Fayd Khatir Bahagian Pertama
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genre-genre
لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . ولست أدري: لم لامهم موسى - عليه السلام - على ذلك والملل طبيعي في الإنسان، إلا أن تكون صيغة الطلب رذيلة مذمومة «فادع لنا ربك»، ليست الصيغة المؤدبة التي تصدر من المؤمنين.
من أجل هذا استعان الناس على درء الملل بالتنويع والتنقل، ولو من حسن إلى رديء؛ فاشتهوا أتفه الطعام بجانب أجوده، واشتهوا عشش رأس البر، وأكواخ أبي قير، فرارا من القصور الشامخة والبنيان المشيد؛ وروعي هذا في برامج دراسية: فخط بعد لغة، ورسم بعد حساب، ولغة إنجليزية بعد لغة عربية، دفعا للملل من الدرس ومن المدرس؛ وروعي كذلك في برنامج الحياة: فلعب بعد عمل، ومزاح بعد جد؛ وراعت الطبيعة هذا في برنامجها: فليل ونهار، وحر وبرد، وسلطان للقمر بعد سلطان للشمس، وهكذا؛ ولولا ذلك لعرا الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمل، ولفر الناس منها إلى الموت طلبا للتغيير والتنويع. •••
أخطأ الناس فظنوا أن الراحة معناها الانغماس في الكسل، والإضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أو الاتكاء على كرسي مجنح أو نحو ذلك؛ وليس هذا بصحيح دائما، ولو كان كذلك لما مل الناس هذه الراحة، ولما فروا منها إلى العمل، واستراحوا بالجد والتعب؛ إنما الراحة التغيير من حال إلى حال، من عمل إلى لا عمل، ومن لا عمل إلى عمل؛ ولو كان عدم العمل هو الراحة لكان السجن أروح مكان. ألا ترى الراحة تكون في الأشياء وأضدادها باستمرار؟ فلو ركبت سيارة من مصر إلى الأسكندرية لأحسست التعب من الركوب، وأحسست الراحة في المشي، ولو مشيت طويلا لأحسست التعب من المشي، والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم - وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول الفراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء - ومنظر البحر أبعد عن السأم؛ لأنه تغير مستمر وحركة دائمة: موجة تعلو ثم تهبط، وموجة تنكسر على الصخر أو الرمل ثم تسير إلى الشاطئ وتفنى، وتتجدد أخرى، وهكذا؛ ومنظر الأرض حظه كذلك من التغيير، فالإنسان به أسرع مللا وأقرب سأما - وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير. •••
ما أصعب الحياة الراتبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولا بد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعا من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم؛ فإذا مل الناس الأدب القديم، جدد زعماء الأدب في الأدب، وأتوا للناس بفن جديد يستروحون به؛ وإذا مل الناس نوعا من النظام الاجتماعي أتى المجددون بشيء جديد ونظام جديد يذهب بالملل ويجدد النشاط. وليس تغيير الأشياء - وخاصة عند النساء - إلا ضربا من هذا، هن أسرع خلق الله إلى الملل، وأدعاهم إلى التغيير والتجديد؛ فهن يطلعن على الناس كل عام بزي جديد والقبعات والأثواب وكل ما يتصل بهن: شعر قصير بعد شعر طويل، وفستان طويل بعد فستان قصير، وهكذا كثر مللهن فكثر تغييرهن، فرارا من السأم وطلبا للراحة لهن ولغيرهن. •••
وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القدير من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابته، حتى لا يمل ولا يمل. وخير المجالات ما استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديدا يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها، وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين لآخر في كتابها حتى لا يسأم قراؤها. وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة إلى النشاط والحركة.
وكثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل التلميذ وانصرافه عن الدرس نوع من الملل، وخمول الموظف وقعوده عن الجد في العمل نوع من الملل، والخمود السياسي والفكري والاجتماعي نوع من الملل، والرغبة في الانتحار نوع من الملل؛ وكثيرا ما يكون الميل إلى الكيوف والإدمان عليها نوعا من الملل، وكثيرا ما يكون الشقاق العائلي وشقاء المنزل والمشادة بين الزوجين أحيانا والأبوين وأولادهما أحيانا نوعا من الملل، إلى كثير من أمثال ذلك؛ وكلها أمراض صعبة التشخيص صعبة العلاج، تحتاج إلى نوع من الطب النفسي أدق من طب الأجسام، وتحتاج إلى مهارة في علم النفس لا تقل أهمية عن المهارة في علوم الطب.
من أجل هذا أصبحت الحياة فنا يجب أن يدرس، وأصبحت طريقتنا في الحياة طريقة بالية؛ وكل شيء إذا ارتقى وتعقد أصبح فنا يحتاج إلى الدراسة، وأصبحت الطريقة الساذجة فيه لا تغني. فأمهاتنا يربين أولادهن حسبما اتفق، ثم أصبحت التربية فنا؛ ومعلمونا كانوا يعلموننا كيفما اتفق، ثم أصبح التعليم فنا؛ ومغنونا كانوا يغنوننا حسبما اتفق؛ ثم صار الغناء فنا - كذلك الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق؛ ولكنها تعقدت وأصبح حل عقدها يحتاج إلى دراسة ودراسات - وأصبحت المرأة في حاجة لأن تتجدد في بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمعلم يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل أتباعه، وأصحاب الملاهي يتجددون حتى لا يملوا. والتغلب على الملل ليس من الأمور الهينة، فليس كل تغيير يصلح لإزالة السأم، إنما يصلح التغيير يوم تدرس النفس ويدرس نوع التغيير، كما يدرس المرض ويدرس نوع العلاج، ويكون الدواء طبق الداء.
في المسجد
ساقني حسن الحظ إلى الحديث مع سيدة إنجليزية فاضلة، وكان ذهني مستغرقا في برنامج «الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية». والمتحدثون - عادة - يلونون حديثهم - ولو من غير شعور - بما يشغل أذهانهم ويستغرق أفكارهم. ومهما بعد المتحدث عن الموضوع الذي يستولي عليه فسرعان ما يعود إليه، وينغمس فيه.
لقد بدأنا الحديث في الجو وانتقلنا إلى غيره، وإذا بنا نتكلم في «التربية والتعليم وشئونهما»، وإذا بي أسأل السيدة: - ما برنامج الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية في إنجلترا؟ - ليس لهما في المدارس برنامج معين ولا دروس خاصة، ولكن تلقى فيهما محاضرات في مناسبات؛ وأهم ما يقوم بهذه المهمة «الكنيسة»، فهي تنظم دروسا للشبان والشواب في هذا الموضوع، ويقوم بها رجالها، فيكفوننا بذلك مئونة الدروس في المدارس، وإلقاؤها في الكنائس يجعل لها معنى أجمل، واحتراما أوفر وطعما أحلى. •••
Halaman tidak diketahui