Fayd Khatir Bahagian Pertama
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genre-genre
ضئيل الجسم، صغير الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرجل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بحظ، تنبو عن مرآه الأحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار؛ وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب؛ خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يسود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها درك؛ إذا أوفد وال وفدا إلى خليفة فالأحنف أحد أعضائه أو رئيسه وخطيبه؛ وإذا اختلف الأمراء على الخلافة فالأحنف أول من يفكرون في اصطناعه، وإذا حزب الأمر وعظم الخطب، فالأحنف من يفزع إليه في المشورة. دوى اسمه بين المسلمين في الأحداث الأولى للإسلام، وخرج منها - على كثرتها وتعقدها واضطراب الهواء فيها - نقي السيرة يقر بعظمته من كان له ومن كان عليه، وظل اسمه علما رفيعا في نواح مختلفة على مر الأزمان؛ إن أرخت الحروب الإسلامية فأحد قادتها وغزاتها، وإن ذكرت الأخلاق فأحد أشرفها ونبلائها، وإن أرخ الأدب والخطب والحكم والأمثال فهو ابن بجدتها.
ولد قبل الإسلام، ولكن لم ينل شرف الصحبة، ووقف من أول أمره وهو فتى موقفا يدل على قوة عقله وصدق نظره، فقد أرسل رسول الله (ص) رجلا إلى بني سعد - رهط الأحنف - فجعل يعرض عليهم الإسلام؛ فقال الأحنف لقومه: «إنه يدعو إلى خير، ويأمر بخير، فلم لا نجيب دعوته؟»
وسرعان ما ساد تميما، وهي قبيلة من أعز القبائل وأقواها وأشرفها، كانت تسكن مساحة كبيرة من جزيرة العرب، وانقسمت تميم لكثرتها إلى فروع كثيرة كانت تتعادى أحيانا وتتحالف أحيانا؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يتهاجى الفرزدق وجرير شر هجاء، وكلاهما من تميم، ولكنهما من فرعين مختلفين. حاربت تميم نفسها ومن حولها في الجاهلية، وشغلت حروبها أياما كثيرة من أيام العرب؛ وكان لتميم راية في الحروب خاصة على صورة العقاب، كما كانت راية بني أسد على صورة الأسد - ثم أسلمت وحسن إسلامها، ولكنها ارتدت أيام الردة إلى أن ردها خالد بن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة.
أنجبت تميم كثيرا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيرا من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات، يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يتعلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف بن قيس في ذلك «قيس بن عاصم» المنقري التميمي، الذي قال فيه رسول الله (ص) لما رآه: «هذا سيد أهل الوبر»، وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال: أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولا حمت على تهمة، ولم أر إلا في خيل مغيرة، أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة؛ وأما في الإسلام، فقد قال الله تعالى: «ولا تزكوا أنفسكم». وقد نزل في البصرة، وتعلم الأحنف منه الحلم، ولما مات قال فيه القائل:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
خلف الأحنف قيسا في السيادة؛ وكان أبو موسى الأشعري واليا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب، فكان الأحنف أحدهم، وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة، فأعجب به عمر وقال: «هذا والله السيد!» فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.
أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعما لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشركه فيها سيد آخر؛ فسيد عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه، وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه؛ فإن نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا وثيقا: أنه منح نظرا صائبا يتعرف به المحاسن والمساوي، ومعالي الأمور وسفاسفها، وقل أن يخطئ في ذلك؛ ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة، وحمله من جهد؛ فلو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، وهي - كما ترى - نقطة ارتكاز تحمل فوقها كثيرا من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من الناس لا تحمل إلا فضيلة واحدة.
Halaman tidak diketahui