بدأ على يد المصلح السويسري «أولريخ تسفنجلي
Urich Zwingli » (1484-1531م) رد فعل محافظ على آراء لوثر الفنية في الموسيقى. ولقد كان تسفنجلي شاعرا وموسيقيا لحن أغنيتين من تأليفه هو ووزعهما على أربعة سطور لحنية لأربعة أصوات، بل لقد كان يعزف على الآلات كلها تقريبا. ومع ذلك فإن طبيعته الشاعرية، وبراعته الموسيقية الفائقة لم تمنع روحه الدينية الصارمة من أن تتعمد ترك الأرغن في زوريخ يحطم، بينما وقف عازف الأرغن يشاهد المنظر وهو يبكي عجزا. وقد ازداد كالفان تطرفا في هذا الموقف السلبي عن الموسيقى حين أخذ على عاتقه تقويم نظريات لوثر في وظيفة الموسيقى في الكنيسة والبيت، وكان تسفنجلي وكالفن معا يخشيان أن تؤدي الموسيقى إلى تحول أنظار المؤمنين عن الهدف الحقيقي للدين.
وتتلخص فلسفة «جان كالفان
Jean Calvin » (1509-1564م) الموسيقية في قوله إن الموسيقى «لو أديت على الوجه الصحيح لأتاحت للناس الترويح عن نفوسهم، ولكنها يمكن أن تؤدي إلى إثارة الشهوات ... وعلينا أن ننتبه جيدا، حتى لا تؤدي بنا الموسيقى إلى إطلاق العنان لروح الانحلال، أو إلى بعث الطراوة والرخاوة في نفوسنا حين تغرق في متع لا ضابط لها.» وعلى حين أن لوثر لم يستبعد تماما، في أي وقت من الأوقات، الشعائر الموسيقية للكنيسة الرومانية، فإن أتباع كالفان لم يسمحوا بأية موسيقى دينية في صلواتهم فيما عدا غناء جمهرة المصلين. وكانت الأغاني الشعبية الفرنسية والإيطالية والألمانية، التي كانت في معظم الأحيان ذات طبيعة حسية مثيرة للغرائز، قد وجدت طريقها إلى قداسات الكنيسة الكاثوليكية، حتى فترة متأخرة من القرن السابع عشر. ومن هنا فإن أتباع كالفان لم يكتفوا بالقول إن مثل هذه الموسيقى، مهما عدلت وفقا لمقتضيات الشعائر، لا تساعد أبدا على إثارة الأفكار والمشاعر الدينية، بل لقد ذهبوا إلى أنها شريرة أصلا؛ إذ إنها تؤكد العنصر الجسدي والدنيوي بدلا من العنصر الروحي المقدس.
وهكذا أخذ المتعصبون الدينيون وأعداء البابوية في سويسرا يهاجمون الكنائس والأديرة لتطهيرها من آخر آثار «الكاثوليكية»، فحطموا آلات الأرغن حتى يستحيل العزف عليها ثانية، ومحوا رسوم المذابح والجدران، حتى لا يخلط المؤمن بين الرمز التصويري وبين ما يمثله الرمز بالفعل، وحطموا التماثيل حتى لا يعبد المؤمنون صورا منحوتة، بل لقد سجنوا الموسيقي «لويس بورجوا
Louis Bourgeois »؛ لأنه غير ألحان عدة مزامير دون إذن.
ولقد كانت ثورة لوثر على الكنيسة الكاثوليكية راجعة إلى فوارق نظرية وعملية في المسائل اللاهوتية، ولكن لم يمض وقت طويل، حتى أدى التعارض السياسي والاجتماعي بين الكاثوليك والبروتستانت إلى تقسيم أشد حدة للمسيحية إلى جماعتين تعادي كل منهما الأخرى، وقد طبق رجال الدين البروتستانت على الموسيقى نفس المقاييس الصارمة حاولوا بها فرض القوانين الأخلاقية، وتنظيم ملابس أفراد طائفتهم وعاداتهم.
وقد نمت لدى أتباع كالفان كراهية متزايدة للقداس والأرغن، وامتد تأثير هذه الكراهية بمضي الوقت إلى اللوثريين. وكان الكالفنيون يتسامحون مع الموسيقى على مضض، بل إنهم أصبحوا ينظرون إليها بمضي الوقت، على أنها نكبة ولعنة بابوية. وبينما ظلت الشعائر اللوثرية تسمح بغناء الألحان الدينية بنصوصها الدنيوية دون أي قيد، فإن الكالفنيين رفضوا هذا النوع ذاته من الألحان، وبدءوا يؤلفون أناشيدهم الدينية الخاصة على أساس المزامير وحدها.
وقد حبذ كالفان، في مقالاته لإصلاح الكنيسة عام 1537م، قيام جمهور المصلين بغناء المزامير في الصلوات العامة. وبعد أن طرد من جنيف في عام 1538م استوطن مدينة ستراسبورج؛ حيث حاول مجاراة لوثر بجمع مجموعة من الأناشيد والمزامير الدينية لكي تستخدم في كنيسته. وكان كالفان يرى أن شعائر الكنيسة الإصلاحية ينبغي أن تتركز حول الموعظة، حتى يمكنه بالموعظة تعليم الكتاب المقدس وتفسيره. ولما كانت المزامير جزءا من الكتاب المقدس، فقد وجد كالفان لها مكانا في شعائر الصلاة؛ إذ كان يدرك أن الكتاب المقدس يمكن أن يصبح عن طريق الإنشاد أكثر تشويقا للإنسان منه عن طريق الموعظة. وقد حرص كالفان بشدة على أن يحمي الكنيسة الإصلاحية من أن تقع ضحية الطقوس المسرحية للكنيسة الكاثوليكية، فأكد أن من الواجب أن تخلو الصلاة من أي زخرف فني، وأن تقتصر، من الوجهة الموسيقية، على غناء الموجات المنظومة للمزامير وغيرها من فقرات الكتاب المقدس. وقد ظل كالفان متمسكا بالرأي القائل إن من الواجب أداء الصلوات باللغات القومية، حتى يفهمها كل من أقبل ليصلي ويتعلم.
وعلى الرغم من أن كالفان رفض أن يعترف بأي نوع من الموسيقى فيما عدا الغناء البسيط لجمهور المصلين، فقد سمح ببعض التلحينات البوليفونية للنصوص الدينية، وهذه لا يسمح بغنائها إلا في البيت، ومع الأسرة والأصدقاء، لا لمجرد المتعة الفنية، بل لأغراض الإرشاد والتسبيح بحمد الله. وقد دعا كالفان جميع الموسيقيين البروتستانتيين إلى تكريس مواهبهم لإعلاء كلمة الله بتلحين المزامير موسيقيا. غير أن الشروط الجمالية الدينية الصارمة التي فرضها كالفان على الملحنين أدت في معظم الأحيان إلى قصر جهود الموسيقيين الخلاقة على وضع تآلفات هارمونية بسيطة للمزامير.
Halaman tidak diketahui