"ولما جاء العشاء، وجلس الكل على المائدة, وكان جلوسهم بغير فائدة؛ إذ كان لكل شأن يغنيه، وشاغل يشغله ويلهيه، ويأكلون قليلا، ولا يقولون قليلا، ثم # ما أسرع ما قامت ورد جنة أولا، وجلست في مكان غير بعيد في الخلاء، فتبعها قبول، وجلس بجانبها، ومكثت تراقبه, ومكث يراقبها، وانقضت عليهما ساعة، وهما ساكنان، ولبعضهما ملتفتان.
وكانت ليلة نيرة، ذات سماء مقمرة، زائدة الإتحاف والألطاف، لا يرسمها رسام, ولا يصفها وصاف، قد نزل البدر منها منزلة القلب، ونشر أشعته على الشرق والغرب، فما يستره إلا أثر الضباب، وبعض سحاب، كأنه حين تجلى على بساط الخضرة، بدر عليه من الفضة بدرة، وكان الريح ممسكا نفسه، والليل مطلقا همسه، فلا يسمع في الغابات ولا في الوديان، لا صوت إنسان ولا صوت حيوان, إلا مناغاة الطيور في أوكارها، ومداعبتها مع صغارها، مسرورين بضيائه، وسكون الجو في جميع أرجائه".
وكان عثمان جلال كثيرا ما ينطق قبول وورد جنة بالشعر العربي الفصيح, مع اعترافه بأنها "لم يتعلما الكتابة ولا القراءة" بل نشأ على السذاجة والبراءة، فلا يفكران في أزمان مضت، ولا ليال انقضت، بل قام بعقولهما الصغيرة، أن الدنيا قد انحصرت في هذه الجزيرة، وأن لا لذة لهما فوق لذتهما، ولا شغل إلا حب أمهاتهما"1.
ومن ذلك الشعر قول ورد جنة، تذكر لهف الأمهات على أولادهن، ولذلك قبل أن تسافر إلى خالتها لتبتدئ تعلمها الدنيا:
يا ويح قلبي على نساء ... قد لقبوهن بالأمهات
يحملن طول الزمان هما ... على البنين أو البنات
وكل خير لهن ماض ... وكل ضير لهن آت
ما تم حظ لهن إلا ... بدله الله بالممات # فقال لها قبول, وقد أحسن أن يقول:
Halaman 111