بين الأديان نفسها في أسس إيمانها، وأصول اعتقادها، وقضايا تكليفها، على نأي الدار وبعد الأقطار، فما يباين فيها دين دينا، ولا تحاد ملة ملة، ولا تتقاطع شرعة شرعة، إنما هي ظواهر اجتماعية للحياة الإنسانية تشترك فيها جميعا، على اختلاف يسير أو كثير لا يغير الجوهر. وقد أصبحت تلك القضايا في سير الحياة أهون من أن يوقف عندها، ويجدد القول فيها؛ لأنها من الأصول العامة في ثقافة هذا العصر المستنير. •••
وإذن فسندرس مصر المسلمة على أنها امتداد لمصر التي قبلها على اختلاف لغتهما، واختلاف دينهما، وتغاير فنهما؛ لأن الشخصية هي الأصل الثابت والمدار المستقر لكل هذه التدرجات والانتقالات. وهنا يكون كل ما نعرفه عن هذه الشخصية المصرية التي يتنفسها الوادي نسيما، ويشربها نيلا، ويخلدها آثارا، ويتناقلها وراثة، ويخلقها تراثا، وتحميها على الدهر قوى، لم تشب بشيب الزمن، ولم تهن لتطاول العمر؛ فكل ما نعرفه عن هذه الشخصية لمصر هو العدة والعتاد لنا في دراسة الأدب المصري وتاريخه، وقوتنا في ذلك هي كل ما نتأثله من جهاد دارسي الآثار المصرية، وكاشفي أسرار اللغة المصرية، ومذيعي خفايا الحضارة المصرية، العملية والعلمية والفنية، ومرتقبي خطى الفن المصري في تلك الحقب، ومميزي مظاهره ومعالمه المبينة له، وكاتبي التاريخ المصري كتابة علمية على المنهج الذي رنونا إليه، فيما مضى من حديث عن التاريخ وتناوله. كل أولئك مما تؤسس عليه دراسة هذا الأدب المصري وتاريخه في العصر الإسلامي.
وإذا ما كانت الدراسة الأدبية دفعا لحاجة قومية معنوية، وتوجيها مسددا لحياة الأمة الفنية، وكان أصحاب الجامعة أقوى الناس شعورا بهذه الحاجة القومية المعنوية، وأقدر الناس على التوجيه الرشيد لحياة أمتهم الفنية؛ فقد حق على أصحاب الدراسات المصرية المختلفة
1
أن يتبادلوا فيما بينهم هذا التعاون الوثيق، على تجلية الشخصية المصرية من جوانبها ومظاهرها المختلفة، وفي عصورها المتطاولة، وآخرها هذا العصر الإسلامي، الذي امتد بنا إلى اليوم، ويمتد بعد ذلك إلى ما شاء الله. •••
كذلك تقضي فكرة الإقليمية بأن يكون المنهج الصحيح للدراسة الأدبية قائما على الصلة الوثقى، بين أدوار الحياة في البيئة الواحدة، ولا يكون ذلك إلا بأن تستوثق الصلة بين أصحاب المصريات على تنوعها، فيرتبط دارسو الآثار المصرية، والتاريخ المصري، بدارسي الأدب المصري وتاريخ الأدب المصري في هذا العهد الإسلامي، ونلتزم نحن بأن نقيم ما نزاوله من تلك الدراسة على نتائج دراسة واسعة الآفاق، بعيدة المدى، تمس أعرق العصور قدما، وأبعدها عهدا؛ لنقتبس ونستعير نتائج درسها، وثمار عملها، ونعتمد عليها في فهم سير الزمن، وتنقل الحياة، تنقلا فنيا وغير فني.
وقد يبدو للمستسهلين الذين يريدون لينالوا القمر وهم قعود - وما أكثرهم فينا - أن هذا الوصل المرجو بين دارسي المصريات كلها إنما هو لون من العنت، نرهق به دارسي الأدب المصري وتاريخه، ونضع في طريقهم صعاب العقبات، على حين أن الأمر أيسر من ذلك وأهون، فهذه دنيا وتلك دنيا، وهؤلاء ناس وأولئك ناس، ودون ذا ويدرس الأدب المصري.
فنقول لهم: أما الصلة بين هذا كله مهما تتباعد فروعه فوثيقة وطيدة بلا شك، وأما العنت بملاحظتها والتزامها فنعم، لكنا مهما يكن لهذا الإعنات والإرهاق من أثر يثقل خطانا، ويؤخر أثمار دراستنا، فلن ننسى أن هذه هي الحقيقة، ولن ننسى أن هذا هو الواجب، وإن يكن عبؤه ثقيلا، بل سنحمل أنفسنا على أشق من هذا، ونطمع في أن يكون لمصر من أبنائها من يتخصص في درس جانب من حضارتها وحياتها القديمة، منذ عهدها الأول، ليسخر معرفته المستفيضة لهذا الجانب فيتابع نماءه، وامتداد الحياة به في مصر الإسلامية إلى اليوم، إيمانا منا بوثاقة الصلة، ويقينا بقدسية هذا الواجب. ولا غرو، فإنما هي آمال أمة، وأماني شعب متحضر، يدرك مشقة تكاليفها، ويصمد في صبر للوفاء بها. •••
سيقول المتعجلون من الناس وماذا بقي لكم من العمل إذن، ما دام هذا الأساس البعيد الغور، لم يوضع بعد، ولستم أنتم الذين تضعونه؟! فتربصوا حتى يفرغ أصحاب الآثار والتاريخ القديم من الدرس الأوفى لأدب مصر الأول، ثم تقدموا أنتم بعدها لدراسة أدب مصر الإسلامي المتأخر.
Halaman tidak diketahui