Fayd Khatir Bahagian Pertama
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genre-genre
فالصحف أخذت من جانبها تعد صفحات فيها لأنواع الثقافة المختلفة: فصحيفة للأدب، وصحيفة للعلم، وثالثة للاقتصاد، ورابعة للقانون، وخامسة للفن وهكذا، تريد بذلك أن تغني القراء عن الكتب، وتملأ شهوتهم للمطالعة والقراءة، ثم هي تجذب إليها أعلام الكتاب والأدباء والعلماء، وتطلب إليهم أن يوافوها بفصول من علمهم وأدبهم حتى يقبل القراء على صحفهم، ويرووا لذائذهم من قادتهم فلا يحتاجوا بعدها إلى الكتب؛ ثم هم يثيرون النزاع بين الكتاب في مسائل هامة، ويوقدون النيران ليزيدوا الحرب اشتعالا؛ وهي كلما اشتدت نيرانها كثر قراؤها، وانقسموا قسمين أو أقساما، وتشيعوا شيعا، فهذا مؤيد وهذا مفند، والخسران في كل ذلك على الكتب.
والمجلات من جانبها تحارب الكتب بشتى الوسائل؛ فأحيانا تستغل شهوة الجمهور بالكتابة في النواحي الحساسة فيهم، فنقدم لهم ما يشتهون، وتعلمهم منها ما يجهلون، وأحيانا تسلك سبيلا أشرف من هذا، فترفع مستواها وتصل إلى حد الكتب في بحثها أو خير منها، وتقدم لقرائها صورا جذابة، وخرائط مبينة، فتستهوي القراء، وتجذبهم إلى مطالعتها، ويجدون فيها من التنوع والتعرض لشتى الموضوعات ما لا يجدونه في كتاب؛ وأحيانا ترقى إلى أكثر من ذلك كالذي نجده في الغرب من مجلات دورية للجغرافيا وللتاريخ وللطبيعة وللكيمياء وللأخلاق والاجتماع وهكذا؛ يعكف على الكتابة فيها خاصة الخاصة، ويفخر العالم بأن المجلة قبلت مقالته فنشرتها، ويجد فيها القارىء أرقى ما وصل إليه العلم من نظريات ومكتشفات، فهي من هذه الناحية سمت على أكتاف الكتب وحلقت فوقها.
هذا قليل من كثير من حرب الصحف والمجلات للكتب. وأما حرب الكتب لها فأكبر مظهر لذلك ما نراه سائدا في عصرنا من محاولة المؤلفين الوضوح والإبانة ليصلوا بمعلوماتهم إلى أكثر الأوساط وأقلها ثقافة، واحتيالهم في أساليب الكتابة حتى يتعرضوا إلى أعقد المسائل وأعوص المشكلات، فيعرضوها في شكل لذيذ جذاب، فتشعر كأنك تقرأ قصة أو تستمتع برواية، ثم هم يشوقون القارىء بشتى الأشكال فيسمون الكتاب «قصة الفلسفة» أو يسمون كتب التاريخ «قصة الأمم» ونحو ذلك؛ ثم يودعون الكتب من الصور الملونة للمناظر العامة والأشخاص وعظماء الناس ما يسهل عليك دفع الثمن واقتناء الكتاب، وهم من حين لآخر يهاجمون المجلات بإخراج الكتب على شكل مجلات دورية، فيخرجون «دائرة معارف الأطفال» عددا في كل خمسة عشرة يوما، ويستمرون في ذلك سنوات، حتى إذا فرغوا من ذلك عجبت أن أصبح لديك كتاب ضخم في عشرة مجلدات أخذته بشكل مجلة؛ فإذا انتهوا من ذلك عمدوا إلى كتاب آخر عنوانه «خلاصة العقائد الحديثة» ومن هذا القبيل كثير.
وبعد: فأي ذلك خير للأمم؟ أن تنتصر في هذه الحرب الصحف والمجلات أم تنتصر الكتب؟ وماذا أفادت هذه الحرب؟
الحق أننا استفدنا كثيرا من هذا النزاع، وتحققت به الرغبات المختلفة، فإن صعبت قراءة الكتب في أوقات الرياضة وحين الانتقال من مكان إلى مكان، في الترام أو القطار أو البواخر، فالمجلات والصحف أوفى بتحقيق هذا الغرض، يسير ثمنها، سهل حملها، خفيفة موضوعاتها.
وإن صدعتنا الكتب أحيانا بما فيها من ثرثرة ومن صفحات لا قيمة لها، ليست إلا تمهيدا سقيما لفكرة قد تكون سقيمة، فقد نجد في المجلات المحترمة عصارة مركزة لأفكار قيمة هي خلاصة لشيء كثير ركزت في قول وجيز.
وإن أفرطت الكتب في الالتفات إلى الوراء بالبحث عما قبل التاريخ وما بعد التاريخ وثورات الأمم، وحروب الأعداء، وسيرة الملوك والخلفاء والأمراء، فالصحف كفيلة أن تلفتنا كثيرا إلى الحاضر، وتضع يدنا على الواقع، وتقفنا على العالم الذي نعيش فيه، وتعرض علينا مشكلاتنا الحاضرة. وما عملته عقول المفكرين الأحياء في حلها.
وإن غلت الكتب في أكثر الأحيان في عرض النظريات العلمية والأدبية في شكل جاف وأسلوب بغيض، فالصحف والمجلات تأخذ على عاتقها أن تصوغ ذلك كله صياغة أدبية فيها كثير من الخيال الشعري ، وفيها كثير من لباقة الأدب وطرافته.
ولئن كانت الكتب أرستقراطية في جميع نواحيها، أرستقراطية في ثمنها، أرستقراطية في معلوماتها وموضوعاتها، أرستقراطية في قرائها، فالصحف والمجلات ديمقراطية في كل ذلك. ومن أجل هذا انتشرت الصحف والمجلات، وانتصرت في عهد الديمقراطية، وكانت الكتب في أوجها وعزها في عصر الأرستقراطية.
ولكن من الحق أن نحتفظ بأرستقراطية الكتب وأرستقراطية العقول التي تتطلبها، فهؤلاء الديمقراطيون الذين يقرأون، وهذه الصحف والمجلات الديمقراطية تعيش وتنتشر وتتغذى بهؤلاء الأرستقراطيين الذين عاشوا على الكتب وأنتجتهم الكتب.
Halaman tidak diketahui