Fayd Khatir Bahagian Pertama
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genre-genre
وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته.
دخل علينا رجل قصير القامة، يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة. يتأبط كتبا كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه، بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.
وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة، ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي، فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.
ومما زادنا إعظاما له أنه لم يكتف بالدرس، بل اتصل أيضا بنفوسنا، فكان يخرج من الدرس أحيانا إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا. وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية، ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها، ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.
ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي، وينتقدنا انتقادا لاذعا لكن ظريفا.
من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.
لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم، ويصارحني أن أكبر غلطة ارتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة؛ ولكنه كان شديدا، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديدا، وكان لكل شخصيته القوية، ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادما نفسيا من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج «علي فوزي» من المدرسة، آسفين عليه كل الأسف، شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان «عاطف» أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه.
كان حساسا إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفا؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحا بل جروحا. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس «علي فوزي» وهو لا يرى أنها سهام أصلا، بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطابا بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعا في نفسه؟
ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين.
Halaman tidak diketahui